تمتلك الإمارات سجلا حافلا يميزها بقوة في منطقة الشرق الأوسط بشأن دعم الانقلابات والفوضى والشواهد كثيرة من اليمن ومصر وليبيا وغيرهم.
وما جرى في عدن جنوب اليمن قبل ثلاثة أشهر لا يعد سوى حلقة في مسلسل طويل تقوده دولة الإمارات في تدبير الانقلابات في دول عربية وإقليمية مستخدمة بذلك سطوة المال والتدخل السافر في الشئون الداخلية تلك البلدان.
ومثلت التحركات السياسية الخارجية لدولة الإمارات على مدار سنوات مظهرا لافتا في صياغتها لواقع الفوضى الذي تعيشه عديد الدول العربية.
وتندرج هذه المقاربة في إطار الكشف الكبير الذي حققه الربيع العربي للوعي الناشئ، بمعنى أنها لا تنفصل عن الغطاء الذي رُفع بسبب رياح الربيع العظيم، وبسبب ضريبة الدم الباهظة التي دفعتها شعوب هذه الأمة ولا تزال.
لقد أفرز الربيع العربي -بشكل عام- واجهتين أساسيتين متقابلتين، وهما واجهة الثورة ومن يقف في صفها، وواجهة الثورة المضادة ومن يدعمها. هذا التوزيع لا يختزل المشهد كاملا لكنه يحدد طبيعة الفاعلين الأساسيين في مجال الفعل الثوري، وما خلّفه منذ الانفجار التونسي أواخر 2010.
وقد دعمت الإمارات باكرا قوى الثورة المضادة ممثلة أساسا في الأذرع المالية والأمنية والعسكرية والسياسية للأنظمة التي ضربتها أمواج الثورات، حيث آوت مبكرا عددا هائلا من القيادات التابعة للنظام القديم بدول الربيع، وشكلت بسرعة غرف عمليات معقّدة لإجهاض الثورات وضرب المسارات الانتقالية وإعادة المنظومات القديمة إلى سدة الحكم.
انقلاب مصر
نجحت خطط الإمارات الإجرامية في إجهاض أم النماذج الثورية متمثلة في الثورة المصرية، عندما دعمت أبو ظبي علانية تدمير أول نموذج للحكم المدني الديمقراطي في مصر بسجن الرئيس المنتخب محمد مرسي، وإحلال الحاكم العسكري الانقلابي مكانه، وسط بُركة كبيرة من دماء المصريين وأشلائهم المحترقة في شوارع القاهرة وساحاتها.
تدمير ليبيا
تورطت الإمارات في تدمير لبيبا عبر دعم غرف الثورة المضادة أيضا لإنهاك المسارات الثورية في البلاد، حيث مثل الدعم الإماراتي للجنرال الانقلابي خلفية حفتر خيارا مضادا يمنع الثورة الليبية من بلوغ منتهاها، وصناعة مسار انتقالي مدني يخلو من مغامرات العسكر ومن حلم بعث معمر القذافي من جديد.
وجرائم الإمارات لم تقتصر على دعم التجارب الانقلابية، بل تجاوزها إلى ضرب خطوط إمداد الثورات سواء ماديا أو إعلاميا أو سياسيا. وهذا الخيار -الذي يمثل جزءا مركزيا في عقل الثورة المضادة- هو الذي يفسر حرب الانقلابات على الأنظمة والقوى الداعمة للثورات، سواء خليجيا عبر حصار قطر والعمل على تغيير نظام الحكم فيها بالتآمر العلني، أو عبر العداء الصريح لدولة تركيا.
العبث بالمشهد التونسي
تحمل تونس خصوصيات بالغة الأهمية بالنسبة للقوى العربية الإقليمية، وذلك من زوايا كثيرة ومتعددة؛ فتونس هي -بلا منازع- مهد الربيع العربي ومسقط رأس ثوراته، التي قدمت نموذجا عالميا في قدرة القوة الشعبية السلمية على إسقاط رأس النظام الاستبدادي وتهديد بقية النماذج. وقدمت منوالا سرعان ما نسجت عليه شعوب ليبيا ومصر وسوريا.
هذه الرمزية الثورية التونسية تجعل من هذا النموذج هدفا رمزيا في وعي الثورة المضادة وعقلها الانقلابي الذي تقوجه الإمارات علانية. والانقلاب على الثورة التونسية وتدميرها يمثل -في الحقيقة- تدميرا رمزيا لكل الربيع العربي وثوراته، بضرب مهده ومسقط رأسه وهو ما تعمل عليه الإمارات بشكل مكثف.
وقد دعمت الإمارات كل أذرع الدولة العميقة في تونس إعلاميا وسياسيا وماليا فنجحت إعلاميا في تأسيس شبكة هامة من الصحف والقنوات التلفزية والإذاعات والمواقع الإلكترونية، التي تدعمها بشكل مباشر عبر مجموعة من رجال الأعمال، وبالتمويلات التي لم تعد تخفى على أحد.
وأظهرت وثائق مسربة عن محاولات كبيرة لتكوين “حزام برلماني”، والتأثير على القرارات السيادية للدولة. وهذا بقطع النظر عن القرارات المتشنجة، مثل منع التونسيات من السفر أو العبور نحو أو من مطارات الإمارات.
كما أن شيطنة الإمارات للفصيل الإسلامي في تونس، وعداءها العميق لكل الطيف الثوري في المشهد السياسي، وسعيها إلى تدمير تجربة التوافق في أعلى هرم السلطة؛ هي أفعال تتجاوز جريمة التدخل في الشأن الداخلي لدولة مستقلة إلى التساؤل عن الدور المشبوه الذي تنهض به؟ وما هي الأجندة التي تخفيها؟ ولصالح من تنفذها؟
انقلاب تركيا الفاشل
ليلة 15 يونيو 2017 لم ينم الشارع التركي على أثر محاولة انقلاب عسكري على نظام الحكم الذي يرأسه حزب أردوغان، وهي المحاولة التي سُجّلت كأسرع انقلاب فاشل في تاريخ تركيا.
في الساعات الأولى عقب فشل المحاولة الانقلابية بدأت أصابع اتهام أنقرة تتجه نحو جماعة “فتح الله غولن”، زعيم “الكيان الموازي”، غير أنها اتّجهت فيما بعد صوب دولة الإمارات التي دعمت العملية العسكرية.
فقد نقل موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، عن مصدر مقرّب من المخابرات التركية، لم تسمه قوله إن الإمارات أسهمت في تحضير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، بوساطة رجلها في الشرق الأوسط، القيادي الفلسطيني محمد دحلان.
وتحدث الموقع البريطاني عن أن دحلان المقرّب من محمد بن زايد، حاكم أبوظبي، حوّل أموالاً إماراتية إلى “الانقلابيين الأتراك قبل أسابيع من إخفاق محاولة انقلابهم، بل إنه كان يؤدّي دور الوسيط بين بن زايد وغولن المقيم في أمريكا”.
ولعل وسائل الإعلام العربية التي تبثّ من الإمارات خرجت في الدقائق الأولى تروّج لنجاح الانقلاب على نظام أردوغان، بما يتّسق مع مساعي بن زايد، كما أن أبوظبي كانت من الدول المتأخّرة في إعلان موقفها ضد المحاولة الانقلابية الفاشلة.
كما أن تسريب رسائل البريد الإلكتروني الخاص بيوسف العتيبة، سفير الإمارات لدى واشنطن، أشارت إلى أنه كان مقرّباً أيضاً من مستشار مركز “مارك دوبويتز”، جون هانا، المعروف بتأييده لأي محاولة انقلاب تهدف إلى الإطاحة بأردوغان.
اليمن ودعم الانفصاليين
عقب سيطرة مليشيا الحوثي على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، انتقلت الحكومة الشرعية الموالية للرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، المقيم في العاصمة السعودية الرياض، إلى مدينة عدن (جنوب)، وأعلنتها عاصمة مؤقتة.
وقبل ثلاثة أشهر شهدت عدن اشتباكات مسلّحة بين القوى المسلّحة الموالية للشرعية، وأخرى تابعة لـ “المجلس الانتقالي الجنوبي” (انفصالي تدعمه الإمارات)، أدّت إلى قتل وجرح العشرات.
ما شهدته العاصمة اليمنية المؤقتة اعتبرته الحكومة الشرعية “انقلاباً نفّذته مليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي”، وذلك في إشارة إلى الانفصاليين المدعومين من الإمارات.
الفوضى العربية
يؤكد مراقبون أن أخطر ما يهدد أمن الدول العربية اليوم هو موجة اليأس التي ستعقب حالة الإحباط من فشل الثورات السلمية بتورط إماراتي وسعودي، لأنها ستشكل قاعدة تبني عليه جماعات العنف والفوضى وقوى التخريب -التي تقف وراءها- مشروعَها في تدمير ما تبقى من كيانات الأمة، وخياراتها السلمية للخروج من حالة الانهيار والتبعية والفساد والاستبداد.
ولعل المتتبّع لأحداث الإقليم العربي منذ 2011، يجد توسّعاً إماراتياً وتدخّلاً واضحاً في معظم شؤون الدول العربية؛ وهي تسعى جاهدة لإجهاض الثورة وإقصاء الإسلاميين، من خلال دعمها قوى الثورة المضادّة بالسلاح.
وأبرز الملاحظات الهامة -فيما يتعلق بالدور الإماراتي إقليميا ودوليا- هي اتساع امتداد هذا الدور جغرافياً واختراقه هياكل وأبنية كثيرة، حيث يشمل تقريبا كامل المساحة العربية سواء منها ما شملته رياح الربيع العربي أو تلك التي لم تشملها.
وهذا الحضور العمودي والأفقي هو الذي يدفع إلى طرح أسئلة كثيرة عن القدرة والخلفية والأهداف والدوافع. فكيف لدولة صغيرة الحجم أن تتحكم في مصائر ملفات إقليمية كبرى ذات تقاطعات كبيرة إذا لم تكن جزءا من مشروع أكبر؟.
*امارات ليكس