عدن نييوز – متابعات
تعيش العاصمة اليمنية صنعاء واحدة من أكثر فتراتها الزمنية بؤساً وكآبة، وفيما يسود الصمت المطبق مختلف المناطق، يسود رعب جارف في قلوب سكّانها البالغ عددهم نحو 4 ملايين نسمة، يترقبّون المجهول ويتخوّفون من توحّش سلطة وليدة، باتت تحكم قبضتها بشكل مطلق عليها، بعد أن كانت لنحو ثلاثة أعوام محكومة برأسين.
وشهدت صنعاء، أو كما يطلق عليها تاريخياً بـمدينة آزال، خلال الأيام الماضية صراعاً ساخناً بين شركاء انقلاب سبتمبر 2014م (الحوثي وصالح) جراء خلافات متفاقمة لم تنجح محاولات الشريكين في وأدها، حتى أفضت في نهاية المطاف الى قرار بالمواجهة المسلحة، اشتعلت وسط أحياء مأهولة بالسكان، بمختلف الاسلحة ولمدة ثلاثة أيام، انقضت بهزيمة ساحقة لقوات الرئيس اليمني السابق صالح، وانتصار كاسح لميليشيات التمرد الحوثي.
وانتهت فصول الصراع بين حليفي الأمس بطريقة دراماتيكية بإعلان مليشيات الحوثي قتل علي عبدالله صالح، أطول من جلس على سدة الحك في اليمن “33 سنة”، وعدد من أقربائه، وقيادات بارزة في حزبه المؤتمر الشعبي العام، مدشنة بذلك مرحلة جديدة من تاريخ اليمن الحديث، لا تزال ملامحه في قيد التشكل.
* انتصار قصير.. وفرحة موءودة:
أفاق سكان صنعاء في صبيحة يوم 2 ديسمبر على وقع أخبار الانتصارات الكبرى التي تحققها قوات صالح (الحرس الجمهوري) ضد مليشيات الحوثي، وبدء تلك القوات تحرير شوارع العاصمة ومبانيها الحكومية التي لا تزال تخضع لسيطرة المليشيا.
النصر العسكري عززه حضور كاسح لإعلام صالح، والذي خرج بالبشارات بتحرير مناطق كثيرة من صنعاء، وسط صمت مطبق للآلة الإعلامية الحوثية في ذلك النهار.
التهاليل صدحت في كل بيت صنعاني، والزغاريد تملأ جنبات المكان، فيما خرج المواطنون كباراً وصغاراً للتهليل والتكبير، وحمد الله على اقتراب هزيمة سلطة الحوثيين، والتي أذاقت الناس أصنافاً من المر والعذاب خلال فترة حكمها القصيرة.
يسرد فؤاد، وهو من سكان منطقة الصافية المشهد في ذلك النهار بالقول: حينما جاءت أنباء الانتصارات لم نتمالك أنفسنا، سجدت وسجد والدي شكراً لله، وقفزت أهلل كصبي صغير.
يضيف: خرجت لأجد جميع سكان الحارة والحارات المجاورة وقد خرجوا جميعهم الى الشوارع.. كلنا كنا في حالة من النشوة الغامرة، وبدأنا نتابع مستجدات المعارك.
يتابع: أقسم لك أننا شاهدناً عشرات من مسلحي الحوثي في صباح 2 ديسمبر والوجوم على وجوههم، وهم يعودون منكسرين من مناطق الاشتباكات، وقد قاموا بإزالة شعارات الصرخة من بنادقهم.
مروا من بيننا في الشوارع الفرعية.
رأيناهم يغادرون فصدحنا بالتكبيرات.
* الإنقلاب على الهزيمة:
مساء ذلك اليوم استجمعت جماعة الحوثي قواتها من جديد، بعد أن كانت قد فقدت مؤقتاً السيطرة على المعركة، وبدأت تنفيذ هجمة عسكرية شرسة وغير مسبوقة، استخدمت فيها مختلف الأسلحة المتوسطة والثقيلة.
وكان للسلاح الثقيل دور حاسم في إنهاء الاشتباك بنصر ساحق لقواتهم، وتلقت قوات صالح هزيمة مدوية، وانتهت المواجهات بشكل تام صبيحة يوم الاثنين 4 ديسمبر.
* النبأ الصاعق:
صالح مقتولاً برصاصة في الرأس ظهيرة الرابع من ديسمبر بات كل شيء واضحاً: الحوثيون يقتحمون دار صالح بشارع صخر، وفرار كلي لقوات طارق صالح من كامل أحياء الحي السياسي.
إنها الهزيمة الكاملة لأحد الطرفين، والفوز التام للطرف الآخر.
وبعد سويعات قليلة وصل النبأ الصاعقة: صالح مقتولاً في أحدى ضواحي صنعاء برصاصة في الرأس.
كان ذلك هو النبأ الأشد وطأة على اليمنيين في الداخل والخارج منذ نبأ استيلاء الحوثيين على صنعاء في 21 سبتمبر 2014م.
تسمّر عصر ذلك اليوم ملايين اليمنيين أمام شاشات التلفاز، وهي تعرض صوراً ومقاطع فيديو لصالح وهو محمول بيد أفراد حوثيين داخل بطانية حمراء، ورأسه مشقوقة بشكل كبير نتيجة طلق ناري.
شكّل ذلك الخبر الصاعق صدمة كبرى في مختلف الأرجاء، لكن الوطأة الأشد كانت من نصيب سكان العاصمة، الذين أخذهم الذهول حد الاعتقاد بأنهم يعيشون حلماً وليس واقعاً.
* الوجوم والصمت سيّد الموقف.. والقهر يعتصر الأكباد:
كانت تلك واحدة من أسوأ اللحظات التي يعيشها اليمنيون؛ يصف محمد تلك الساعات بالقول: كنا ننتظر أخباراً بتمكن صالح من الفرار من الحوثيين. لا تزال أكياس القات مربوطة، وكلنا في المجلس نتابع باهتمام مختلف القنوات والفضائيات لمتابعة المستجدات، حتى أذيع ذلك النبأ. يتابع: الصدمة فوق كل وصف وقول.
كانت انتفاضة صالح وحزب المؤتمر أمل عقد عليه اليمنيون جميعهم إيمانهم وأمانيهم ودعواتهم.
يضيف: هي واحدة من أسوأ الفترات التي عشتها في حياتي إن لم تكن الأسوأ. كل من في المجلس بدا شاحباً واجماً. الصمت مطبق.. لا رغبة في الكلام. شعور عميق بالإنكسار والهزيمة وخوف من مستقبل يلوح قاتماً. لم يرغب أي من كان في المجلس أن يفتح كيسه ويبدأ بمضغ قاته.
أجزم أن الجميع في ذلك اليوم لم يمضغ ورقة قات. يتابع: المجتمع اليمني بمختلف أطيافه، الصغير والكبير كان مصدوماً والرغبة في البكاء المرير لامست كل القلوب.
ارتمينا كلنا في دوامة من الشعور بالضياع واليأس والحسرة. من اللافت في ذلك الوقت ردة فعل النساء في العاصمة في تلك السويعات الصعبة بعد التيقن من انتصار الحوثي، بحسب ما تفيد أروى الفلاحي، فجميع النساء تقريباً دخلن في نوبة من البكاء المرير.
الإناث في كل منزل تجمعن وبدأت أصوات النواح تكسر وحشية الصمت الذي كان يغمر المكان. حتى في برامج المحادثات الاجتماعية كالواتس آب بدأت النساء بصب لوعتهن وحرقتهن بشكل غير مسبوق.
صنعاء المدينة الوادعة صارت مدينة أشباح بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. الشوارع فارغة من المارة.. السكون وريح الشتاء يزيد الأجواء عبوساً.
لا رغبة في الخروج، ولا رغبة في التحدث مع الناس. كل ساكن فيها منزوٍ في مكان لوحده، يكابد حرقة كامنة، ويذوي في حزن لا نهائي.
“يبدو أننا سنفتقد بشدة أيام صالح على سوءتها” يقول صالح؛ يضيف: “أشعر الآن أننا بتنا ضعفاء.. بلا قوة.. صارت الساحة خالية للمليشيات للبطش بنا.. لا أظن أنني أفتقد شيئاً كما أفتقد الشعور بالحرية.. أشعر بأني أرغب في الهجرة أكثر من أي وقت مضى فلم تعد صنعاء موطناً صالحاً للأمل”.