الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمضيق باب المندب أوجد له أهمية تجارية واقتصادية قصوى، جلبت بدورها حساسية عسكرية لهذا الممر المائي العالمي لمختلف القوى الدولية والإقليمية، في حين تتباين الجدوى للبلدين اللذين يقع المضيق في نطاقهما الجغرافي، وهما اليمن وجيبوتي، وعلى قرب شديد منهما إريتريا.
أصبح مضيق باب المندب أحد أهم الممرات المائية في العالم بعد إنشاء قناة السويس عام 1869، وأصبح يربط بينها وبين مضيق هرمز نقطة وصل لطريق التجارة العالمي الممتد من البحر الأبيض المتوسط مروراً بالبحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي والخليج العربي.
ويمتاز الممر بعرض وعمق مناسبين لمرور كل السفن وناقلات النفط على مسارين متعاكسين متباعدين؛ حيث يبلغ عرضه 30 كم وعمقه 100-200م.
ويعد باب المندب أكثر ممر تسير فيه السفن التجارية وناقلات النفط؛ حيث يستحوذ على 7% من الملاحة العالمية، و13% من إنتاج النفط العالمي (3.8 ملايين برميل نفط في اليوم عام 2013)، و21 ألف سفينة وناقلة تمر في الاتجاهين، بواقع 57 سفينة يومياً، وتعبر منه نحو 12 مليون حاوية سنوياً.
لكن أهمية باب المندب مرتبطة ببقاء قناة السويس أولاً ومضيق هرمز ثانياً مفتوحين للملاحة أمام ناقلات النفط خاصة؛ لأن أي تهديد لأي منها (باب المندب، هرمز، السويس) سيحول السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
– أفضلية يمنية
الممر، الذي يبدأ من رأس منهالي في اليمن وصولاً إلى رأس سيان في جيبوتي، يشترك في حدوده البحرية مع كل من إريتريا وجيبوتي واليمن، التي تمتلك الأفضلية الاستراتيجية للسيطرة على المضيق بفعل امتلاكها لجزيرة ميون “بريم” التي تبلغ مساحتها 13 كم² وفيها ميناء طبيعي في طرفها الجنوبي الغربي، وهو ما عرضها لاحتلال برتغالي وفرنسي وبريطاني.
أمام أفضلية اليمن للسيطرة على المضيق والاستفادة منه يبرز سؤال: هل استفادت اليمن من باب المندب اقتصادياً وتجارياً بحكم أهميته الكبيرة للعالم أجمع؟ أم أنه تحول من نعمة إلى نقمة؛ حيث حوّل اليمن إلى ساحة صراع إقليمي ودولي بسبب موقعها على المضيق؟
الباحث الاقتصادي هشام البكيري، أكد أن اليمن لم تستفد من الأهمية الاقتصادية الكبرى لباب المندب، ولم ترد إلى الخزانة العامة للدولة اليمنية أي عائدات من هذا المضيق.
وفي حديثه لـ الخليج أونلاين قال البكيري: إنه طوال فترات حكم الرئيس المخلوع صالح لم تنشأ أي مشاريع تنموية تهيئ لمشاريع استثمارية كبرى على طول الساحل الغربي المحاذي لباب المندب، أو على الجزر القريبة منه؛ كجزيرة ميون الاستراتيجية التي استخدمها البريطانيون محطة خدمة ترانزيت للسفن طوال فترة احتلالهم لجنوب اليمن”.
– مشروع النور
وتابع: ظلت مناطق باب المندب والسواحل والجزر القريبة منه منطقة مهملة عمداً من قبل النظام السابق، وجعلها محطة للتهريب وتجارة السلاح والممنوعات من وإلى الدول الأفريقية.
وأشار إلى أنه رغم استعادة السلطات الشرعية والتحالف العربي لباب المندب وجزيرة ميون من تحت سيطرة المليشيات الحوثية الانقلابية المدعومة إيرانياً، لم يتم إنشاء أي مشروع تنموي واستثماري، بل أقامت الإمارات قاعدة عسكرية على جزيرة ميون.
واختتم الباحث الاقتصادي اليمني حديثه بقوله: سيوفر باب المندب فرصاً استثمارية اقتصادية كبرى سترفد الاقتصاد اليمني بمليارات الدولارات، وستوفر عشرات الآلاف من فرص العمل لليمنيين، إذا ما أحسنت الدولة اليمنية إدارة موقعه وأحدثت بنية تحتية وإنمائية جذابة لإقامة مشاريع استثمارية، تستقطب رؤوس الأموال.
وفرّطت اليمن- لأسباب غامضة- بمشروع جسر النور الذي أقر إنشاؤه عام 2008 مع جيبوتي، تبنى في طرفيه مدينة النور كمدينة صناعية وسياحية وتجارية ومنطقة حرة، وبتكلفة تقدر بنحو 20 مليار دولار بالنسبة للجسر، أما تكلفة المدينتين فتصل إلى 50 مليار دولار.
وتكمن الأهمية الاستراتيجية للمشروع من موقع البلدين على خريطة التفاعلات الإقليمية والدولية في منطقة البحر الأحمر؛ حيث كان من المتوقع توفير 500 ألف فرصة عمل لكلتا الدولتين.
– الأطماع الاستعمارية
المحلل السياسي اليمني أحمد حميدان، قال إن اليمن على مر التاريخ تتأذى من الأطماع الاستعمارية لموقعها كنقطة وصل بين إفريقيا وآسيا؛ حيث تتوسط العالم موانئها التجارية، وأهمها عدن كمحطة وترانزيت للتزود بالوقود ومنطقة حرة.
وفي حديثه لـالخليج أونلاين أوضح حميدان أن انزلاق اليمن في فوضى يشكل تهديداً للمضيق، لهذا تتدخل كل الدول في شؤون اليمن تحت مبرر حماية المضيق الذي يعد ممراً مهماً للتجارة العالمية.
وأكد أن ارتباط المضيق بقناة السويس يعطي اليمن وموانئها – وفي المقدمة ميناء عدن – فرصة لتكون محطة ترانزيت لاستقبال السفن وتزويدها بالوقود، بالإضافة إلى تحويلها إلى منطقة حرة ومركزاً تجارياً يربط المنطقة بالعالم.
واشترط لذلك أن تكون اليمن قادرة على استثمار موقعها وقربها من الممر الدولي باب المندب من خلال تقديم الخدمات والتسهيلات للسفن، وعملية الشحن والتفريغ وإعادة التوزيع، والمنطقة الحرة كمركز تجاري منافس في المنطقة.
وأشار حميدان إلى أن عدم استقرار اليمن جعلها لا تجني أي منافع اقتصادية من المضيق، الذي أصبح تحت الحماية الدولية، وهذا التدويل أفقدها أي منافع مستقبلية، خصوصاً مع تضييق الخناق على ميناء عدن بفعل ما وصفها بـالسياسات الآيدلوجية للحكومات اليمنية المتعاقبة لتستفيد من ذلك مواقع أخرى، على غرار جبل علي في دبي، الذي لا يملك المقومات المتوفرة لميناء عدن.
– سباق دولي
واعتبر المحلل اليمني أن “باب المندب نعمة لكن من لا يعرف قيمة النعمة تتحول لديه إلى نقمة، ونحن في اليمن نِعَمنا صارت نقماً؛ مثل الثروة النفطية، والتنوع المناخي والجغرافي، والموقع الاستراتيجي، والموانئ التاريخية والمهمة، لم نعرف قيمتها، وما نعيشه اليوم نتيجة لذلك”.
وعن تسابق القوى الدولية على إنشاء قواعد عسكرية على المضيق، ولاسيما في جيبوتي، قال حميدان إن “ذلك يمثل موضة العصر الاستعمارية، ويضع اليمن في خانة الأطماع خاصة الجزر كميون وسقطرى، وهذا هو مبرر اهتمام الإمارات بتلك الجزر”.
وأما سبب تفضيل جيبوتي فيرى حميدان أن “القوى الاستعمارية الكبرى تنظر إلى المدى البعيد، وتبحث عن المناطق الأكثر استقراراً وضماناً لبقائها أطول مدة ممكنة، ولهذا فضلت جيبوتي ودول الخليج عن اليمن لعوامل الاستقرار والهدوء والأمان والتطويع”.
ووصف حميدان اليمن بـالعصي على التطويع.. فيه الإنسان لا يقبل وجود أجنبي على أرضه، وهو بلد الانقلابات والصراع على السلطة، حيث لا ضمان لبقاء الاتفاقيات المبرمة مع السلطة الحاكمة أكثر من فترة حكمها”.
– جيبوتي الكاسب الأكبر
مصائب اليمنيين من جراء باب المندب كانت فوائد لجيبوتي، التي أصبحت من أكثر الدول في الشرق الأوسط استضافة للقواعد العسكرية بخمس قواعد: الأولى فرنسية (900 عسكري، 34 مليون دولار الإيجار السنوي، الكبرى في أفريقيا، أقدم القواعد في جيبوتي)، وتستضيف قوات ألمانية وإسبانية، والثانية أمريكية (4000 عسكري، 60 مليون دولار الإيجار السنوي)، والثالثة إيطالية (90 عسكرياً، 34 مليون دولار الإيجار السنوي).
في حين كانت القاعدة الرابعة يابانية (600 عسكري، 30 مليون دولار الإيجار السنوي، أول وجود عسكري خارج اليابان منذ الحرب العالمية)، والخامسة صينية (10 آلاف عسكري، 20 مليون دولار الإيجار السنوي) في تحول في مسار السياسة الصينية التي كانت ترفض إنشاء قواعد عسكرية في الخارج، إلا أن الظرف الراهن يفرض ذلك لتأمين المصالح الصينية وهو ما يؤكده ينان جينغ الخبير الاستراتيجي في وزارة الدفاع الصينية في تصريحات صحفية.
ويبدو أن العدد لن يتوقف فجيبوتي رحبت في العام 2016 بإنشاء قاعدة سعودية على أراضيها، حيث باتت هذه القواعد المصدر الأساسي للدخل القومي لدولة جيبوتي التي تحصل على قرابة 250 مليون دولار، وهو ما يمثل ثلث موازنة البلاد البالغ سكانها نحو مليون نسمة، مقابل تأجير أراض لهذه القواعد، بحسب مركز مقديشو للبحوث والدراسات.
والمفارقة أن جيبوتي تعد ثالث أصغر دولة أفريقية، لا يملك جيشها إلا مروحيتين، و67 مركبة مدرعة، و76 قطعة سلاح خفيف، بينها مدافع متنوعة، وفقاً لموقع أرمي ريكوغنيشن الأمريكي.
وسعت القوى الكبرى لضمان السيطرة على المضيق من خلال الأمم المتحدة في عام 1982 لتنظيم موضوع الممرات المائية الدولية، ودخلت اتفاقيتها المعروفة بـ”اتفاقية جامايكا” حيز التنفيذ في شهر نوفمبر عام 1994، لكنها في ظل متغيرات القرصنة والإرهاب، وحرب الصومال، وأخيراً الحرب في اليمن، اتجهت لإقامة هذه القواعد لأغراض اقتصادية وعسكرية.
– الإمارات وإيران
استغلت الإمارات مشاركتها في الحرب اليمنية وسجلت حضوراً لافتاً في منطقة باب المندب، وبطرق متنوعة، من خلال بناء قاعدة عسكرية في جزيرة ميون اليمنية بعد استعادة السيطرة عليها من مليشيا الحوثي في أكتوبر 2015.
وكانت الخطوة الإماراتية تمضي سراً قبل أن يكشفها، في يوليو الماضي، موقع “جاينز” البريطاني المتخصص في الشؤون العسكرية.
والإمارات تشرف أيضاً على معسكر “خالد بن الوليد” بعد استعادته من الانقلابيين، حيث يؤمن ذلك الوجود الإماراتي في منطقة “باب المندب” بحكم قربه من المضيق.
سبق ذلك بناء وجود عسكري في إريتريا بالتزامن مع استخدام ميناء عصب الإرتيري لدعم عملياتها العسكرية في اليمن.
ومن الواضح أن إيران كانت تخطط للسيطرة على المضيق من خلال أدواتها، الحوثيين، وهو ما جعل القيادي في الحرس الثوري الإيراني سعيد قاسمي يصف ذلك بالانتصار الكبير.
وبعد إبعاد الحوثيين عن باب المندب عادوا لعمليات معادية من الساحل المطل على طريق الملاحة، حيث هاجموا فرقاطة سعودية وسفناً إماراتية وأمريكية (تحت مبرر النشاط العسكري)، وهو ما رد عليه الأمريكيون بقصف لمواقع رادارات على ساحل البحر الأحمر أواخر عام 2016.
تلاه نشر الولايات المتحدة المدمرة كول التابعة للبحرية قبالة اليمن لحماية الممرات المائية من المسلحين الحوثيين الموالين لإيران؛ حيث تنفذ دوريات وترافق السفن.
– مستقبل اليمن والمضيق
كل هذا الاهتمام من قبل القوى الكبرى والإقليمية للسيطرة على مضيق باب المندب يجعله مرشحاً بقوة لأن يتحول الفترة المقبلة لساحة لتصفية الحسابات بين الدول، خاصة في ظل التقاطعات والتجاذبات الدولية والإقليمية.
فالمضيق أهمية بالغة لمصر؛ خاصة أن نحو 98% من البضائع والسفن الداخلة عبر قناة السويس تمر من خلال المضيق، وعائدات القناة تتجاوز 5 مليارات دولار سنوياً.
كما يمثل محوراً مهماً للتحركات العسكرية الأمريكية، خاصة في استراتيجية إدارة ترامب، ولا يستبعد مراقبون أن يكون المضيق بوابة لتدويل الأزمة اليمنية.
وبحسب مراقبين فإن اليمن لن تستفيد من هذا المضيق إلا باستقرار سياسي وأمني وانفتاح واستراتيجية اقتصادية واستثمارية، وفي خلاف هذا فإنها ستستمر بالاكتواء بنار الصراع عليه، وبذلك فهي بين خيارين لا ثالث لهما.
*الخليج اونلاين