قبل أشهر من وفاة الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي في 25 تموز/يوليو 2019، كان قيس سعّيد أستاذ القانون الدستوري رجلاً خارج النِزال السياسي. بعيداً عن صرح الجامعة، لم يكن الأكاديمي سعيّد وجهاً مجهولاً بالنسبة للعامة، بل من خلال ظهوره المنتظم منذ ثورة 2011 على وسائل الإعلام التونسية ليحلل تعديل الدستور والمطبات القانونية المرافقة له، بات وجهاً مألوفاً لدى المشاهدين والمستمعين.
بنبرته الهادئة ونسق صوته المميّز المسترسل بشكل مذهل والمحافظ على مخارج حروف عربية سليمة وجديّته الأقرب إلى الصرامة، عُرف سعيّد لدى العامة بلقب “روبوكوب”، وهي شخصية إنسان وروبوت في آنٍ واحد ظهرت في فيلم خيال علمي أمريكي شهير.
نظيف…زاهد…لكن محافظ
“شعرت أنه صادق…لقد صدقته…إنه رجل قانون ربما ستتحسن أوضاع البلاد معه”، هكذا يقول ناخب تونسي متحدثاً لقناة أجنبية بعد ساعات من إعلان النتائج الأولية مساء 13 تشرين الأول/أكتوبر التي تشير إلى فوز سعيّد رئيساً لتونس بأكثر من 70٪ من الأصوات.
وُصف سعيّد بالرجل “النظيف” منذ أعلن بشكل مفاجئ في آب/ أغسطس الماضي ترشحه للانتخابات الرئاسية، لكن نظافة اليد لم تكن كافية برأي الكثيرين، فلم يعيروه اهتماماً. لكن فيما كان بقية المرشحين للرئاسة من ممثلي الأحزاب والمنظمات والشخصيات العامة يحشدون أنصارهم في الحملة منفقين أموالاً طائلة، ومستنفرين قنوات تلفزيونية ، معتمدين على رصيد من التجارب السياسية المتنوعة، كان سعيّد يمضي إلى لقاء الشباب في المقاهي، متنقلاً من جهة إلى أخرى معتمداً على تمويل ذاتي بسيط وحماسة شبان لطالما شعروا بتهميش السياسيين لهم وبزيف وعودهم. وربما لهذا وعلى نحو مفاجئ، صوّت الشباب بكثافة لسعيّد في الدور الثاني.
تجنّد مئات من الشباب ممن درّسهم سعيّد في الجامعة وآخرون من خارج الدوائر الأكاديمية لمعاضدته في حملته، من بينهم من تطوع بسيارته لنقل المرشح إلى الجهات الداخلية، فيما اختار آخرون المساعدة في نقل الناخبين بتقاسم سياراتهم معهم، مشاهد جديدة على المناخ الانتخابي في تونس، وكأنها “دمقرطة” للماكينة السياسية.
لم يتمكن سعيّد من توفير مبلغ الائتمان الانتخابي الذي كان عليه دفعه مع التزكيات في ملف ترشحه والمقدر بنحو 10 آلاف دينار (حوالى 3200 دولار أمريكي) لكن أصهاره تكفلوا بجمعه. ويؤكد أنه لم يساهم إلا بـ 50 ديناراً (حوالى 17 دولاراً) دفعها مع التزكيات. رفض كذلك الحصول على تمويل عمومي تسمح به الدولة في حملات المترشحين، وأدار ظهره لرجال الأعمال رافضاً تمويلهم لحملته كذلك.
اكتشف الناخبون في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 15 أيلول/ سبتمبر الماضي كيف كانت حملة سعيّد الانتخابية تُدار من شقة بسيطة في عمارة سكنية. في تلك الدورة، أطاح سعيّد على نحو مذهل كل المرشحين حاصداً 18.4٪ من الأصوات يليه رجل الأعمال والاتصال نبيل القروي بـ 15.6٪.
ميول سعيّد الحقوقية والاجتماعية التي كشف عنها في الحملة الانتخابية، جعلته المرشح “المحافظ” بامتياز، فهو ضد المساواة في الميراث ومع تجريم المثلية الجنسية وضد إلغاء حكم الإعدام برغم أنه رجل قانون دستوري لطالما دافع عقب الثورة عن المكتسبات الحقوقية. هذا التوجه المحافظ جعل معسكرات حزبية تصنفه “رجل الإسلاميين” وهو نعت يرفضه سعيّد.
“استقامة” سعيّد التي يراها ناخبوه تكسر الصور السلبية عن رجال السياسة والحكام عموماً، لا تكفي بنظر آخرين ليدخل قصر قرطاج، فلم يُعرف عنه بأنه “رجل دولة” قادر على القيادة في مرحلة حرجة من عمر تونس اقتصادياً وسياسياً بعد 8 سنوات على الثورة.
مسيرته وحياته
ولد قيس سعيّد في تونس في 22 شباط/فبراير 1958 في أسرة مثقفة أصيلة مدينة بني خيار (محافظة نابل)، لأب موظف في البلدية ولأم متعلمة ومثقفة لكنها ربة بيت. ترعرع في رادس ضواحي تونس الجنوبية وحصل على شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي العام في 1985، ثم دبلوم الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري في 1986. درّس القانون في كليات مختلفة، من بينها كلية الحقوق والعلوم السياسية والاقتصادية بتونس. عمل في نهاية الثمانينيات على مشروع تعديل ميثاق الجامعة العربية ثم عمل مستشاراً للمعهد العربي لحقوق الإنسان بين 1993 و1995 وشغل منصب مدير قسم القانون العام بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية في سوسة (شرق تونس) بين 1994 و1999.
تعرّف التونسيون على زوجة سعيّد القاضية إشراف شبيل حين صوت الزوجان في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية منتصف الشهر الماضي. لسعيّد بنتان وولد لم يظهروا في الإعلام بعكس مرشحين آخرين حرصوا على إقحام الأسرة في المشهد الانتخابي.
وعد سعيّد بأنه في حال فوزه في الانتخابات لن يدخل قصر قرطاج بل سيبقى في بيته البسيط في حي شعبي.
لكن هذه “المثالية” لا يستسيغها البعض في تونس ويراها مبالغة بعض الشيء.
استقامة وزهد ومثالية… ثالوث لا يقنع قواعد انتخابية، هكذا ظن مرشحون بارزون للرئاسة، مستهزئين بصورة سعيّد التي ظهر فيها متمسكاً بتلك الصفات “غير الواقعية” أمام تغول ماكينات الإعلام التي كانت تساند منافسه نبيل القروي رجل الأعمال والإعلام صاحب قناة “نسمة” التلفزيوينة.
في المناظرة التي جمعت سعيّد والقروي يوم 11 تشرين الأول/أكتوبر لم يتردد القروي الليبرالي في الضرب تحت الحزام، هو الخارج من السجن لإكمال حملته الانتخابية بعد اتهامه بتبييض الأموال، تعمّد التلميح إلى أن سعيّد مريض سرطان سابق لكن سعيّد رد بهدوء أن السرطان الحقيقي هو الفساد. انتقل القروي بعد ذلك محاولاً الحطّ من قدرة خصمه على تنفيذ برنامجه، واصفاً إياه بـ “والت ديزني”، فما كان من سعيّد إلا أن دعاه إلى عدم الاستهانة ببرامج الشباب والتهكم عليها.
برغم أن القروي رجل اتصال محنك، كان حضوره دون المؤمل في تلك المناظرة، بل فاجأ مراقبين. فلعبة الصورة والخطاب الإعلامي والاتصال أفلتت منه أمام سعيّد، وكان لهذا الحضور المتواضع للقروي الذي تلعثم أكثر من مرة، انعكاس مباشر في التصويت يوم 13 تشرين الأول/أكتوبر إذ تراجعت نوايا التصويت له بشكل كبير.
جيزيل حليمي واليهود وفلسطين
يُعرف عن سعيّد مناصرته للقضية الفلسطينية التي خصص لها جزءًا من خطابه فور إعلان استطلاعات الرأي فوزه مساء 13 تشرين الأول/ أكتوبر. وحين اتهم بمعاداة اليهود، قال سعيد إنه يفتخر بانتمائه لأسرة كان الوالد فيها قد حمى يهود تونس من أيادي النازيين في أربعينيات القرن الماضي، وكرر في المناظرة أمام القروي أن والده حمل جيزيل حليمي الكاتبة والحقوقية والنسوية التونسية الفرنسية الشهيرة يهودية الديانة، على دراجته.
صوت الشباب
وفي انتظار إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نتائج السباق الرئاسي رسمياً، أكد استطلاع رأي لمؤسسة “سيغما كونساي” أن سعيّد تقدم بنحو 76,9 % من الأصوات مقابل 23,1 % للقروي. وقالت مؤسسة “إيمرود كنسيلتنغ” إن سعيّد حصد 72,5 % من بطاقات الاقتراع مقابل 27,5 % للقروي.
وأشارت الاستطلاعات إلى أن 90 ٪ من الناخبين ممن أعمارهم بين 18 و25 سنة صوتوا لسعيد.
ومن المنتظر تنصيب سعيد رئيساً في 26 تشرين الأول/أكتوبر، هو الذي قال في كلمة عقب إعلان فوزه إن الشعب التونسي “فتح صفحة جديدة في التاريخ وأعطى درساً للعالم بثورة ذات مفهوم جديد تتمسك بالشرعية الدستورية”، مؤكداً أن تونس بحاجة لتجديد الثقة بين الحاكم والمحكوم وأن عهد الوصاية قد انتهى.
مع الشباب وبهم، اقتحم سعيّد عرين الأسد في الانتخابات الرئاسية، مستنداً إلى فئة أدارت ظهرها للأحزاب ولقنتها درساً بهزيمة مدوية بعثرت الأوراق السياسية في تونس وأطاحت رموز الفساد ولو رمزياً.
كيف سيدير أستاذ القانون الدستوري السلطةَ التنفيذية في البلاد؟ هو المتعفف عنها، كيف سيوفق بين أدبيات فكره القانوني ومبادئه التي دافع على نقائها برغم سخرية اللوبيات السياسية والمالية والإعلامية منه وبين التحديات الثقيلة التي تنتظره في قصر قرطاج؟