تشير الوقائع والأحداث المتلاحقة في اليمن مؤخراً، وتحديداً المناطق الجنوبية، إلى حدوث تغيير جذري في معادلة الصراع على الأرض، لعل أهمها وأبرزها على الإطلاق “تغير النهج السعودي” في اليمن وطريقة إدارته للصراع مع جماعة الحوثي من جهة، ولالتزامه بمبدأ “إسناد الحكومة الشرعية” كقاعدة أصيلة ارتكز عليها التحالف العربي الذي تقوده المملكة، من جهة أخرى.
الأحداث الأخيرة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن دوائر القرار السيادي في المملكة العربية السعودية باتت أكثر دراية وأكثر فهماً لحقيقة المشهد وطبيعة الصراع ضد إيران في اليمن، كما باتت تملك رؤية مكثفة عن حقيقة الدور الذي يقوم به شريكها في الرئيسي في الحرب: الإمارات.
وأسهمت الأحداث التي يعيشها اليمن، وما أفضت إليه من سيطرة للقوات الانفصالية المدعومة إماراتياً على عدن ومناطق أخرى في الجنوب، إلى إثارة الجدل على موقع “تويتر” بين كتاب ومغردين سعوديين وآخرين من دولة الإمارات.
وبات من المعتاد قراءة عناوين صحفية في الجرائد السعودية تحمل كماً هائلاً من التقريع للأذرع الإماراتية في اليمن. هذا فضلاً عن تشدد السعودية في التأكيد على وحدة اليمن، وعلى الحكومة الشرعية كسلطة جامعة لكل اليمنيين. وهنا تبرز فقرة تضمنها البيان المشترك الذي أصدرته كل من الإمارات والسعودية يوم أمس، وجاء فيه: “تؤكد الدولتان في الوقت نفسه حرصهما وسعيهما الكامل للمحافظة على الدولة اليمنية ومصالح الشعب اليمني وأمنه واستقراره واستقلاله ووحدة وسلامة أراضيه تحت قيادة الرئيس الشرعي لليمن ، وللتصدي لانقلاب ميليشيا الحوثي الإرهابية المدعومة من إيران والتنظيمات الإرهابية الأخرى”.
ويرى مراقبون أن الانتصار الكبير الذي حققته قوات الجيش الوطني الموالي للشرعية في الأيام الأخيرة، في محافظة شبوة تحديداً، مثّل أبرز مؤشرات التغير الكبير في النهج السعودي وإدراك قيادة المملكة لحقيقة الفخ الذي كان يحاك لها في اليمن، عبر حليفها الإماراتي المزعوم.
أجراس الإنذار تقرع في الرياض
في العاشر من أغسطس ابتدأت الأحداث بالتسارع بشكل دراماتيكي: انقلاب عسكري نفذه الجناح المسلح للمجلس الإنتقالي المدعوم إماراتياً (الحزام الأمني) في العاصمة المؤقتة عدن. كان الحدث جللاً وشكّل أقوى هزة تعرضت لها الحكومة اليمنية ومن خلفها التحالف العربي منذ الانقلاب العسكري الحوثي في صنعاء 2014م.
وبينما كانت الحكومة اليمنية تنتظر دعماً سعودياً كبيراً للعودة الى عدن قلب الانتقالي الطاولة على الجميع باجتياح عسكري طال محافظة أبين المجاورة. ثم أعلن العضو السابق في تنظيم القاعدة – بحسب تقرير أمريكي – نائب رئيس المجلس الانتقالي، هاني بن بريك، النفير العام لاجتياح محافظة شبوة، بعد استقدام مئات العربات المدرعة وآلاف الجنود لإنفاذ هذا القرار، لتدق على إثره أجراس الإنذار في الرياض.
أما حشود الانفصاليين فقد تعرضت لواحدة من أقسى الهزائم والنكسات: المدافعون عن عتق (عاصمة المحافظة) قلبوا مشهد الصراع وردوا بهجوم كاسح انطلق من عتق قبل أيام حتى وصل اليوم الاثنين إلى ميناء بلحاف النفطي على الساحل، محررين في طريقهم كل مديريات المحافظة بعد دحر الانتقالي منها.
استفاقة سعودية
التغير الهائل في مجريات المعركة لصالح الحكومة الشرعية رافقه – بحسب مراقبين – تغير عميق في طبيعة فهم السعودية لحلفائها وأعدائها في الداخل اليمني. ولعل ترجمة هذا التغير في النهج والإدارة قد برزت بشكل جلي وملموس في كيفية تناول النخبة السعودية وكذا عموم الناشطين السعوديين في وسائل التواصل الاجتماعي للشأن اليمني ولسجال المتبادل بين الامارات والحكومة اليمنية عقب التمرد في عدن.
مؤشرات الدعم السعودي للتحركات الحكومية الاخيرة كانت جلية – بحسب مراقبين – كما يشير إلى ذلك الدعم الكبير نزق إماراتي متصاعد بشكل غير مسبوق في وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الصدد يقول الصحفي سمير الصبري: هناك إدراك في السعودية لخطورة المخطط الإماراتي في اليمن. المملكة فتحت الباب على مصراعيه أمام الحكومة اليمنية لفضح الإمارات وتعريتها أمام العالم أجمع، وهذه سابقة هامة في تاريخ العلاقة بين المملكة والإمارات من جهة والمملكة والشرعية من جهة ثانية.
في الواقع، لقد شكّل الصوت المرتفع والتحركات الغير مسبوقة للحكومة الشرعية المتواجدة في الرياض والموجهة ضد الإمارات أبرز تجليات المشهد الداخلي في اليمن، علاوة على أنه يمثل علامة فارقة بحدوث استفاقة السعودية إزاء مؤامرات أبوظبي. سقف لا محدود من المواقف ذات النبرة القوية الصادرة من قلب الأمم المتحدة أولاً، ثم من معظم الوزارات السيادية والغير سيادية وتصريحات المحافظين ومختلف أركان السلطة الشرعية. كانت جميعها تعيد تعريف المعركة وفق الدالة الصحيحة على أنها معركة مع الإمارات قبل أي شيء آخر.
كل ذلك حدث تحت سمع وبصر ومباركة “الرياض” التي استشعرت المخطط التآمري للإمارات عبر وكلاء ومرتزقة محليين، وهو مخطط أشار إليه وزير النقل صالح الجبواني، حيث أكد أن الإمارات لا تبحث عن انفصال فقط وإنما عن تقطيع أوصال اليمن الى أجزاء عدة، ليسهل عليها التحكم بموانئ اليمن ونفطها.
مشيراً بأن المجلس الانتقالي ولد في غرف المخابرات الإماراتية وأوكلت له أبو ظبي تنفيذ هذا المخطط الدموي.
تراشق إعلامي بين السعودية والإمارات
ووسط معمعة الحرب ودوي المدافع في عدن وأبين وشبوة نشب سجال حاد بين الإعلاميين السعوديين ونظرائهم الإماراتيين، وصل درجات غير مسبوقة.
الإمارات أشعلت الفتيل عبر جوقة ذبابها الإلكتروني، والذي ابتدأ بشن حملة إليكترونية على الحكومة الشرعية في محاولة لتبرير التمرد الذي دعمته الإمارات في عدن، قابلها حملة شعبية جارفة في الداخل اليمني ضد الإمارات ومخططاتها، لينضم إلى هذا السجال كتاب ومغردون سعوديون اصطفوا مع اليمنيين ضد الحليف “المشبوه”.
واستخدم مغردو الإمارات لغة سوقية وأسلوباً مبتذلاً في مواجهة حملات التعرية التي تتعرض لها بلدهم، في حين اتسمت الردود السعودية اليمنية بالرزانة والحصافة والقوة، ليدشن الإماراتيون بعدها وسماً يدعو لسحب جنودهم من اليمن.
وفي هذا الصدد سخر الكاتب والصحفي اليمني محمود ياسين من هذه الدعوات قائلاً: تتحدثون عن سحب جنودكم من اليمن وكأنكم الاتحاد السوفيتي وقد قرر الانسحاب من أفغانستان ” نصف مليون جندي” وذلك بعد اجتماع لقادة الفيالق. اسحبوا الشيكات فقط والأربعه الملاقيف في التويتر ” خلفان والمزروعي وعبد الخالق والكعبي ” وستكون الأمور أفضل.
وكعادة المرتهن لمموله اصطف الذباب الإلكتروني التابع للمجلس الانفصالي بجانب الإمارات في حملة للإساءة للمملكة العربية السعودية والحكومة اليمنية.
المثير للسخرية هنا أن تغريدات البيادق المشحونة إماراتياً حملت قدراً عالياً من التهديد والوعيد للملكة العربية السعودية، كتغريدة الصحفي الانفصالي احمد عمر بن فريد، والذي طالب فيها بعودة ما وصفهم بـ “القوات الجنوبية” من الحدود السعودية، في حين قال ناشط آخر موجهاً كلامه للسعودية: خانونا ونحن الجنوب الصادق الذي لا يخون.. من الآن لن ندافع عن من وجه طعناته لنا من الخلف.
وعلى الجانب الإماراتي كان ضاحي خلفان، نائب رئيس جهاز أمن دبي، على رأس كتيبة المغردين، متمادياً في هجومه على الحكومة اليمنية وعلى الرئيس عبدربه منصور هادي.
خلفان لم يتورع عن استخدام كل أنواع الابتذال في تغريداته، حتى وصل به الحال التشكيك بالدور السعودي في اليمن، ليطلق بعدها المغردون السعوديون حملة بعنوان: ضاحي خلفان يسيء للمملكة.
ويرى مراقبون أن الأصوات والاصطفافات التي تجري في وسائل التواصل هي تعبير حقيقي عمّا يدور وراء الكواليس من سخط سعودي متصاعد إزاء التحركات الاستفزازية للإمارات في اليمن.
وهذا – على الأرجح – ما دفع بوزير الدولة الإماراتي للشئون الخارجية، أنور قرقاش، للإدلاء بتصريحات لافتة يوم أمس قال فيها أن السعودية هي من تقرر بقاءها أو مغادرتها المشهد اليمني، وهو تصريح يحمل دلالات قوية على فقدان السعودية ثقتها بالإمارات.
منذ اللحظات الأولى لعاصفة الحزم ارتكب اليمنيون والسعوديون خطيئتهم الأهم: الثقة بدولة الإمارات. ولعله لم يعد مستغرباً بعد اليوم أن نقرأ عنواناً بارزاً في صحيفة “عكاظ” السعودية يقول: غطرسة “الانتقالي” انكسرت في شبوة. وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل انتهت غطرسة الإمارات أيضا؟