استخدم “المجلس الانتقالي الجنوبي” مليشياته المسلحة التي أسستها وموّلتها الإمارات، في الانقلاب على الحكومة اليمنية وليّ ذراعها لانتزاع مكاسب متعددة، رافضاً المطالب بإخراجها من عدن. وعندما شعر بأنّ الأمور بدأت تخرج عن سيطرته مع تنامي نفوذ القادة العسكريين الذين يستقوون بمناطقهم، لم يتردد في اتخاذ معالجات سريعة لتدارك الموقف، أبرزها نقل معسكرات وفصائل إلى مواقع خارج العاصمة المؤقتة عدن. واستغل “المجلس الانتقالي”، الصدام بين المليشيات المحسوبة عليه، وتحديداً بين مليشيات “الدعم والإسناد” السلفية، و”الحزام الأمني”، والذي خلّف 20 قتيلاً وجريحاً داخل أحياء مديرية الشيخ عثمان في عدن، في 23 يونيو/حزيران الماضي، لتنفيذ خطوات كانت تشكّل حتى وقت قريب خطوطاً حمراء بالنسبة له. إذ قرر نقل المعسكرات والفصائل، ولا سيما التابعة لمليشيات “الدعم والإسناد”، إلى مواقع خارج عدن، لكن الأهم أنه بدأ بتقليم أظافر الجناح السلفي الذي يشكل السواد الأعظم من قوام فصائله المسلحة، بعد صراع مصالح تفاقم منذ أواخر العام الماضي.
وخلافاً لجذور الصراع الذي تتداخل فيه مسائل مثل تقاسم الغنائم في المناصب وتكوين إمبراطوريات مالية وتسليحية، يغلب البعد المناطقي على المعارك البينية الدائرة بين المليشيات الانفصالية التي ينتمي غالبية أفرادها بدرجة رئيسية إلى منطقتين جغرافيتين هما الضالع، مسقط رأس زعيم الانفصاليين عيدروس الزبيدي وعدد من قيادات “المجلس الانتقالي”، ويافع، معقل الجماعات السلفية التي زرعتها الإمارات على رأس وحدات وألوية انفصالية، وكانت النواة الأولى لتأسيسها في عام 2016.
وكان لافتاً قيام الزعيم الانفصالي السلفي المقيم في أبوظبي، هاني بن بريك، بالإفصاح ضمنياً عن السبب الحقيقي وراء الإطاحة بقيادات سلفية من “ألوية الدعم والإسناد”، متحدثاً عن التشكيك في ولاء القادة العسكريين، وملمحاً إلى عدم إيمانهم الحقيقي بمشروع الزبيدي الانفصالي أو الخطاب المتطرف ضد مؤسسات الدولة وجهود إحلال السلام.وانهارت الثقة بشكل غير مسبوق بين مليشيات تظهر على الورقة أنها تابعة لـ”الانتقالي”، لكنها في الواقع متعددة الولاءات. ومع تنامي رقعة نفوذ ألوية التيار السلفي وتداخل الصلاحيات مع مليشيات “الحزام الأمني” داخل مدينة عدن، لم يكن أمام رئيس “المجلس الانتقالي” عيدروس الزبيدي سوى فض الاشتباك، وإصدار قرارات في 25 يونيو الماضي، فككت السطوة السلفية في “ألوية الدعم والإسناد”، وفوق ذلك، نقل مقراتها بعيداً عن عدن، حتى تخلو الساحة لفصائل أخرى لا تشكل خطراً على المشروع الانفصالي.
قوام المليشيات
عقب استعادة عدن من جماعة الحوثيين منتصف عام 2015، تفرّغت الإمارات لتكوين “الجيش الانفصالي”، ومنحت السلفيين الذين شاركوا مع قواتها في معارك عدن وأبين والساحل الغربي، تحت مسمى المقاومة الجنوبية، الدعم الأكبر لتأسيس نواة قوات جنوبية توازي مليشيات الحوثيين شمالاً.
لا يُعرف، على وجه الدقة، الحجم الحقيقي للمليشيات الانفصالية. وعلى الرغم من التصريحات التي أطلقها نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإماراتية، عيسى المزروعي، مطلع العام الماضي، والتي تحدث فيها عن تجنيد وتدريب وتجهيز أكثر من 200 ألف جندي في المناطق اليمنية المحررة، في إشارة إلى قوات “المجلس الانتقالي”، إلا أن مصادر تقول إن الرقم الحقيقي أقل من ذلك بكثير.
استغل الانفصاليون تكفل الإمارات بمرتب شهري لكل جندي، يصل إلى 1000 ريال سعودي (266 دولارا أميركيا)، لتمرير صفقات فساد مالي واسعة، وذلك برفع كشوفات تتضمن آلاف الأسماء الوهمية لجنود داخل ألوية، تبدو على الورق أنها تضم من 1500 إلى 2000 مجند، فيما الأعداد الحقيقية لا تتجاوز 200 عنصر.
ومنذ عام 2016، أسندت الإمارات للزعيم السلفي، عبد الرحمن شيخ، مهمة تأسيس ما يسمى بـ”قوات الدعم والإسناد”، فيما تم استحداث ما يسمى بقوات “الحزام الأمني” لتأمين طوق عدن ولحج وأبين والضالع، كبديل للجهاز الأمني الذي يُعنى بتأمين المنافذ ونقاط التفتيش داخل وخارج المدن.
تنامى نفوذ السلفيين داخل مليشيات “الدعم والإسناد” التي تحولت إلى 7 ألوية، كقوة ضاربة ينحدر السواد الأعظم من منتسبيها من منطقة يافع بمحافظة لحج، تليها مليشيات الأحزمة الأمنية، ثم قوات “الصاعقة”، و”لواء العاصفة ومكافحة الإرهاب”، و”ألوية المقاومة الجنوبية”، فضلاً عن المليشيات التي تمت تسميتها نسبة إلى كل محافظة يتواجد فيها نفوذ “المجلس الانتقالي”، مثل النُخب الشبوانية والحضرمية والسقطرية.
خلافاً لذلك، يمتلك “المجلس الانتقالي” مليشيات أخرى تعرف بألوية المقاومة الجنوبية، و”قوات الطوارئ”، و”لواء العاصفة ومكافحة الإرهاب”، وشرطة عدن. وهذه التوليفة تخضع بدرجة رئيسية لتوجيهات القيادي شلال شايع، الذي تم تعيينه من قبل الزبيدي أخيراً قائداً لقوات مكافحة الإرهاب، في قرار أحادي يتمرّد على القرار الرئاسي الذي كان قد عينه أواخر العام الماضي، ملحقاً عسكرياً في الإمارات، نزولاً عند رغبة الانفصاليين حينذاك. ويبرز “لواء العاصفة”، الذي يقوده أوسان العنشلي، كرأس حربة للمليشيات التي تأتمر بأوامر شايع، وتمتلك نفوذاً واسعاً داخل مدينة عدن.وبما أنّ قيادات يافع السلفية وغيرها توارثت قوات “الدعم والإسناد” وفقاً للولاء المناطقي الخالص، حاول “المجلس الانتقالي” تدارك الأمر مع مليشيات الأحزمة الأمنية المنتشرة داخل المدن فقط. وعلى الرغم من الحضور الكثيف لأبناء محافظة الضالع في مليشيات الأحزمة الأمنية، إلا أن هذه القوات أيضاً انقسمت ولاءاتها بين الزبيدي ومدير أمن عدن السابق شلال شايع، والزعيم السلفي عبد الرحمن شيخ.
وبعد تنامي نفوذ شلال شايع، ضمن قوة تحاول مجاراة النفوذ اليافعي المهيمن على ألوية الدعم والإسناد، وجد الزعيم الانفصالي عيدروس الزبيدي نفسه بلا قوة عسكرية وأمنية تدين له بالولاء التام وتكون يده الطولى في تنفيذ توجيهاته، فذهب إلى إنشاء مليشيات خاصة عُرفت في ما يسمى بـ”ألوية الصاعقة”. أسند الزبيدي قيادة هذه الألوية لشخصيات مقربة منه وتنحدر جميعها من الضالع. وخلافاً لتمركزها الرئيسي في مدينة عدن، شاركت هذه المليشيات في المعارك ضد القوات الحكومية بمحافظة أبين منتصف عام 2020، وكذلك في معارك شمال الضالع ضد الحوثيين. سعى الزبيدي لجعل ألوية الصاعقة هذه قوة ضاربة؛ عدداً وتسليحاً، وتم توزيعها على أكثر من 15 لواءً، إلا أنّ مقرها الرئيسي يقع في جبل حديد الاستراتيجي في عدن الذي يطل على مقر الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وهناك تم الاحتفاظ بمخازن الأسلحة النوعية والعربات الإماراتية.
شرارة الصراع
شكّل التخلي الإماراتي عن تقديم الدعم المالي للمليشيات الانفصالية ابتداءً من عام 2020، بداية الصراعات الداخلية، مع سعي كل فصيل لتأمين موارد اقتصادية تضمن مرتبات عناصره، حتى جاء تطبيق اتفاق الرياض (الموقّع في نوفمبر/تشرين الثاني 2019) بين الحكومة الشرعية والانفصاليين، والتوزيع المناطقي للحقائب الوزارية والمناصب، ليوسع هوة الاحتقان، وفقاً لحسابات مناطقية وسياسية. تركت الفصائل المسلحة جبهات القتال، وانتقلت للتمركز داخل مدينة عدن من أجل اقتسام الغنائم والموارد اليومية الخاصة بنقاط التفتيش من عدن إلى محافظات الشمال، وكذلك إيرادات ميناء عدن والأسواق الشعبية الخاصة بمادة القات المنبهة وغيرها.
وكان من الواضح أن أحداث مديرية الشيخ عثمان المُدبّرة أخيراً، والتي أفضت إلى إخراج قرارات الهيكلة للعلن، ليست سوى تتويج رسمي لخطة محكمة تهدف لإزاحة السلفيين من عدن، والتخلص من التيار المعتدل داخل المليشيات، وقبل ذلك، تصعيد الجناح الانفصالي المتطرف ضد الشرعية والذي ينحدر من الضالع، على حساب تيار يافع. وبما أنّ يافع، كانت خلال العامين الماضيين، هي صاحبة الثقل الأكبر داخل مدينة عدن؛ اقتصادياً وتجارياً واجتماعياً، مستفيدةً من حضور عسكري تقدمه ألوية الدعم والإسناد، بدأت الخلافات تدب في مفاصل “المجلس الانتقالي”، وتطغى عليها الأبعاد المناطقية، ولا سيما بعد قيام “الدعم والإسناد” اليافعية، بتأسيس شركة “إسناد” للخدمات البترولية، لضمان الحصول على موارد تضمن انتظام صرف مرتبات كافة ألوية المليشيات التي يتزعمها الزعيم السلفي محسن الوالي.
لم يرق تنامي النفوذ اليافعي، للقادة الانفصاليين المنحدرين من محافظة الضالع. فلم يكن أمام الزبيدي سوى العمل على تفكيك هذه القوة التي تشكل تهديداً وجودياً له، إذ سعى لتقليص الحضور اليافعي داخل المليشيات بشكل خفي.
عمليات ممنهجة
بدأت ملامح تقليص النفوذ اليافعي تظهر بشكل واضح بتهميش قيادات الصف الأول من هيئة رئاسة “المجلس الانتقالي”. فبعد إقصاء مؤسس ألوية “الدعم والإسناد” الزعيم السلفي عبد الرحمن شيخ، من موقعه العسكري، والزج به في مضمار السياسة كعضو في الفريق التفاوضي مع الحكومة الشرعية، تم استبعاده أيضاً من الوفد التفاوضي لاحقاً، وتصعيد شخصيات انفصالية متطرفة.
وبعد عملية اغتيال طاولت قائد “اللواء الأول- دعم وإسناد”، منير اليافعي، المعروف بـ”أبو اليمامة”، ولا تزال غامضة منذ مطلع أغسطس/آب 2019، بدأت خلية الاغتيالات تتحرك بشكل نشط لاستهداف قيادات يافع، خصوصاً بعد الدور البارز الذي ظهرت به قوات الدعم والإسناد بعد وصول حكومة المحاصصة إلى عدن.
ومطلع مارس/آذار الماضي، تعرّض قائد “ألوية الدعم والإسناد” محسن الوالي، ورئيس أركان حربه، نبيل المشوشي، لمحاولة اغتيال، بعد استهداف الرتل العسكري الخاص بهما بعبوة ناسفة عن بُعد، تم تفجيرها فور مرور موكب الوالي ومساعده في مديرية البريقة بعدن. وفوق ذلك، كان الكمين مدعوماً بعناصر مسلحة باشرت بإطلاق الرصاص الحي على الرتل العسكري، ما أسفر عن مقتل جنديين ومواطن. عقب نجاته من محاولة الاغتيال، أشار الوالي إلى أنّ هناك “طرفا ثالثا خاسرا” يريد إرباك المشهد، وإعاقة أي تقدم نحو السلام. وعلى الرغم من دعوته التي أطلقها حينذاك إلى “عدم إتاحة الفرصة لمن يريد تحويل عدن إلى ساحة صراعات لتصفية حساباته السياسية”، إلا أنّ قيادات يافع لا تريد التورط في إشعال هذا الصراع المتوقع، نظراً لإدراكها طبيعة الفخ الذي يتم تحضيره لها.
وبعد إزاحة الوالي والمشوشي عن المشهد بنقلهما إلى أبوظبي، كانت الاغتيالات الغامضة تتواصل ضد اليافعية. إذ تعرّض نائب مدير الرقابة والتفتيش في ألوية الدعم، العقيد حيدرة الجعدني، لعملية اغتيال في مديرية المنصورة داخل عدن في 11 يونيو الماضي، وذلك عشية هجوم غامض، استهدف قوات لذات الألوية في محافظة أبين، وأسفر عن مقتل 6 جنود. فيما نجا نائب مدير التوجيه المعنوي في ألوية الدعم والإسناد، العميد عبد الحكيم الكوبي، من محاولة اغتيال أواخر يونيو الماضي.
لم يكن التغيير في القيادات هو التحوّل الوحيد، ولكن ما نصّ عليه القرار بنقل مقر وألوية “الدعم والإسناد” إلى خارج محافظة عدن، أي إلى مناطق بعيدة، ما يمنع تلك الألوية السلفية من التدخل في الشؤون الأمنية داخل العاصمة المؤقتة، أو تأمين المقرات الحكومية كما كانت تفعل منذ مطلع العام الحالي.وجد “المجلس الانتقالي” في أحداث الشيخ عثمان، المبرر الكافي للإطاحة بالقيادي البارز نبيل المشوشي من موقعه كقائد أركان عمليات ألوية الدعم والإسناد وتعيين العميد جلال الربيعي مكانه، وإزاحة يافع بشكل كامل من المشهد داخل مدينة عدن بعد تحميلها مسؤولية الدماء التي سالت في عملية مدبرة. شرع “المجلس الانتقالي” في عملية التفكيك التي لطالما تمناها، ونصت القرارات التي أصدرها زعيم الانفصاليين عيدروس الزبيدي، في 25 يونيو الماضي، على تعيين القيادي الأمني صالح السيد، قائداً لألوية “الدعم والإسناد”، بدلاً من القيادي السلفي محسن الوالي، الذي أُسندت إليه قيادة قوات “الحزام الأمني”، فيما تم تعيين أحد الشخصيات الانفصالية المتطرفة، وهو مختار النوبي، نائباً له من أجل السيطرة على صلاحياته.
ويقول “المجلس الانتقالي” إنّ القرارات التي اتخذها ليست لها أبعاد مناطقية، بل تهدف إلى “تعزيز الجاهزية، وصولاً إلى استكمال بناء قوات مسلحة جنوبية على أسس وطنية وعملية ومهنية”، ومن أجل ذلك لم تسند قيادة ألوية الدعم والإسناد لشخصية تنحدر من محافظة الضالع، بل إلى صالح السيد، المنحدر من محافظة لحج.
أزمة ثقة وتشكيك في الولاء
يقدّم “المجلس الانتقالي” نفسه على أنه الممثل الوحيد لمدن جنوب اليمن كافة، لكنه يتعمد تهميش كافة كوادر المحافظات الجنوبية، خصوصاً في المناصب العسكرية الرفيعة، التي يحرص على أن تكون من الدائرة المقربة له، وتحديداً من محافظة الضالع، مسقط رأس زعيمه عيدروس الزبيدي وغالبية القادة.
وكما هو الحال مع كافة الأنظمة والحركات الاستبدادية التي لا تثق سوى بأبناء منطقة جغرافية معينة، كما فعل نظام الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح عندما قدّم أبناء منطقته سنحان في صنعاء على حساب باقي الكفاءات العسكرية اليمنية وخصوصاً الجنوبية، أو تعيين الحوثيين للمنحدرين من صعدة في كافة المناصب الهامة، يمضي “المجلس الانتقالي” في تكريس هذه النظرية، بمنح الثقة لأبناء محافظة الضالع فقط، في مقابل منح باقي المدن الجنوبية أدواراً ومناصب هامشية.
وبعيداً عن المبررات التي ساقها المجلس لقرارات الهيكلة الأخيرة، يعود السبب الحقيقي وراء إزاحة الجناح السلفي المنحدر من يافع، إلى تشكيك في ولاء القادة العسكريين، وعدم إيمانهم الحقيقي بمشروع المجلس الانفصالي أو الخطاب المتطرف ضد مؤسسات الدولة وجهود إحلال السلام، كما أفصح عن ذلك ضمنياً، نائب رئيس المجلس، الزعيم الانفصالي السلفي هاني بن بريك. فقد تخلى بن بريك المقيم في أبوظبي عن رفاقه في ألوية “الدعم والإسناد”، عندما حاول تصنيفهم كما لو أنهم مجرد “مرتزقة” ولاؤهم للمال فقط. ورفض بن بريك، معايير الكفاءة في التعيينات داخل المليشيات الانفصالية، وقال في تغريدة على “تويتر” في 29 يونيو الماضي، إن “الكفاءة بالإمكان توظيفها بالمرتب الشهري أو التعاقد على الإنجاز”، لافتاً إلى أن القيادة “لن تكون إلا لأصحاب الولاء والإيمان بقضيتك”. وأضاف: “في نظري من دون أي تفصيل، لا بدّ من أصحاب الولاء في كل المراحل، وتقديم العقلاء منهم للقيادة والمهام، ودعمهم بالكفاءة المهنية الاحترافية، فالصادق في ولائه لا يقارن بأحد”، في تشكيك واضح في ولاء القادة المعزولين.
خلافاً لذلك، فرض الوالي حضوره بقوة في مدينة عدن عقب وصول حكومة المحاصصة مطلع العام الحالي، إذ جمعته علاقات ودية مع رئيس الحكومة معين عبدالملك، كما نفذ زيارات ميدانية لجميع الوزارات والتقى وزراءها من مختلف الأطياف السياسية، فضلاً عن مواقف جريئة عبّر فيها عن رفضه لعدد من سلوكيات المجلس الانتقالي المعيقة للسلام، وتعطيل مؤسسات الدولة وعلى رأسها القضاء.ويُنظر إلى السلفيين إجمالاً على أنهم يرفضون الخروج على ولي الأمر، والذي يتمثل حالياً في الرئيس عبدربه منصور هادي. ومن خلال تتبع الموقع الإلكتروني لألوية “الدعم والإسناد”، يبدو لافتاً أن قائدها السابق، محسن الوالي، يحرص على إرسال برقيات تهنئة في المناسبات الدينية للرئيس هادي، كما يفعل مع الزبيدي.
وبما أنه من المستبعد أن تفطن الشرعية المغيّبة عن الواقع، لاستثمار الخلافات واستمالة السلفيين وخصوصاً من أبناء يافع، فمن المرجح أن مخاوف الانفصاليين تكمن في الجانب السعودي، الذي تتمركز قواته حالياً في مدينة عدن بدلاً عن الإمارات، وهو الطرف الذي بمقدوره ضرب المشروع الانفصالي من الداخل.
لا يشعر “المجلس الانتقالي” بأزمة ثقة مفقودة مع السلفيين من أبناء يافع فحسب، ولكن مع غالبية المحافظات الجنوبية، خصوصاً أبين التي يعاني أبناؤها الموالون للانفصاليين، من إقصاء وتهميش، وهو ما عبر عنه عدد من القادة العسكريين، الذين طالبوا بـ”إخلاص النوايا وإعادة الثقة داخل صفوفهم في المقام الأول”. ويقول خبراء إنّ “المجلس الانتقالي” لن يمنح ثقته سوى للأصوات المتطرفة في مشروعه الانفصالي وكل ما هو ضد الدولة اليمنية، في مقابل إقصاء وتهميش كافة الأصوات المعتدلة الرافضة لتأجيج الوضع وزرع بذور فتنة داخل الجنوب.
سيناريوهات مستقبلية
يبدو أنّ الأيام المقبلة ستكون حبلى بالكثير من التطورات في الساحة الجنوبية، خصوصاً عقب تلويح ما تسمى بـ”القيادة العليا للمقاومة الجنوبية”، التي يقودها عبد الناصر اليافعي، المعروف بـ”أبو همام”، برفض قرارات “المجلس الانتقالي”، وذلك في بيان صحافي حذر فيه أخيراً من “خلق حكم مناطقي بغيض لا تحمد عقباه”. وكشفت تحذيرات أبو همام عن صراعات مناطقية محتملة، واتساع الهوة بين قادة المليشيات الذين باتوا يمتلكون سلاحاً متوسطاً وثقيلاً، بمقدوره إحالة عدن وغيرها من مدن الجنوب إلى حلبة دامية لصراع مدمر.
وعلى الرغم من الاتمام الشكلي لعملية الاستلام والتسليم بين القيادات الجديدة والقديمة في ألوية “الدعم والإسناد” و”الحزام الأمني”، إلا أنّ عملية النقل أو الدفع بالمقاتلين السلفيين من أبناء يافع إلى جبهات الضالع أو الساحل الغربي أو لحج، لقتال الحوثيين، لن تكون بالأمر السهل. لن تجازف ألوية يافع بمغادرة عدن بشكل كامل، خشية على رأس المال اليافعي الذي نما بشدة خلال السنوات الست الماضية، من أي تعسفات تمارسها المليشيات الموالية لـ”المجلس الانتقالي” بشكل كامل. كما أنّ قيادات يافع؛ سواء الموالية للشرعية أو المحايدة، لن يكون بمقدورها التحرك بحرية داخل عدن أو العودة إليها من الخارج، وفقاً لخبراء.
وخلافاً للتوقعات بعدم تنفيذ المليشيات السلفية قرارات “المجلس الانتقالي” بالخروج من عدن، وتركها لمليشيات “الحزام الأمني”، والتي ستنفرد بإيرادات مهولة تقدر بنحو 40 مليون ريال يومياً (نحو 160 ألف دولار)، من عائدات ناقلات الشحن في نقاط التفتيش وأسواق القات ورسوم ميناء عدن، لن يقبل أبناء يافع الزج بهم في الخطوط الأمامية التي يُحرم منتسبيها من أي امتيازات مالية.
لا يبدو أنّ الألوية السلفية في قوات “الدعم والإسناد” ستكون مطيعة لقائدها الجديد، صالح السيد، بشكل كامل، إذ لا تزال جميع القيادات الفعلية للألوية السبعة، من الجناح السلفي وتنحدر من يافع، بما في ذلك نبيل المشوشي، قائد اللواء الثالث دعم وإسناد الذي تمت الإطاحة به من منصب قائد أركان عمليات الألوية بشكل عام، فضلاً عن العميد أحمد البكري قائد اللواء السابع، والعميد نصر عاطف اليافعي قائد اللواء الأول، والعقيد فواز القاسمي قائد كتيبة 5 حزم دروع. وسيجد “المجلس الانتقالي” صعوبة في إزاحة هؤلاء القادة واستبدالهم بشخصيات تدين له بالولاء الكامل، إلا أنه من المؤكد سيمضي في تفكيك النفوذ السلفي ولو بوتيرة أقل، سواء من خلال تنفيذ اغتيالات ممنهجة تجعل مسألة تعيين بدلاء أمراً ضرورياً، أو الاستعانة بدور إماراتي، حيث قد يوعز لأبوظبي باستدعاء القادة السلفيين للبقاء على أراضيها بشكل دائم من أجل تحييدهم بشكل نهائي.لدى “المجلس الانتقالي” عدد من جبهات القتال النشطة، وخلافاً لمواقع ثرة في أبين وشمالي الضالع، وكرش في لحج مع جماعة الحوثيين، يقول الانفصاليون إنّ لديهم جبهات أخرى ضد حزب “التجمع اليمني للإصلاح”، إذ يتهم المجلس ما يصفها بـ”المليشيات الإخوانية” بالتحشيد في شقرة بمحافظة أبين، والصبيحة في محافظة لحج، ولا يُعرف أي الجبهات سيتم تعزيزها بالمليشيات السلفية من ألوية الدعم والاسناد.
وإذا ما نجحت خطط “الانتقالي” في تجاوز عقبة الجناح السلفي المنحدر من منطقة يافع، سيكون أمامه الكثير من التحديات المماثلة، مع تواجد فصائل سلفية وقبلية أخرى في منطقة الصبيحة بمحافظة لحج، وكذلك “ألوية العمالقة” السلفية المرابطة في الساحل الغربي، والتي اتخذت موقف الحياد في مواجهات أبين الأخيرة.
ووفقاً لمصادر سياسية وعسكرية جنوبية تحدث لـ”العربي الجديد”، فمن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة موجة استقطابات على مستويات عالية، للفصائل المسلحة، خصوصاً السلفية، واستثمار الثقة المعدومة بين “المجلس الانتقالي” مع فصائله المسلحة. وتشير المصادر إلى أن المال قد يلعب دوراً رئيسياً في مسألة ترجيح القوة داخل مدن الجنوب، خصوصاً لمن سيقوم بتوفير مرتبات منتظمة للفصائل السلفية والقبلية، في ظلّ عجز المجلس الانتقالي عن توفير المرتبات بعد قطعها من قبل الإمارات أواخر 2019، واستحالة دمج تلك المليشيات ضمن القوات الحكومية النظامية بعد الخطوات التي أقدم عليها رئيس “المجلس الانتقالي”، والحديث عن إجراءات لاستحداث وزارتي دفاع وداخلية.وقد يكون التحدي الأكبر أمام “المجلس الانتقالي”، هو لجوء الجناح السلفي لتقرير وجهة معركته الجديدة ضد الحوثيين، من معقله الرئيسي في مديرية يافع وصولاً إلى محافظة البيضاء، من أجل مساندة قبائل آل حميقان السلفية، بعد انهيار الهدنة بين هذه القبائل والحوثيين أواخر يونيو الماضي. ويخشى المجلس أن تؤدي خطوة كهذه إلى انسحاب أبناء يافع القبليين والسلفيين من جبهات القتال الرئيسية في أبين والضالع وكرش والساحل الغربي، من أجل الدفاع عن أراضيهم، وعندها سيجد المجلس نفسه مكشوف الظهر في حال انسحاب السواد الأعظم من مليشياته لمواجهة الحوثيين، في وقت يريد الاحتفاظ بهم للمعارك الخاصة في أبين والتوغل نحو شبوة.