ما أن سقط نظام القذافي في عام 2011 في ليبيا وتبعه انهيار السلطة المركزية سريعاً، تنافست مجموعات مسلحة عديدة على السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الليبية الغنية بالنفط، ومنذ ذلك الحين أصبحت ليبيا معركة لقوى خارجية تحمل مصالح متنافسة ورؤى متضاربة.
وبعد أسابيع قليلة من انتخابات يوليو 2014، تمكنت قوات فجر ليبيا – وهو التحالف الذي يقوده الإخوان المسلمون الليبيون – من السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس. وقاموا بإعادة إدارة المؤتمر الوطني العام هناك، وهذا دفع الحكومة الليبية المعترف بها دولياً إلى الانتقال نحو طبرق الواقعة على ساحل البحر المتوسط وبالقرب من الحدود المصرية.
وعلى الرغم من كثرة الجهود الدبلوماسية المبذولة وجهود الأمم المتحدة للتوسط بين الفرقاء الليبيين لنزع فتيل الأزمة إلا أن حقيقة تمكن الطرفين من الحصول على دعم خارجي جيد أطال عمر الأزمة وحال دون تنازل أحد الأطراف عن أجندته لصالح الآخر.
الإمارات وقطر، دولتان خليجيتان لعبتا دوراً محورياً لرعاية الثور ضد القذافي بداية، لكنهما بعد ذلك ظهرتا كمتنافستين في إطار جيوسياسي أوسع.
فالإمارات إلى جانب مصر وروسيا تقدم الدعم الكبير لحكومة طبرق، أما قطر وحليفتها تركيا والسودان يقدمان الدعم للحكومة في طرابلس.
إذا، فالحرب الدائرة في ليبيا هي حرب بالوكالة بين أبوظبي والدوحة، وهي انعكاس للانقسام داخل مجلس التعاون الخليجي والذي أثبت تأثيره الكبير على تشكيل النظام السياسي الليبي خلال مرحلة ما بعد القذافي.
في قلب المنافسة الإماراتية القطرية في ليبيا تكمن قضايا سياسية حساسة للأمراء الخليجيين. على وجه التحديد، فكيف يمكن أن تتفاعل الأسر الحاكمة في مجلس التعاون مع صعود الحركات الإسلامية الشعبية مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي تعزز المؤسسات الديمقراطية وتتبنى قضايا العدالة الاجتماعية في جميع أنحاء المنطقة.
بطبيعة الحال، شعر الأمراء في الخليج بحالة من القلق والخوف من أن تتسبب التحركات المناهضة للحكومات في بلدان مثل مصر في إعطاء الزخم لجماعات المعارضة في دول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، فإنه مع صعود الأجنحة السياسية للإخوان المسلمين في بلدان متعددة من خلال الانتخابات في بلدان الربيع العربي، فقد جاءت استجابات أمراء الخليج بشكل مختلف تجاه الصعود الإسلامي خلال عامي 2011 و2012.
في أحد نهايتي الطيف، تبنت دولة الإمارات العربية المتحدة لسنوات طويلة سياسة خارجية معادية للإسلاميين. منذ عام 2011، استثمرت أبوظبي موارد كبيرة في الجهود المبذولة لمواجهة صعود جماعة الإخوان المسلمين وعلى الأخص في مصر وليبيا.
على الطرف الآخر، قدمت قطر الرعاية لأفرع جماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم العربي، ورأت هذه الفصائل رافعة هامة لبسط تأثير الدوحة وتعزيز نفوذها الجيوسياسي.
المملكة العربية السعودية، القوة الأكبر في المجلس، وقفت في موقف ما في الوسط. وقد انحازت السعودية إلى الإمارات العربية المتحدة في مصر وقدمت استثمارات بقيمة مليارات الدولارات لدعم إطاحة الجيش المصري بالرئيس المنتمي للإخوان المسلمين «محمد مرسي» خلال عام 2013. ولكن في سوريا، عملت السعودية مع الدوحة في تقديم الدعم الخلفي للمتمردين الإسلاميين السنة الساعين للإطاحة بنظام بشار الأسد.
سياق تاريخي لطرق التصرف:
يرجع تركيز أبوظبي اهتمامها لمواجهة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء المنطقة إلى قلقها من إمكانية قيام الحركة بتحدي الوضع الراهن في الإمارات خاصة في الإمارات الأكثر فقراً حيث عزز الإخوان قاعدة للدعم استمرت عبر عدة عقود.
خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، شن الرئيس القومي في مصر جمال عبدالناصر حملة على جماعة الإخوان، ففر العديد من أعضاء الجماعة إلى منطقة الخليج. بعد حصول دولة الإمارات العربية المتحدة على استقلالها عام 1971،انتقل العديد من قيادات الجماعة إلى الإمارات. ونظراً لكونهم يتمتعون بمستوى تعليمي جيد، فقد حصلوا على مناصب بارزة في السلطة في القطاعين العام والخاص، واكتسبوا نفوذاً في السلطة القضائية ونظام التعليم في البلاد.
بعد فوز الإخوان المسلمين في مصر بانتخابات عامي 2011 و2012. توترت علاقة أبوظبي مع القاهرة، واتهم المسؤولون في أبوظبي الحكومة المصرية التي يقودها الإسلاميون بالتعدي على سيادة وسلامة الدول الأخرى.
وفي أعقاب إطاحة الجيش المصري بـ«محمد مرسي» في عام 2013، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة حزمة مساعدات بقيمة 4.9 مليار دولار لصالح القاهرة القاهرة، وتمت إعادة التحالف الفعال بين مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة.
أما قطر فقد حافظت على سياسة خارجية نشطة منذ عهد أميرها السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والذي وصل إلى السلطة بعد الإطاحة بوالده في انقلاب قصر عام 1995.
بدأت أولى خطوات الأمير حمد بإطلاق شبكة الجزيرة الفضائية العربية عام 1996، والسعي إلى علاقات أكثر انفتاحاً مع إيران، لتحصل قطر آنذاك على سمعة بأنها “العضو الهارب” ضمن دول مجلس التعاون الخليجي. وانتقد أعضاء المجلس الآخرين الدوحة لعدم اعتبارها في جميع الأحوال للمصالح الخليجية المشتركة. هذا بالإضافة إلى الانتقادات التي تلقتها الجزيرة في وقت مبكر من العام 2002 على إثر اعتراضات الدول الخليجية على تغطيتها للأحداث العربية المختلفة.
يضاف إلى ذلك، الشيخ “يوسف القرضاوي” كمصدر آخر من مصادر التوتر بين قطر وبقية دول مجلس التعاون الخليجي. فالقرضاوي وهو مصري الأصل، يعرف كأحد الزعماء الروحيين في جماعة الإخوان المسلمين وهو يعيش في قطر منذ الستينات.وقد أغضبت خطب القرضاوي رفاق الدوحة في مجلس التعاون.
انتقد حكام الإمارات قطر لعدم إسكاتها القرضاوي بعد أن اتهم دولة الإمارات العربية المتحدة بالانحياز «ضد الحكم الإسلامي». ووفقا لموقع ويكيليكس، فإنه في عام 2009، التقى ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد مع المسؤولين الأميركيين وأخبرهم بأن قطر هي جزء من الإخوان المسلمين، كما حثهم على تفحص سجلات موظفي الجزيرة للتأكد من ارتباط معظمهم بجماعة الإخوان المسلمين.
وبصرف النظر عن ذلك، فقد كانت الشبكة تكتسب شعبية في العالم العربي، حيث إنه، وبحلول عام 2011، أشاد الكثيرون بقناة الجزيرة كمشجع للتغيير الديمقراطي والثورات الشعبية. ومع ذلك، فإن الأنظمة الاستبدادية في المنطقة ، التي تنظر إلى الإخوان المسلمين باعتبارهم تهديدا وجوديا، سرعان ما رأوا قناة الجزيرة كسلاح سياسي في الدوحة، والتي تستخدم فقط لإثارة المتاعب.
لاحظ نقاد قطر أن «القرضاوي» كان أحد الضيوف الأكثر شعبية على شاشة الجزيرة. ووفقا للإندبندنت البريطانية فقد سافر المرشح الرئاسي المنتمي للإخوان المسلمين، خيرت الشاطر إلى الدوحة في أذار 2011 لمناقشة التنسيق بين الإخوان، وحزب الحرية والعدالة (الجناح السياسي للحركة في مصر)، وقطر في المرحلة المقبلة.، ما أعطى الكثيرين فرصة للتكهن بأن القطريين كانوا يسعون للتأثير على نتائج الانتخابات الديمقراطية الأولى في مصر بعد سقوط مبارك عن السلطة و سرعان ما اكتسبت قطر والجزيرة سمعة بأنها من المؤيدين للإخوان المسلمين.
في أذار 2014، وصل هذا التوتر إلى مستوى جديد عندما انضمت كل من المملكة العربية السعودية والبحرين إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بسحب سفرائهم من الدوحة من أجل عقاب قطر على علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو الحدث الأول من نوعه في تاريخ المجلس.
اتهمت كل من أبوظبي والرياض والمنامة، قطر، بعدم الالتزام باتفاق الرياض المبرم في نوفمبر 2013 والذي يلزم دول المجلس بـعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، والامتناع عن دعم كل ما يهدد هدد أمن واستقرار غيرها من دول مجلس التعاون الخليجي بما في ذلك المنظمات والأفراد، كذا الامتناع عن أي تغطيات إعلامية معادية.
وبعد ذلك بثمانية أشهر، استضافت السعودية اجتماعاً اتفق خلاله الأعضاء الثلاثة مع قطر على إنهاء خلافهم. عاد السفراء السعودي والبحريني والإماراتي إلى الدوحة بعد أن قرروا أنه في ضوء الظروف الحساسة التي تمر بها المنطقة، فإنه من مصلحة جميع دول الخليج العربية أن تفتح صفحة جديدة في العلاقات بينها، وأن تستعاد الوحدة بين مختلف دول مجلس التعاون. قد خفت حدة التوتر بين المملكة العربية السعودية ودولة قطر بشكل كبير منذ تولى الملك سلمان العرش في يناير الماضي، هذا بالإضافة إلى تخفيف حدة مواقف السعودية ضد الإخوان في محاولة لتنفيذ استراتيجية سعودية جديد تقضي بتوحيد العالم العربي السني ضد النفوذ الإيراني وداعش.
التنافس السعودي الإماراتي
عكس السعودية، لم تخفف الإمارات من حدة عدائها ومواقفها تجاه الإخوان المسلمين، بل أبدات اعتراضها واحباطها من الإنفتاح الذي أبدت السعودية تجاه الحركة.
وفي الوقت الذي حافظت فيه الإمارات على عدائها للاسلاميين، بقيت ليبيا ساحة المعركة لهذا التنافس الخليجي.
وانتقل هذا التنافس إلى مدى أبعد إثر قيام طياريين إماراتيين بتوجيه ضربات تجاه معاقل الإسلاميين في طرابلس. ضربات جوية كانت عقيمة على مستوى التأثير الميداني حيث تعد هذه هي المرة الأولى التي تشن فيها الإمارات ضربات ضد دولة أخرى دون تفويض دولي وهو ما يعد منعرجاً خطيراً في السياسة الخارجية للدولة.
وفي الشهر الماضي، قامت صحيفة “نيويورك تايمز” بتسريب بعض الوثائق المتعلقة بشحن الإمارات لأسلحة للميليشيات الليبية الموالية لها في انتهاك للحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على توريد السلاح لليبيا بهدف إضعاف الجماعات الإسلامية المدعومة من قطر.
أظهرت رسائل البريد الإلكتروني المسربة قيام دولة الإمارات العربية المتحدة بعرض وظيفة مغرية براتب مرتفع على المبعوث الأممي “برناردينو ليون” الوسيط السابق للأمم المتحدة في ليبيا. ما دفع الكثيرين إلى التشكيك في جدوى الجهود الجارية للأمم المتحدة في ضوء التشكيك في نزاهة ليون نفسه بسبب تضارب المصالح.
وفي قمة “كامب ديفيد” التي جمعت أوباما مع زعماء دول الخليج العربية في وقت سابق هذا العام، قال أوباما للمسؤولين القطريين والإماراتيين أنه يفضل الحل السياسي الشامل في ليبيا، واتفق القادة الحاضرون ألا يقوموا على الملأ بانتقاد لعملية السلام الجارية، واتفقوا، كما هو الحال في معظم صراعات المنطقة، فإنه لا يمكن الاعتماد على الحل العسكري.
ومع ذلك، استمرت قطر والإمارات بالتنافس على النفوذ السلطة في ليبيا من خلال دعم موكليهم. ليبيا هي بالتأكيد ليست ساحة المعركة الإقليمية الوحيدة التي دعمت فيها قطر والإمارات العربية المتحدة طرفي نقيض، ولكن المخاطر في هذا البلد مرتفعة لأبو ظبي والدوحة على حد سواء.
رأى المسؤولون في أبوظبي صعود الجماعات الإسلامية المدعومة من قطر في ليبيا وسائر دول الشرق الأوسط باعتبارها تحركات مقلقة في المنطقة. وذلك بسبب الانعكاسات المحتملة على النظام السياسي والاقتصادي في دولة الإمارات العربية المتحدة على المدى الطويل.
ولأنها كانت ترى أن حزب الإصلاح يرغب في إسقاط النظام السياسي في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد سعت السلطات الإماراتية للقضاء على ما تسميه “الفرع الإماراتي لجماعة الإخوان المسلمين” واستعداء سائر أفرع الحركة في الشرق الأوسط. في إطار حملتها القانونية والسياسية والعسكرية ضد الإسلام السياسي، شاركت الإمارات العربية المتحدة حكومة طبرق إدانتها للحركات الإسلامية التي سيطرت على طرابلس خلال الستة عشر شهرا الماضية بتهمة الإرهاب.
ليبيا هي المكان الذي تبدي فيه الدوحة التزاماً قوياً تجاه حلفائها الإسلاميين، الذين أبدوا بأساً جيداً في العديد من المعارك ونجحوا في الحفاظ على الأراضي في مواقع استراتيجية، وتحمل الدوحة حاليا نصيبهم من النفوذ على الموائد المستديرة. في العام الماضي، وصفت هيئة الإذاعة البريطانية في 17 فبراير مجموعات فجر ليبيا بأنها “أكبر وأفضل المجموعات المسلحة في شرق ليبيا”.
يؤمن المقاتلون الموالون لفجر ليبيا أنهم يخوضون نضالهم ضد المستبدين الموالين للقذافي الذين يقاتلون ضمن صفوف القوات الموالية للحكومة المعترف بها دوليا في طبرق. في حين أن جهود قطر لخلق تحالف قوي مع مصر خلال فترة رئاسة الدكتور محمد مرسي لم يكتب لها النجاح، وهو ما دفع قطر للتركيز على ليبيا في سبيل تطبيق أجندة السياسة الخارجية الطموحة لقطر.
بنظرة مثالية، يعمل حكام قطر والإمارات على إحلال السلام وتعزيزه في ليبيا خاصة بعد إدارك الجميع بأن الاستقرار والأمن في بلاد شمال أفريقيا من شأنه أن يفتح العديد من الأبواب التجارية والاقتصادية إلى دول الخليج العربي.
ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي دعا الإمارات لتأييد ثورة الإطاحة بالقذافي بهدف تأمين الصفقات المربحة في البلاد بعد سقوط حاكمها الدكتاتور.خاصة بعد أزمة 2009 واتجاه الأنظار نحو الاستثمار خارج الدولة.
نظرت الشركات الإماراتية لليبيا على أنها صيد ثمين، فمجموعة الغرير وموانئ دبي العالمية واتصالات من بين كبرى الشركات الإماراتية التي أبدت رغبة في الاستثمار في مرحلة ما بعد القذافي بليبيا، لكن الاضطرابات السياسية في ليبيا وأعمال العنف قد تسببت في تعليق هذه الخطط.
وبالنظر إلى أن إعادة إعمار ليبيا في نهاية المطاف سيعتمد بالتأكيد على دعم من دول الخليج، فإنه من الحكمة أن تدفع كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر نحو تسوية دبلوماسية تهدف إلى تأمين حل طويل الأمد للنزاع بين الحكومتين في ليبيا.
تدرك الدوحة وأبوظبي أن أياً منهما لن تستفيد استفادة كاملة من ليبيا حتى يتم التوصل إلى تسوية سلمية، عن طريق زيادة عسكرة النزاع، فإن احتمالات الاستقرار في ليبيا سوف تقل بكل تأكيد.
إذا تمكنت كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر من تحويل تركيزها في ليبيا من القضايا العسكرية إلى الساحة الدبلوماسية، وأبدتا استعدادا لتقديم تنازلات جوهرية في هذه العملية، يمكن لهدف تحقيق السلام في ليبيا أن يصبح أكثر واقعية. في غياب ذلك، من المرجح أن تستمر الحرب بالوكالة في ليبيا لفترة طويلة قادمة، وسوف تستمر الدول المجاورة تعاني من الآثار الجانبية لزعزعة الاستقرار.