يواجه اللاجئون اليمنيون والسوريون في مصر، تحديا لا يقل صعوبة عن الحياة القاسية التي عاشوها في مناطق الحرب والصراعات. فرغم الأمان الذي يتمتعون به أثناء عيشهم في مصر، فإن مماتهم يشكل عبئا ثقيلا على الأسر المغتربة، لصعوبة توفير مدافن خاصة بموتى تلك الجاليات الكبيرة التي تقدر بمئات الآلاف، في العاصمة المصرية والمدن الأخرى.
ويفرض مبدأ التكافل الاجتماعي في الغربة نفسه على مجتمع اللاجئين العرب في مصر، إذ تساعد العائلات ميسورة الحال، الأسر الفقيرة في تدبير شؤون حياتهم، بجانب مساعدتهم في محنة الموت، ويقوم كبار قيادات الجاليتين السورية واليمنية والعائلات الغنية بشراء مقابر في أماكن مختلفة، منها مقابر البساتين (جنوبي القاهرة) ومدينة العبور (شرقي القاهرة)، بجانب مدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة (غرب القاهرة)، لدفن موتى أبناء جاليتهم دون مقابل.
من جهتها، تقول تهاني الهندي، عضو رابطة «سوريات»، لـ«الشرق الأوسط» إن «العائلات الغنية فتحت مقابرها مجانا لدفن الموتى السوريين، واشترى عدد من رجال الأعمال والأسر ميسورة الحال مقابر في مدينة العبور والسادس من أكتوبر، وتبرعوا بها لتصبح مقابر عامة لأبناء الجالية كافة».
وأضافت: «عائلات اللاجئين التي تعيش تجربة موت أحد أبنائها في الغربة للمرة الأولى تواجه تجربة قاسية للبحث عن مقبرة، فمعظمهم لا يعرف بوجود مقابر مجانية قبل خوض التجربة، فمنذ نزوحهم إلى مصر يدفنون موتاهم في المقابر العامة «مقابر الصدقة»، سواء الحكومية التي خصصتها الدولة لدفن موتى من لا يملكون مقابر من المصريين والأجانب ومجهولي الهوية، أو مقابر تابعة لجمعيات خيرية.
ومع طول سنوات الحرب، قامت السفارتان السورية واليمنية بشراء مقبرة بمدينة السادس من أكتوبر خصصتها لأبناء جاليتيهما.
ومن جانبها، تقول إلهام حسن حوى، مواطنة سورية، لـ«الشرق الأوسط»: «عشت تجربة شخصية قاسية عندما مات أحد أفراد عائلة زوجي، ولم نكن نعرف بوجود مقابر مجانية، وظللنا نسأل بعض العائلات الأخرى، لكن معظم العائلات لا تعرف بوجود هذه المقابر، فلا نعرف سوى المقابر العامة التابعة للحكومة المصرية، إلى أن عرفنا من إحدى العائلات أنه يوجد أكثر من مقبرة يمكننا أن نستخدمها، وبالفعل قمنا بدفن قريبنا في مقبرة بمدينة العبور تبرع بها أحد رجال الأعمال السوريين وخصصها لدفن أبناء الجالية الذين لا يملكون مقابر».
في السياق نفسه، تواجه العائلات اليمنية في مصر كذلك، مأزقا أكثر حدة بسبب اختلاف طريقة الدفن عن السوريين والمصريين، فبرغم وجود كثير من المقابر التي تبرع بها رجال أعمال وكبار العائلات لدفن أبناء الجالية اليمنية، فإن معظم هذه المقابر امتلأت ولا يمكنها أن تقبل مزيدا من الجثامين، فطريقة الدفن اليمنية تقوم على تخصيص قبر مستقل لكل ميت داخل المقبرة، ويمنع جمع الرفات بعد سنوات لدفن أموات جدد في المكان نفسه.
بينما يقول الأديب اليمني، الدبلوماسي السابق الدكتور عبد الولي الشميري، أحد أعيان الجالية اليمنية، الذين أطلقوا مبادرة لتوفير مقابر لليمنيين غير القادرين في مصر لـ«الشرق الأوسط»: «نقوم بجمع تبرعات من رجال الأعمال اليمنيين والعائلات الغنية لمواجهة مشكلة عدم وجود مقابر، وبالفعل اشترينا مقبرتين بمنطقة البساتين، لكنهما امتلأتا عن آخرهما، فاشترينا 3 مقابر جديدة بمدينة السادس من أكتوبر، حتى امتلأت أيضا».
وأوضح: «لدينا معضلة كبيرة في طريقة الدفن اليمنية، حيث يجب أن يخصص لكل ميت قبر مستقل، بشاهد مكتوب عليه اسمه وتاريخ وفاته، وتحفر القبور متجاورة داخل المقبرة، ولا يمكن أن تجمع الرفات بعد ذلك ليدفن مكانها وافد جديد، لذلك تمتلئ المقابر سريعا ولا تقبل المزيد».
ويضيف الشميري: «أعطينا تعليمات للمشرفين على المقابر (التربي) بأن يفتحها فورا لأي عائلة يمنية، ونحن نحاول شراء مقابر جديدة من التبرعات، لكننا ندرك أننا أمام كارثة كبيرة، فالتبرعات قليلة والمقابر أسعارها مرتفعة وتمتلئ بسرعة، ونأمل أن نتمكن من تخفيف معاناة أبناء الجالية الفقراء الذين يعانون من ظروف معيشية قاسية في الحياة والموت».
يشار إلى أن مصر تستضيف لاجئين من جنسيات كثيرة، وترفض القاهرة إقامة أي معسكرات للنازحين على أراضيها، لذا فهم يعيشون وسط المصريين، بالأحياء الشعبية والمدن الجديدة، بينما تعيش بعض العائلات الغنية بالأحياء الراقية، ووفقا لأحدث تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، بلغ إجمالي عدد اللاجئين المسجلين لديها 209.393 ألف حتى نهاية يوليو (تموز) 2017. لكن تقديرات أخرى تذهب إلى أبعد من ذلك، بسبب عدم تسجيل كثير من اللاجئين لدى المفوضية. وقدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي العدد بنحو 5 ملايين لاجئ، وذلك خلال كلمته أمام قمة اللاجئين بالأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2016.
ويقول فهد العريقي، رئيس مجلس أعيان الجالية اليمنية في مصر، لـ«الشرق الأوسط»: «في بداية الحرب كان يوجد اتفاق بين حكومة بلدنا وخطوط الطيران اليمنية يقضي بأن تنقل جثامين المتوفين في مصر إلى اليمن مجانا، وقتها كان لدينا نحو 13 رحلة طيران أسبوعيا من مصر لليمن، لكن مع تصاعد حدة الحرب وإغلاق المطارات وتوقف رحلات الطيران بدأت مشكلة البحث عن مقابر لدفن الموتى في مصر».
وأضاف: «مهما كانت المشكلات التي تواجهها العائلات اليمنية للبحث عن مقبرة لدفن موتاهم في مصر، فإن ذلك يعد خيارا أفضل كثيرا من محاولة إعادة الجثمان إلى مسقط رأسه، لأن التكاليف باهظة لا يمكن حتى للعائلات الغنية تحملها، إضافة إلى أن الطرق الداخلية في اليمن وعرة جدا وخطيرة، خلال الانتقال من مدينة إلى أخرى».
في السياق نفسه، تنضم مقابر اللاجئين السوريين واليمنيين إلى عشرات المقابر الأخرى الخاصة بالأجانب في مصر، التي تظل شواهدها باقية تؤرخ لحقبات وأحداث تاريخية محلية وعالمية، والتي يعد أكثرها شهرة مقابر «الكومنولث» التي تنتشر في عدد من المحافظات المصرية، وتضم رفات الجنود الأجانب من ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومقابر اليهود بمنطقة البساتين (جنوبي القاهرة)، إضافة إلى كثير من مقابر الأجانب غير الشهيرة، التي يحوي بعضها رفات مشاهير أجانب عاشوا بمصر في حقبات تاريخية مختلفة، منها مقابر الروم بمنطقة مجمع الأديان بحي مصر القديمة.
ا