رغم الفشل المبكر لما سمي بـ”المجلس الانتقالي الجنوبي”، والذي أعلن عنه محافظ عدن المُقال من منصبه عيدروس الزبيدي، إلا أن النجاح الوحيد الذي حققه هذا المجلس، أنه كشف ضعف السلطة الشرعية في المحافظات المحررة من جانب، ومن جانب آخر كشف حجم الاختلالات التي تسببت بها دولة الإمارات العربية المتحدة في جنوب اليمن، وانتقاصها من مكانة وهيبة السلطة الشرعية والتعدي على صلاحياتها، وغدرها بالتحالف العربي وأهدافه في اليمن رغم كونها أحد وأبرز الدول الأعضاء فيه، وإرباك الجميع بقضايا جانبية من أجل تحقيق مصالح ذاتية، رغم عدم تمكن السلطة الشرعية والتحالف العربي من تحقيق الهدف الرئيسي بعد، وهو القضاء على الانقلاب.
وإذا كان المجلس الانتقالي الجنوبي هشًا لدرجة أن مجرد البيانات الصادرة عن السلطة الشرعية ومجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية الرافضة للانفصال والمساندة للوحدة اليمنية نجحت في وأده مبكرًا، إلا أن عدم التحرك العملي من قبل السلطة الشرعية والتحالف العربي للقضاء على الثغرات والاختلالات التي نفذ منها عيدروس الزبيدي وبعض رفاقه، والتي كرستها دولة الإمارات وتسللت عبرها إيران انطلاقًا من الضاحية الجنوبية في بيروت التي يقطن فيها عدد من القيادات الانفصالية بحماية من حزب الله اللبناني وعلى صلة وثيقة بالسلطات الإيرانية، فإن ذلك يعني أن المجلس الانتقالي للزبيدي ورفاقه نجح في زرع قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة مناسبة وتسبب إرباكًا للجميع، وتشغلهم بقضايا جانبية ربما تكون كلفتها باهظة.
أسباب الفشل
كان فشل المجلس الانتقالي الجنوبي متوقعًا منذ اللحظات الأولى لإعلانه، ذلك لأنه حمل أسباب فشله معه من البداية، ويعكس ذلك تواضع الخبرة السياسية لمن أعلنوا عنه، والبعد المناطقي لطبيعة المجلس، رغم محاولة تجميله بضم أعضاء من عدة محافظات وتيارات بعضهم يعملون مع السلطة الشرعية بدون إبلاغهم، بالإضافة إلى الدافع الانتهازي لتأسيس المجلس، والمتمثل في ابتزاز السلطة الشرعية ودول التحالف العربي من أجل تحقيق مكاسب شخصية، لا علاقة لها بمطالب الانفصال، أو الحديث عن القضية الجنوبية، التي تجاوزها الواقع بعد كل ما شهدته البلاد من أحداث.
وهناك عدة أسباب للفشل المبكر للمجلس الانتقالي الجنوبي، لعل أهمها:
أولًا: أن الإعلان عنه كان في التوقيت الخطأ والمكان الخطأ، فمن حيث التوقيت، جاء الإعلان عن المجلس من قبل عيدروس الزبيدي بعد أيام من إقالته من منصبه كمحافظ لمحافظة عدن بسبب فشله الذريع في توفير الخدمات العامة للمواطنين، وهو ما فهمه الجميع بأن تحركات الزبيدي وبعض رفاقه تعكس أنانيتهم المفرطة واستخدام القضية الجنوبية كورقة لابتزاز السلطة الشرعية والتحالف العربي من أجل مصالح شخصية ضيقة.
ومن حيث المكان، فالإعلان عن المجلس تم في العاصمة المؤقتة للبلاد، وما يحمله ذلك من رمزية سياسية، تمثل بدرجة رئيسية اسنفزازًا لدول التحالف العربي وعلى رأسها السعودية، ما يعني أن ذلك كان بمثابة شطب لكل خسائر التحالف العربي، وشطب لتضحيات الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، وانقلابًا على الإجماع الشعبي والإقليمي والدولي حول السلطة الشرعية ضد الانقلاب على طريق بناء اليمن الاتحادي، الذي كان أبرز مخرجات الحوار الوطني، وبسبب ذلك تحالف المخلوع علي صالح والحوثيين للانقلاب على السلطة الشرعية كتعبير عن رفضهم للفيدرالية.
ثانيًا: افتقد المجلس الانتقالي الجنوبي للحاضنة الشعبية أو السياسية، لأنه لم يعلن عنه تيار سياسي يحظى بشعبية واسعة في المحافظات الجنوبية، ويتجاوز الانقسامات القبلية والمناطقية وغيرها من مظاهر التفتت الاجتماعي في الجنوب، وإنما كان تعبيرًا عن حالة فردية طارئة قفزت فجأة إلى مسرح الأحداث يمكن وصفها بـ”الحنق السياسي”، ممثلة في شخص عيدروس الزبيدي، الذي عمل محافظًا لعاصمة مؤقتة لدولة الوحدة، وعندما فقد وظيفته نصّب نفسه زعيمًا للجنوب وللانفصال بدون تفويض من قبل أحزاب أو تيارات سياسية أو أيديولوجية، بل فقد كان العمق المناطقي للصراع الجنوبي الجنوبي حاضرًا بقوة، وكان أكثر من احتشدوا -إن لم يكن كلهم- في المهرجان الذي أطلق عليه “إعلان عدن التاريخي” من أبناء محافظة الضالع التي ينتمي لها الزبيدي.
ثالثًا: كان واضحًا أن الخطوات التي أقدم عليها الزبيدي متسرعة وغير مدروسة، ولم تراعِ الأوضاع السياسية والعسكرية في البلاد، ولم تراعِ ماذا ستكون ردود أفعال السلطة الشرعية ودول التحالف العربي، واعتقد الزبيدي ورفاقه أن حالة التهييج الإعلامي المصطنعة ستساعدهم على تحقيق المزيد من المكاسب، غير مدرك أن التهييج الإعلامي ليس سببه إقالته من منصبه، وإنما بسبب أنه محسوب على دولة الإمارات، التي تريد أن يكون لها اليد الطولى وربما الكلمة الفصل في شؤون جنوب اليمن عامة ومدينة عدن خاصة، كما أن التهييج الإعلامي من أسبابه حالة الجمود السياسي والعسكري في البلاد، فوجد الإعلاميون في إقالة الرئيس عبدربه هادي لأبرز رجلي الإمارات في عدن (الزبيدي وابن بريك) من منصبيهما فرصة للإثارة الإعلامية، وهي الإثارة التي أغرت الزبيدي ورفاقه للإقدام على مغامرة سياسية ظنوا أن نتيجتها لصالحهم.
رابعا: كان للردود المتأنية والعقلانية للسلطة الشرعية ومجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية تأثيرًا كبيرًا في وأد المجلس الانتقالي الجنوبي في مهده، وشجعت كثيرًا من القيادات الجنوبية على تأييدها الصريح للسلطة الشرعية ورفضها للمجلس الانتقالي، بل فبعض القيادات التي تسرعت وأعلنت تأييدها للمجلس الانتقالي تراجعت عن مواقفها، وكانت النتيجة أن المجلس الانتقالي لم يتم وأده في مهده فقط، بل فقد كان بمثابة “انتحار سياسي” للزبيدي ورفاقه، وعلى رأسهم هاني بن بريك، وزير الدولة المُقال من منصبه والمُحال إلى التحقيق.
قنبلة موقوتة
لعل ما حصل في عدن يمثل درسًا بليغًا للسلطة الشرعية ودول التحالف العربي، للقضاء على الثغرات والاختلالات التي تراكمت منذ بدء عملية “عاصفة الحزم” وحتى الوقت الحالي، والمتمثلة في تعدد الوحدات العسكرية متعددة الولاءات في الجنوب، بين موالية للسلطة الشرعية، وأخرى موالية لدولة الإمارات، بالإضافة إلى تعدد الولاءات المناطقية والشخصية لبعضها.
والمطلوب هنا دمج مختلف الوحدات العسكرية في الجنوب مع بعضها، ونزع الصفة المناطقية وغيرها عنها تمامًا، وإلغاء المسميات المعروفة حاليًا بعد الدمج، مثل قوات “الحزام الأمني”، وقوات “النخبة الحضرمية”، وربما هناك وحدات وألوية عسكرية تتشكل بمعزل عن السلطة الشرعية ودول التحالف العربي، لتظهر في الوقت المناسب بغرض السيطرة والاستحواذ على كل شيء، أو تقف خلفها جهات خارجية، لتحركها في الوقت المناسب بغرض خلط الأوراق وإرباك الجميع بمعارك مفتعلة.
وعلى دول التحالف العربي أن تدرك طبيعة الواقع اليمني تمامًا، فجنوب الوطن ليس كشماله، ففي الشمال، أسهمت الحرب في تبلور ثلاثة اتجاهات: الانقلابيون ومؤيدوهم، والسلطة الشرعية ومؤيدوها، والفئة الصامتة المنهكة جراء تدهور الأوضاع.
أما جنوب الوطن، فهو يموج بحراك سياسي سلبي، أسهم في زيادة التفتت والانقسام الاجتماعي، ويعود ذلك لأسباب موروثة منذ عهد الحكم الاشتراكي في الجنوب، خاصة أحداث 13 يناير 1986، والتي ما زالت تداعياتها مستمرة حتى يومنا هذا.
إن استمرار الثغرات والاختلالات في جنوب الوطن من شأنه توفير بيئة ملائمة للتدخل الأجنبي في الشأن اليمني عن طريق الأذرع المزروعة في الداخل، ولتقليل مخاطر ذلك، ينبغي على السلطة الشرعية، وبمساندة التحالف العربي، اتخاذ إجراءات صارمة للقضاء على الثغرات والاختلالات المذكورة، وبناء الجيش على أسس وطنية.
*الموقع بوست