عدن نيوز – متابعات
قال الأمين العام للحزب الاشتراكي إن إطالة أمد الحرب المستمرة التي تجاوزت العامين، أصاب الشرعية الدستورية بأعطاب كثيرة تؤثر سلباً على شرعيتها وجعلتها مليئة بالقصور في إدارة البلاد وفي التعاطي مع أزمة البلاد بمسؤولية وكفاءة.
وجدد عبدالرحمن السقاف موقف حزبه الرافض للحرب التي تشهدها البلاد.
جاء ذلك في حوار شامل ومطول، حول الأحداث والتاريخ منذ أحداث يناير، واللقاء المشترك والانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وصولاً إلى انقلاب جماعة الحوثيين، مع مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
وقال ”نحن من الناحيتين التكتيكية والاستراتيجية ضد الحرب وضد استمراريتها ونددنا بها باستمرار استراتيجيا إنهاء الحرب والانقلاب ضمن خطة للسلام للحفاظ على البلد، وتكتيكيا إيقاف الحرب مهمة لكي تضيع أهداف أصحاب المشاريع السيئة“.
ودافع السقاف عن مواقف حزبه ضد الاتهامات التي تقال بأنه يتموضع في المنطقة الرمادية أو يتخذ موقفاً محايداً من الأحداث الجارية في اليمن منذ بدأت عاصفة الحزم.
واعتبر ذلك ”توصيفات غير صحيحة بل ومغرضة هدفها الإساءة إلى الحزب والتشويش على مواقفه“.
وعن رؤية الحزب الاشتراكي تجاه وحدة البلاد، قال السقاف أنه ”من المهم أن يكون هناك حق تقرير المصير للجنوب، لكن من منظور مختلف“.
وتابع ”إذ يظل حق تقرير المصير حلا جميلا يمنع أي تغول من قبل القوى السلطوية المتنفذة في الشمال للجنوب، لأنه لابد من ردع أي تغول“.
وتولى السقاف منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي في ديسمبر 2014، بعد ثلاثة أشهر من سيطرة جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء وقبل شهر واحد من إزاحة الجماعة للرئيس هادي ووضعه تحت الإقامة الجبرية قبل أن يتمكن الأخير من الانتقال إلى عدن.
نص الحوار كاملاً:
حاوره/ فارع المسلمي، رئيس مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية
* دعنا في بداية هذا الحوار نتحدث عن اللحظة: ما موقف الحزب الاشتراكي منذ بدأت عاصفة الحزم؟ وفي السياق ثمة أسئلة عديدة تنبثق من أقاويل كثيرة تجاه الحزب وتراه في المنطقة الرمادية؟
** ما يقال بأن دور الحزب غامض وأنه ضبابي أو محايد هي توصيفات غير صحيحة بل مغرضة وهدفها الإساءة إلى الحزب والتشويش على مواقفه.
بداية كيف يمكن للحزب أن يكون غامضا أو محايدا وهو يحدد مواقفه بالاستناد على مرجعيات وطنية تم التوافق عليها؟، وفي هذا السياق فإن الحزب الاشتراكي رسم خطه السياسي على أساس حماية مخرجات الحوار الوطني من الالتفاف عليها وفي المقدمة منها الحل العادل للقضية الجنوبية وجملة القضايا المتعلقة بالعدالة الانتقالية ووثيقة ضمانات تنفيذ مخرجات الحوار الوطني ومسودة أو مشروع الدستور الذي بنيت أبوابه ومواده على أساس مخرجات الحوار الوطني كما كنا حريصين أيضا على العمل من أجل تصحيح ما يخالف مخرجات الحوار الوطني في بعض المواد التي وردت في مشروع الدستور.
إن الذين يهاجمون الحزب ليل نهار في وسائلهم الإعلامية هم من رفض الحزب احتوائهم له وهم من سعوا إلى إسقاط مخرجات الحوار الوطني والتحايل على وثيقة الضمانات التي أشرت لها سلفا والذين أرادوا الالتفاف على مشروع الدستور والهاربون من استحقاقات العدالة الانتقالية؛ هؤلاء مجتمعون فجروا الحرب وانخرطوا فيها بحماس وهم الذين نقصدهم وهذا من (عبث الأقدار)، وفي سياقات هذه المواجهة لمجريات الصراع في اليمن لأي قوة سياسية أو مجتمعية لا تتموضع هنا أو هناك. ونحن بكل وضوح حددنا أين نتموضع على الأسس المبدئية التالية:
أولا: نحن جزء لا يتجزأ من الشرعية الدستورية والتوافقية السياسية فقد كنا ضمن اللقاء المشترك والذي كان طرفاً في التوقيع والالتزام باتفاق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.
ثانيا: الشرعية الدستورية والسياسية التوافقية التي تمثل السيادة الوطنية ومعترف بها دوليا وهي المؤتمنة في ذات الوقت على مخرجات الحوار الوطني.
ثالثا: هي كذلك شرعية تمثل الشمال والجنوب معا في الوضع السياسي الملتبس راهناً.
نحن ضمن هذا الاصطفاف.. إلا أنه وبعد مرور ما يزيد عن عامين ولا تزال الحرب مستمرة، أصيبت هذه الشرعية الدستورية في بعدها السلطوي والتنفيذي بأعطاب كثيرة تؤثر سلبيا على شرعيتها فهي مليئة مع الأسف الشديد بالقصور في إدارة البلاد وفي التعاطي مع أزمة البلاد بمسؤولية وكفاءة.. بل أنها تتسبب بالمقابل بإضافة تعقيدات كثيرة على المستوى السياسي في البلاد وأبرز تلك الأمثلة أن هذه السلطة عملت على إقصاء التوافق السياسي وانفردت بالقرار بطريقة فوضوية وبشيء من الاستبداد وأبرز مظاهرها تهميش الأحزاب السياسية التي شكلت عماد التوافقية السياسية التي بنيت على أساسها المبادرة الخليجية ولنا في هذا المضمار موقف نقدي لا يسمح بالتفريط بعدها بالشرعية.
ومنذ الإرهاصات الأولية لانفجار هذه الحرب كان الحزب الاشتراكي اليمني يحذر منها ونحن في الحزب من الناحيتين التكتيكية والاستراتيجية ضد الحرب في البدء وضد استمراريتها وهي الآن في مجرياتها لم تخلف سوى الدمار الشامل في البلد، ينبغي العمل على وقف هذه الحرب وإنهاء الانقلاب ولكن ضمن خطة للسلام تعمل على استعادة الدولة وتضمن احتكار الدولة للسلاح وتصفية مخلفات الانقلاب وخطة شاملة لمكافحة الإرهاب. ويساعد الحزب الاشتراكي ضمن هذه المسارات في تقديم المقترحات والعمل على التقريب بين وجهات النظر لجميع الأطراف المعنية. وفي هذا المضمار نحن ننخرط في الجهود الدولية مع الأمم المتحدة ومع جميع القوى السياسية المحلية.
* ذكرت ما أسميته الإرهاصات الأولية للحرب، ما هي أو كيف تجسدت على الواقع وتولدت عنها الحرب؟
** هذا سؤال مهم وأبرز مظاهره حينئذ بدأ في مؤتمر الحوار الوطني حيث اشتدت الاستقطابات السياسية داخل المؤتمر حول قضايا متعلقة بالقضية الجنوبية والعدالة الانتقالية وعدد من بنود الدستور.. كانت الانعكاسات الأولية بين صفوف القوى السياسية أن أحزاب اللقاء المشترك وقد دخلت في المؤتمر مشاركة بصفتها الخاصة وليس تحالف سياسي، والخلافات التي وجدت حول الموضوعات التي ذكرتها لك قبل قليل أعادت الاصطفافات بطريقة غرائبية حيث وقفت أحزاب وقوى تحالف 1994 معا في صف واحد. الإصلاح والمؤتمر كانت تجمعهم مواقف مشتركة وخاصة في القضية الجنوبية وجزئيا في العدالة الانتقالية والحزب الاشتراكي وقوى اليسار والقوى المجتمعية الحديثة كانت تجد نفسها في اصطفاف واحد لم يكن منظما. وكان هذا النوع من الاصطفاف يعني عند بعضهم مجرد مواقف وإنحيازات وخيارات شخصية وليست مواقف سياسية.
أما المظهر الثاني فكان يتجلى في غياب المعارضة السياسية السلمية بل نشأ فراغ في المعارضة إذ انتقلت أحزاب اللقاء المشترك إلى المشاركة في السلطة في حكومة الوفاق الوطني التي قامت على أساس المحاصصة وبالتالي بقي فراغ المعارضة يمتلئ شيئا فشيئا بالمعارضات المسلحة وأبرزها حركة أنصار الله (الحوثيون) وتعبيرات ميليشاوية أخرى متفرقة في أنحاء معينة من البلاد وبعضها تنظيمات متطرفة كالقاعدة وأنصار الشريعة إلى جانب عدم الانتقال الكامل للسلطة إذ بقي رئيس الجمهورية السابق يحتكم بألوية الحرس الجمهوري ذات الكفاءة العسكرية العالية.
وفي تلك الأجواء والمناخات السياسية كان واضحا أن الأمور تسير نحو الانخراط أكثر فأكثر في انحدار غامض في هاوية تجلت فيما بعد أنها الحرب. كان للحزب الاشتراكي مواقف واضحة ومعلنة مع تطورات الموقف وضمن مساعيه لوقف سلبياتها أو للحيلولة دون تدهورها بشكل متسارع ومتزايد ورفض الانخراط ضمن استقطابات سياسية حادة.
كما أطلق الحزب الاشتراكي تحذيرات مبكرة من أية محاولات لغزو الجنوب أو ممارسة السلطوية والقمع تجاه قطاع الحراك السياسي السلمي الجنوبي عند التعبير السلمي عن مواقفهم السياسية. إلى ذلك فقد عبرنا عن رفضنا للانقلاب على الشرعية الدستورية والسياسية التوافقية ورفض الإعلان الدستوري الذي قام به الحوثيون (أنصار الله) في فبراير 2015. كما رفض الحزب الانخراط في أية ترتيبات سياسية من طرف واحد أيا كان هذا الطرف إذ كانت هذه الترتيبات تخالف قرارات مجلس الأمن وتحديدا كذلك القرار 2216 والاتفاقات المبرمة بين القوى السياسية والتي تم التوقيع عليها بالإجماع وأهم تلك الاتفاقات كان اتفاق السلم والشراكة وكان ملاحظا في جملة تلك السياقات أن موقفنا السياسي واضحا.
* تمت مؤاخذة الحزب الاشتراكي اليمني على تمسكه باتفاق السلم والشراكة وإصراره على التعبير المتكرر عن التمسك به, وقد حسب هذا عليكم بأنكم قريبين من أنصار الله؟
** يا عزيزي هذا مجاف للحقيقة وفيه افتراء كبير.. اتفاق السلم والشراكة وقعت عليه جميع الأحزاب والقوى السياسية كما أن أنصار الله وقعوا عليه بعد تردد كبير وبضغوط من الأمم المتحدة ما يشي بأنهم هم أيضا لم يكونوا قابلين به. اتفاق السلم والشراكة تعاطى معه الجميع بروح ارتيابية تولدت عنها الحرب مع ملاحظة أن الطرف الانقلابي كان يضمر الحرب فأزمة الثقة بين الجميع كانت كبيرة والعجيب أن البعض وضع القرار 2216 في سياق رأى فيه أنه على نقيض اتفاق السلم والشراكة. ولعلمك إذا عملنا مقارنة بين بنود القرار 2216 واتفاق السلم والشراكة فإذا بها في معظمها متماثلة من حيث الغرض أو الهدف الذي تدل عليه باستثناء ما حمله القرار من توصيفات تتعلق بالانقلابيين. بل أن الملحق الأمني لاتفاق السلم والشراكة أشد صرامة مما ورد في الجوانب الأمنية والعسكرية وتسليم السلاح في القرار 2216.
* عبرتم عن رفضكم للحرب بينما شاركتم في مؤتمر الرياض الذي شرعن الحرب، كيف نفهم هذا الالتباس؟
** تسألني عن نفس القضية مرات ولا أدري إن كانت إجاباتي لم تقنعك فلا مناص من إعطاء إجابة موسعة أو مكثفة. عندما انعقد مؤتمر الرياض، كانت الحرب قد وقعت وكان هناك أمل بوقفها، وكان لابد من التمسك بأية فرصة لوقف الحرب وإنهاء الانقلاب. وكان هذا الأمل سيتحقق لو أن جميع أطراف الصراع في اليمن شاركت فيه خاصة وأن مجلس الأمن الدولي قد حث جميع الأطراف على المشاركة فيه. وفي هذا السياق كنا نرى أهمية أن يشارك أنصار الله (الحوثيون) في مؤتمر الرياض للحد من التداعيات. وقد وجدنا في رفض أنصار الله وحليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وعدم قبولهم الدعوة إلى المشاركة، أمرا سوف يجر اليمن إلى اشتداد الحرب وتحولها إلى صراع إقليمي على الأرض اليمنية. وكان حرصنا على المشاركة ينطلق من أن هذا المؤتمر فرصة لكي تقوم المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بدور الوسيط بين اليمنيين كما أوضحته لك في إجابة أخرى، لأن قيامهم بدور الوسيط كان سيجعل من الحلول ممكنة. غير أن الرياح جرت بما لا تشتهيه السفن. ومن جانب آخر حرصنا على أن تساهم مشاركتنا في إقرار الاتجاهات في أدبيات المؤتمر التي تساعد في عدم تأجيج الحرب، وذهبنا إلى هناك وبيدنا مبادرة لوقف الحرب، وتم استيعاب الكثير منها في وثيقة إعلان الرياض. هذا كان إسهامنا والمهم دائماً أن نقول رأينا ونحدد فيه مواقفنا بوضوح، ونتوجه إليها ببوصلة واحدة من أجل مصالحة وطنية بأفق العدالة الانتقالية، والحفاظ على المكتسبات الوطنية للحراك السلمي الجنوبي والثورة الشبابية الشعبية ببوصلة واحدة توجهنا إلى إقرار السلام في بلدنا.
* ماذا تبقى من اليسار بشكل عام في اليمن؟
** اليسار في اليمن بقي كفكرة لكن فكرة ممزقة. اليسار ما تبقى منه هو الحزب الاشتراكي والناصريون والأحزاب القومية كالبعث وحزب التجمع الوحدوي اليمني، من اليسار هذا الوجود.
* وكم تبقى من الحزب الاشتراكي؟
** لو نظرت حاليا، لم يعد الحزب كما كان. لكن الأهم أن الحزب موجود في كل أنحاء البلاد ويتفاوت حضوره هنا وهناك، وهذا الوجود المادي عن طريق أعضائه سبب لاستمراريته وقوته المعنوية. وهذه القوة المعنوية لا تستطيع سلبها من الشخص مهما عذبته ومهما كان. الشيء الذي يبقي الحزب الاشتراكي عند الناس هي قوة التصور، لدى الناس عن الحزب تصور أنه يشكل حلا إذا تمكن من تحقيق الفاعلية والحيوية السياسية، لكنه بالمقابل يعيش حالة عجز في تركيبته الداخلية.
* ما أسباب هذا العجز؟
** يعود السبب أن كل بقايا المراحل الصراعية لا تزال موجودة في قياداته، وهذا لا يخلق وحدة قيادة. إلى جانب أن هناك ممانعة أمام تمكين الجيل الجديد، هذه من المشكلات التي تحتاج إلى معالجة.
* إذاً مشكلة الحزب الاشتراكي اليمني مشابهة لمشكلة كل الأحزاب اليسارية؟
** نعم هي موجودة لكن تخف تدريجيا. ثم أن الحزب الاشتراكي عاش ما يشبه حالة الطوارئ من بعد حرب ١٩٩٤ (حرب علي عبدالله صالح وحلفائه الأولى على الجنوب)، تم التضييق عليه، ومضايقة أعضائه وإقصائهم ونهب ممتلكاته وحجز أمواله والاستيلاء على عقاراته خارج القانون وبتجبر سلطوي.
* هل أنقذ تحالف «اللقاء المشترك» – تحالف للأحزاب اليسارية واليمينية والإسلامية ضد علي عبدالله صالح استمر رسميا من 2003 حتى العام 2011 – الحزب الاشتراكي ام أضرّ به؟
** أنقذه. أولاً اللقاء المشترك ساعد على تكتيل المعارضة بعد أن كانت متفرقة. ثانياً، تمكن اللقاء المشترك من نقل المعارضة من معارضة اعتيادية يومية نقدية إلى معارضة تقوم بالممانعة والتعطيل على الأقل ولا تمرر ما يريده الحاكم. ثم شيئاً فشيئاً تحولت هذه المعارضة إلى معارضة جماهيرية. ومن بعد ذلك جاءت الثورة في العام 2011. وقبل الثورة اتى الحراك الجنوبي في العام ٢٠٠٧. هذه المراحل الثلاث (تشكيل اللقاء المشترك، الحراك الجنوبي، الثورة الشبابية في 2011) لعبت دوراً في هز النظام هزة قوية ليست سهلة. «اللقاء المشترك» ضيق من مجال المناورات التي كان يستخدمها النظام لتشتيت القوى السياسية ثم انتقل «اللقاء المشترك» إلى أن أصبح عنده برنامج سياسي واتخذ صيغة عملية تم اكتساب العمل السياسي بُعده المؤسسي في بلد تقوم فيها السياسة فقط باستخدام الأحزاب كدكاكين.
* لكن ماذا تبقى من اللقاء المشترك نفسه من بعد العام ٢٠١١؟ ألم يكن من المفترض أن يتلاشى اللقاء المشترك من قبل كونه في نهاية المطاف فكرة مناقضة للديموقراطية؟
** كيف يعني؟
* أنها تقوض مبدأ التنافس بين الأحزاب، بمعنى لم يعد هناك فارق بين “باتيستا وجيفارا” كما يقول البردوني؟
** لا.. اللقاء المشترك نحّى الأيديولوجيا بعيداً في العلاقة بين أحزابه واستبدل بها التقارب بالسياسة. أنت لابد أنت تأخذ بعين الاعتبار أن التنظيم الناصري حزب أيديولوجي وأن الاشتراكي حزب أيديولوجي وأن حزب الإصلاح حزب أيديولوجي عقائدي وهذه من حيث منشأها كلها أيديولوجيات متناقضة. «اللقاء المشترك» كان من أفضل التجارب في البلاد العربية ونجح في تنحية الأيديولوجية جانباً لصالح السياسة. والسياسة العملية لا النظرية هي الخروج من الأحلام الكبرى إلى الوقائع العملية وحاجات الناس. هكذا «اللقاء المشترك» وكل حزب من هذا اللقاء استفاد من هذه التجربة في تركيبته كما استفاد من ناحية أخرى بحكم الخصومات السابقة بين هذه الأحزاب نفسها والتي ذابت خلال العمل المشترك. كانت الأيديولوجيا تعبوية لحزب ضد الحزب الآخر والعكس بالعكس، فتجربة «اللقاء المشترك» تجربة ممتازة وفريدة في الوطن العربي ذلك أنها أنجزت شيئاً في مجال السياسة لمواجهة الاستبداد السلطوي وتفكيك بنية السلطة التي ترسخت بعد 1994.
* يعني هو تجمع ظرفي أو تكتيكي تقريبا؟
**السقاف: نبهتني لنقطة معينة، بالنسبة للحزبين الرئيسيين في «اللقاء المشترك»، الحزب الاشتراكي وحزب الإصلاح: حزب الإصلاح لديه تجاربه الخاصة في ممارسة السياسة وتم إعلانه عقب الوحدة مباشرة. بينما الحزب الاشتراكي كانت له تجربته أيضا في الحكم وفي المعارضة وتجربة اللقاء المشترك ساهمت في تعلم الأحزاب من بعضها البعض وتعلمت كذلك فن تأسيس وقيادة التحالفات بحيث تنتج سياسة عملية بمعنى آخر أن تجربة اللقاء المشترك علمت جميع أحزابه ما كان ينقص كل واحد منها.
* بس هذا التفريق ما بين حزب الإصلاح والحزب الاشتراكي هل يمكن إسقاطه بالمعنى الواسع على الفارق ما بين الزمان والمكان بشكل أو بآخر؟
** كيف؟
* على فارق ما بين الزمن. قبل أول جولة من هذا اللقاء كنت تقول لي أن اليمين يعيش دائما في المكان واليسار يعيش دائما في الزمان.
** صحيح، و«اللقاء المشترك» قارب بين الزمان والمكان أو اليمين واليسار بالمعنى الواسع. لقد قرّب الإصلاح إلى الزمان ودمج الاشتراكي بالمكان.
* ما هو الفارق بالزمان والمكان في هذه النقطة بالتحديد؟
** الزمان الذي أنا اقصده هو الزمن الحضاري ليس الزمان التوقيتي الاعتيادي. تعرف بأنه لا يمكن الفصل بين الزمان والمكان مهما كان. لكن في المسار التاريخي يكون بلدا متخلفا كمكان جغرافي أو بقعة معينة داخل زمن متطور. هنا أقصد الزمن الحضاري ومقاييس الحضارة. أنت تتكلم عن التعددية السياسية، عن حريات التعبير، عن حقوق الإنسان، عن إنسانية الإنسان العادي. لكن حينما تأتي ترى المكان الذي تتكلم فيه يكون السؤال: ما الصلة بين هذا المكان وبين المعايير الحضارية؟ وهل هناك قابلية للتطبيق؟ ولهذا لم ينجح اليسار لأنه يقيم في الزمان أكثر مما يقيم في المكان.
* على عكس اليمين؟
** نعم على عكس اليمين الذي هو دائما في المكان.
* هل ممكن تسترسل أكثر في شرح هذه النقطة؟
** أنت كيسار تريد أن تغير باتجاه ما هو أفضل وأرقى. واليمين يأتي يؤكد ذات الوعي القائم ولا يغيّر. أنت كيسار هنا معركتك كبيرة وهو ليس لديه معركة، لأنه مسؤوليته تجاه الأحلام الكبيرة للناس قليلة إن لم تكن منعدمة.
* ماهي علاقة الزمان بالمكان في يمن اليوم؟
** اليوم في اليمن الزمان (الزمن الحضاري) يتنازعه المكان. ستسألني كيف؟ اليوم المكان هذا يريد أن يلحق بالزمان وبالتالي يتقدم في هذا الاتجاه. اليوم الزمان بتعبيره العولمي يجرجر كل البلدان اليه، بمعنى آخر لا تستطيع أن تعيش خارج هذا الزمان اليوم. قبل أن تنتهي الحرب الباردة كان هناك ثلاثة عوالم مغلقة على بعضها: العالم الرأسمالي والعالم الاشتراكي والعالم الثالث. كان العالمان الأول والثاني يعيشان حالة سلام لكن حروبهما تتم في العالم الثالث، كميدان للمواجهة بالوكالة. عندما انتهت الحرب الباردة، كان في كل بلد يتم الحديث عن المصالحة الوطنية لأن تلك الحروب بالوكالة مزقتهم. الآن بعد انهيار الحرب الباردة، صار العالم واحدا لا تستطيع أن تميزه باعتبار أنه اشتراكي أو رأسمالي أو عالم ثالث.
مثلاً كيف يصنف العالم الآن؟ عالم واحد فيه دول الديمقراطية، ودول في المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية، ودول مارقة لا تعيش في هذا العالم لها رسالتها الخاصة، ودول ضعيفة وهشة، ودول منهارة وفاشلة. هكذا يتم تصنيف الدول في عالم واحد وليس داخل ثلاث عوالم كما في السابق. اليوم العالم اندمج مع بعضه البعض بحيث صارت مشكلة في بلد نائي تهدد المصالح الدولية والعالمية. انظر مثلا إلى قصة النيجيري عمر فاروق عبدالمطلب الذي حاول تفجير طائرة فوق ولاية ديترويت الأمريكية في أعياد الميلاد 2009، كان في اليمن وغادر منها إلى بلد ثالث وتم كشفه هناك قبل أن يصل إلى الولايات المتحدة. لقد جمع تطور التقنيات والاتصالات العالم في سياق واحد.
* لكن أليست هذه العولمة التي تتحدث عنها مختلة وغير متساوية بالمعنى المباشر؟ بمعنى آخر حينما نتحدث عن فكرة العولمة، هل يستفيد منها الشخص في أقاصي اليمن مثلا بقدر ما يستفيد منها الشخص في شيكاغو؟
** ليست متساوية لكن نحن في عالم يسير نحو الاندماج. لاحظ الآن السياق الدولي تغير. مثلاً تقنيات الاتصال، إذا أردت الآن أن تتحدث مع اي شخص قريب لك يشاهدك في الشاشة وأنت تشاهده في الشاشة وتتحدثون وأنتم في بلدين مختلفين. اختصرت هذه المسافة بالطيران أيضا. أنت مستفيد من تقنيات العولمة ولو فقط كمستهلك في كل حالاتك، لكن هذا دمجك مع العالم. حتى ولو كنت كائناً متخلفا في أقصى قرى اليمن، لا يزال بإمكانك أن تلاقي هذا النوع من الاتصالات. أنت تعرف أن بإمكانك التواصل مثلا من وصاب (منطقة ريفية في اليمن) مع مدينة شيكاغو في لحظة واحدة، هذا من تجليات العولمة.
* صحيح، لكن بهذا التفصيل الذي تتحدث عنه، فبإمكان الرعوي (الفلاح) في وصاب أن يتواصل مع مواطن في شيكاغو وبنفس الوقت بالإمكان أن يتواصل الإرهابي مع الإرهابي.
** هذا صحيح. وإلا لماذا يتأذى الغرب من الإرهاب الذي صممت نشأته من بعض الدوائر في الغرب هذه واحدة من المشاكل التي تنشأ فيها العولمة.
اليوم العالم اندمج في بعضه البعض بحيث تجد من الأحداث ما يتجاوز تأثير محليته إلى نطاق أوسع، قد يمثل مصالح أكبر، وأنت تعرف الكثير من الأمثلة.
أما أن العولمة مختلة أو غير متساوية فهذا صحيح، فهي تجمع كل المستويات التي شرحتها لك خلال ردي على سؤالك مسبقا، لكن لاحظ أن السياق الدولي تغير مع وجود تفاوت في الثورة العسكرية والاقتصادية والسيطرة على مقدرات العالم، وهذه في حد ذاتها تمنع المساواة وتصنع الاختلال إلى جانب سعي الدول العظمى وبالتحديد الولايات المتحدة، إلى مصادرة العولمة لصالح سياساتها.
هناك تفاصيل أخرى مهمة فيما قلت لك عنه، أن السياق الدولي تغير فأصبح – كما نلاحظ – أن قصة ما ربما تعتقد أنها معزولة، تجد لها صدى عالميا، وانظر مثلا قصة الفتاة اليمنية من محافظة حجة، والتي كان أهلها قد عملوا على تزويجها وهي قاصرة، أو الفتاة الباكستانية ملالا أو في الدفاع عن سجناء الرأي،، إلخ.
الأمثلة كثيرة, السيادة بالمفهوم التقليدي لم تعد موجودة، يتم التواصل اليوم عبر المجتمع المدني بمستوياته (العالمي أو الإقليمي أو المحلي) دون المرور بوزارة الخارجية لأي من دولنا في منطقتنا،، وثمة عشرات الأمثلة بإمكانك أن تسردها لتعرف أن العولمة تجعلنا في عالم جديد لكنها لم تزل في طور التشكل، وهناك ردات فعل عنيفة وصراع هويات بل ومن حيث لا تتوقع، تنفذ أمريكا وأوروبا تيارات وحركات انعزالية، وما ترامب ولويين وغيرهما، وفي بولندا وبعض البلدان، إلا أمثلة على ذلك، لكنها هي حركات في الاتجاه المعاكس للتاريخ، ظواهر مصيرها الاختفاء ” لا ولادة من دون آلام”
* دعنا نتحدث عن المكان بشكل أوسع، وعن اللحظة: ما موقف الحزب الاشتراكي منذ بدأت عاصفة الحزم في اليمن؟
** الحزب الاشتراكي وجد في هذه الحرب خطرا كبيرا. لأن هذه الحرب جرت في حالة وطنية مترهلة. لاحظ التقسيمات في اليمن الآن: شمال جنوب، زيود شوافع…إلخ. مع أن هذه تعبيرات غير حقيقية. تعبيراتها الحقيقية ليست بهذا الاكتمال والنضج، لكنهم أرادوا أن يفعلوها هكذا. لاحظ مثلا الفضائيات التي عبأت في هذا الاتجاه ونفخت في الحرب في بداياتها على هذا الأساس. نحن في الحزب الاشتراكي من الناحيتين التكتيكية والاستراتيجية ضد الحرب وضد استمراريتها ونددنا بها باستمرار، على أن تقف هذه الحرب لكن ضمن خطة للسلام. ووقف الحرب مسألة مهمة لأن كل المشاريع السيئة بهذه العناوين التي ذكرتها لك أعلاه من الممكن أن تتم وتترسخ يوماً بعد يوم لكن في سياقات الحرب فقط. ولكن من الممكن إنقاذ البلد من هذا التردي بوقف الحرب ضمن خطة للسلام. إذاً بالتالي استراتيجيا إنهاء الحرب والانقلاب ضمن خطة للسلام للحفاظ على البلد، وتكتيكيا مهمة لكي تضيع أهداف أصحاب المشاريع السيئة.
على أي حال الحرب أتت في حالة من الوفاق الدولي تجاه اليمن وهذا جيد وليس سيئ لأنه يمنع أن تتحول الحرب إلى حرب بين القوى الدولية كما في سوريا ويمنع تدويل الحرب.
* لكن الحرب في اليمن تأقلمت على الأقل؟
** أقلمتها في ظل عدم تدويلها يضعف نتائجها السلبية. بمعنى آخر صحيح هي متأقلمة ولكن ليست مدولة، عدم تدويلها يساعد على إيقافها. حتى الآن الضغط على أطرافها سواءً على الإقليمية أو المحلية هي ضغوط دولية.
* لكن أليس هذا الإجماع الدولي فقط لأن اليمن بلد هامشية في الصراع الدولي والإقليمي؟
** اليمن بلد في شبه الجزيرة العربية ثم أن موقعه الاستراتيجي واحد من أهم المواقع. بمعنى آخر لا يمكن أن تنقص أهميته التنافسية بين قناة السويس وباب المندب فهذا الموقع الاستراتيجي ببعده المكاني وأيضا واقع إلى جانب بلدان ثقيلة بوزنها العالمي (المملكة العربية السعودية) ودول الخليج العربي يجعل أهمية لإيقاف هذه الحرب، وأكرر مجددا ضمن خطة للسلام وإنهاء الانقلاب. وبالتالي يعني الأهمية الجيوسياسية في اليمن ليست خفيفة أو ضعيفة.
* لكن هذا لا يعني أن العالم لا يتجاهل اليمن، وإلا كيف تستمر الحرب هذه -إن كانت لا يجب أن تبدأ أصلا- حتى الآن؟
** صحيح لكن هذا ليس دليل على هامشية اليمن. بل دليل على العلاقة الوثيقة بين الدول الإقليمية المعنية والدول العظمى.. لهذه الدول مثلا حسابات تريد تصفيتها، وبالتالي لها صداقات دولية غربية أو شرقية تستطيع أن تطلب منها السماح في مدة الحرب، لكنها ستضطر لإنهائها في لحظة معينة.
* تعتقد أننا قريبين من هذه اللحظة؟ وأن اليمن لا يزال لديها فرصة للبقاء بلدا واحدا؟
** هناك فرصة حقيقية فقط لو أدركها السياسيون. انظر عند التقييم النظري لطبيعة الأوضاع التفكيكية السائدة بالبلاد في سياقات هذه الحرب الجارية، ثمة فرصة على النقيض جدا لأن تتم انفصالات باليمن وليس مجرد انفصال واحد. لكنها لم تتم ما يدل على أن وحدة البلاد لا تزال دوليا وإقليميا سياسة متبناة تجاه اليمن. سقطت الدولة وانهارت السلطة ولكن بقي بلدا واحدا حتى اللحظة. تصور من بعض التعبيرات اللافتة جدا على هذا الصعيد أن يظل البنك المركزي يحافظ على وحدة وتماسك البلد لأنه المؤسسة السيادية الوحيدة التي ظلت متماسكة حتى الآن (قبل نقل مقره الرئيسي إلى عدن) حيث يدفع كل المرتبات ولا يزال معنيا بذلك ويحصل كل المداخيل من أنحاء شتى في البلاد في ظل هذه الحرب، الأمر الذي يؤكد على ضرورة الحفاظ عليه بحيث لا تختل وظائفه التي يقوم بها بالممارسة وهذا شيء فعلا ملفت للانتباه. تجربة البنك المركزي في هذه الحرب تعطينا نموذج أن الاقتصاد ومصالح الناس الملموسة كيف تحل أزمات المجتمع. إذن، الحل يتطلب مقاربات مختلفة ينبغي أن تركز على الاستجابة لمصالح الناس بالطرق الملائمة في توزيع الثروة والسلطة مع تغير جذري لمضمون السلطة والدولة وشكل الدولة بحيث تساعد على العيش المشترك وتحافظ على كرامة ومصالح ومكانه كل أبنائه.
* الم تفاقم الحروب الأخيرة فرص وحدة هذا البلد؟
** نحن مثلا في الحزب الاشتراكي في البيان الختامي لمؤتمر الحزب أشرنا إلى أنه من المهم أن يكون هناك حق” تقرير المصير” للجنوب، لكن من منظور مختلف. إذ يظل حق تقرير المصير حلا جميلا يمنع أي تغول من قبل القوى السلطوية المتنفذة في الشمال للجنوب، لأنه لابد من ردع أي تغول. و”حق تقرير المصير” هو سلاح رادع يحافظ على استمرار الوحدة بقدر ما هو تمكين الجنوب من حقه وسيشكل له ضمانة من ممارسة جديدة من هذا النوع لكن الآن الظروف أثبتت أن هذا البلد في ظل انهيار الدولة والسلطة بقي واحدا وهو بقي كذلك لأن الحرب ليست مدوله، ومن هنا يجب الاستفادة من فرصة وحدة المجتمع الدولي في نظرته لليمن.
* لكن الوحدة التي تتحدث عنها لدى المجتمع الدولي من اليمن هي موجودة من العام 2011 ولم تخفف إطلاقا من الاحتقان المحلي أو من فرص الحرب بل فاقمتها؟
** لا، نحن الآن يجب أن نبتعد عن التصور القديم بأن الدول الكبرى والعظمى قادرة على فعل أي شيء وأنها هي المتحكم بشكل كلي بمصائر هذا العالم.. هي أيضا تواجه مشاكلها. التاريخ متحرك والتاريخ مليء بالمفاجآت. آخر كتاب كتبه ريتشارد نيكسون (الرئيس الأمريكي الأسبق) عام ١٩٨٩ كان متوجسا جدا من غورباتشوف (زعيم الاتحاد السوفيتي حينها) وقال بأنه شيوعي صلب. في نهاية الكتاب، أفرد نيكسون قسما لكيفية مواجهة خطر الاتحاد السوفيتي. كانت حتى كثير من مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية تمشي ضمن هذا النسق من الرؤية. لكن بعد سنة من كتاب نيكسون انهار الاتحاد السوفيتي. هذا الأمر الذي يدل على أن التاريخ مليء بالمفاجآت. وهكذا بإمكاننا التنبؤ بالأحداث لكن لا يمكننا التنبؤ بالمآلات بشكل كامل.
* بالحديث عن انهيار الاتحاد السوفيتي، أريد أن نعود إلى حديثنا في أول لقاء, ماذا تبقى من الحزب الاشتراكي اليمني بعد زوال الاتحاد السوفيتي؟
** أول شيء الحزب الاشتراكي اليمني يختلف عن بقية الأحزاب الاشتراكية كونه لم يتأسس بدعم من الاتحاد السوفيتي. هذا حزب اصيل وتأسس قبل دعم الاتحاد السوفيتي. بدأ مثلا من المكان وليس من الزمان. يعني كانت “الجبهة القومية” التي قامت بعملية تحرير الجنوب بالحركة الفدائية الكفاح المسلح ضد بريطانيا وهي نواة رئيسية من حركة القوميين العرب، وكانت تنظيما يضم منظمات سياسية عديدة. وهي حينما حررت جنوب اليمن لم يكن لها صلة بالاتحاد السوفيتي. وفي الشمال كان هناك الحزب الديمقراطي الثوري. وفي الشمال والجنوب كان هناك حزب كان اسمه الاتحاد الديمقراطي الذي كان للشيوعيين وكذلك حزب الطليعة الشعبي في الجنوب والشمال ومن ثم المقاومين الثوريين. كل هذه الكيانات (التي كانت بذرة الحزب الاشتراكي)، لم تتأسس بناء على صلتها بنشأة الاتحاد السوفيتي أو بدعمه.
* لكن استمرارية الحزب الاشتراكي أصبحت لاحقا محورية بوجود الاتحاد السوفيتي.
** (مقاطعاً) أنت تسألني عن الحزب وليس عن الدولة. الدولة لاحقا، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن) في مرحلة لاحقة بعد الاستقلال نالت دعم الاتحاد السوفيتي. هذا صحيح. لكن هناك فرق بين تاريخ الحزب وتاريخ الدولة. هذا أولا، وثانيا ما انهار في جنوب اليمن هي مؤسسات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ولم تصفى نهائيا إلا في العام 1994 من قبل سلطة نظام علي عبدالله صالح بعد الحرب. وبالرغم من أنهم استطاعوا تصفية الدولة في العام 1994، إلا أنهم لم يستطيعوا تصفية الحزب الاشتراكي لأن نشأته وحدوية وهو مع بقاء اليمن واحدا. كما لا يمكن ربط الحزب الاشتراكي بالضرورة ببعض خياراته الأيديولوجية لأنه حزب أثبت أنه يتطور فكرياً وسياسياً.
* أقصد في لحظة ما يرى البعض أن النزاع الدامي الذي جرى 1986 (بين أعضاء الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن) ومآلاته كان له ارتباط (ولو محدود) باختلاف رؤى مرتبطة بالاختلافات الموجودة داخل السوفيت حينها، أم أنه كان لها أبعادا مختلفة؟
** لا لا لها أبعاد مختلفة تماما. كان هناك صراعات داخل الحزب بخصوص قصة الوحدة وقصة انتهاج طريق غير طريق الاشتراكية، إلى جانب عدم رضى الإقليم بوجود دولة من هذا النموذج (اشتراكية) في المنطقة تحديدا. كل هذا لعب أدوارا مختلفة في الطريق إلى أحداث 1986. وعلى أية حال، بعض القضايا والأحداث لم تصل من الابتعاد زمنياً بحيث يتاح الحديث عنها بشكل واضح وكامل بعد.
أنا شخصيا لم أكن (يومها) في الموقع الذي يسمح لي بمعرفة تفاصيل دقيقة من هذا النوع، فقد كنت حينها عضوا عاديا في الحزب ليس في مستوى لجنته المركزية، وبالتالي ليست عندي معرفة بانعكاسات الصراع السياسي والأيديولوجي في الحزب الشيوعي السوفيتي أو الدولة السوفيتية على الحزب الاشتراكي في هيئاته القيادية العليا. لكن تجربة بناء الدولة في اليمن الديمقراطية عانت من مشكلات كبيرة إذ كانت دولة ذات موارد محدودة وفقيرة من ناحية، وكان البعض يربط صعوبات هذا التطور في القناعات الأيدولوجية التي تقاد بها البلاد، مع ملاحظة تنويعات تلك القناعات فإن حملة التطرف الأيديولوجي من ناحية، وأصحاب الجمود العقائدي وآخرين كانوا يرون أن النهج السياسي الأيديولوجي برمته لا يناسب تطور البلاد، كما أنه تم حشرها ضمن الصراعات الفكرية والسياسية على صعيد قضايا التحرر في المنطقة واستهلاكها وعزلها أيضا، مقابل الانفتاح على الدول العربية بدءا من تلك البلدان المجاورة للدولة حدوديا.
وثمة موضوع ثالث وكان محوريا وهو قضية الوحدة اليمنية وكيف يمكن تحقيقها وهناك من كان يرى بأن لا ضرورة لذلك، وأن من الممكن ترك الشطرين ليتطور كل منهما بطريقته الخاصة، وكان الخلاف هنا بين من ينطلق إلى هذه المسألة من منظور أيديولوجي طبقي متطرف يقابله تطرف آخر لا يجد أية جدوى من الانشغال بهذه القضية، بينما كان هناك من يرى العمل على إرساء سياسات بين الشطرين تقوم على عدم تدخل كل شطر في الشؤون الداخلية للشطر الآخر، والعمل على بناء مؤسسات اقتصادية مشتركة وتحقيق التعاون السياسي، والبحث عن مواقف مشتركة تجاه القضايا التي كانت محاورا للسياسات الدولية أو الاقليمية والتنسيق فيما بينها، والسماح بحرية تنقل المواطنين بين الشطرين بالبطاقة الشخصية وفتح الحدود بينهما.
أما الموضوع الرابع الذي شكل موضوعا للخلافات بين القيادة السياسية وخاصة في فترة حكم الجبهة القومية وقبل تأسيس الحزب الاشتراكي، أي حول التجربتين السوفييتية والصينية وأيهما يناسب درجة التطور الحضاري القائم في اليمن الديمقراطية، وأخيرا كانت هناك نزاعات فردية تمحورت حولها جماعات في إطار السلطة، وقد غذت هذه النزاعات الخيارات التي كان يتم التداول بشأنها حول بناء أو تأسيس الحزب الطليعي من طراز جديد، وتركيبة الهيئات العليا في السلطة مثل أن يكون الأمين العام للحزب هو رئيس مجلس الرئاسة أو هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى، ودوره ومكانته في بنية السلطة، إلى جانب بروز نفس مناطقي وشطري أخذ منحى تعبوياً وهذا بدأ يتبلور بوضوح في كلمات المتصارعين، وبشكل أساسي (جنوب /شمال)، فأحداث العام 1986 هي النتيجة النهائية لتراكمات خلافية وصراعية تناسلت بالتدريج وأخذت بعدا انفجاريا خلال محطتين، الأولى في العام 1978 راح ضحيتها الشهيد سالم ربيع علي سالمين رئيس مجلس الرئاسة، والانفجار الثاني في العام 1986 راح ضحيته الشهداء عبدالفتاح اسماعيل وعلى احمد ناصر عنتر وعلى شايع هادي وصالح مصلح قاسم، وجميعهم رموز وازنة في تجربة الدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبالتالي تلك الأحداث في جل أسبابها وعواملها هي أسباب وعوامل داخلية.
* إذا هذا يعني أن عددا من دول الإقليم لم ترغب بوجود دولة من هذا النوع في المنطقة في هذا المكان وذلك الزمان تحديدا، وذلك كان واحدا من الأسباب التي دفعت إلى قيام الوحدة في العام 1990 بذلك الشكل، هل هذا الاستنتاج صحيح ؟
** عدد من دول الإقليم المحيطة باليمن الديمقراطية باستثناء الشمال، هي ممالك وإمارات تحكمها عائلات ويتم تجديد الحكام فيها بنظم مختلفة من التوريث، واليمن الديمقراطية كانت تعتبر دولة قائمة على الإرادة الشعبية، بل تحولت إلى جسم غريب في المنطقة بتغذية كراهية تلك الدولة باستقرار نفسي أيديولوجي تراثي، بأنه لا يوجد دينان في شبة الجزيرة العربية، وعلى اعتبار أن الأيديولوجية الشيوعية نقيضة للدين الإسلامي، فاتخذ هذا البعد الفكري قاعدة للتعبئة الدعائية والإعلامية ضد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وعلى هذه القاعدة الفكرية تأسست المعارضة اليمنية الجنوبية التي كانت تقيم في تلك البلدان وتعرضت اليمن الجنوبية الشعبية في السنوات الأولى لقيامها لأعمال عسكرية تخريبية من الذين هزموا أمام الجبهة القومية بعيد الاستقلال مباشرة، فقد كانوا يقومون بتسميم الآبار وقتل المواشي وقتل المدرسين، وكان المسرح الرئيسي لتلك العمليات في الأرياف، وكان ذروة هذا النوع من المعارضة ضمن مخطط استخباراتي أمريكي، بالتعاون مع دول في المنطقة، وتعزز في أواخر السبعينات لحرق مدينة عدن بتفجير كل خزانات النفط التي توجد فيها وهي العصابة التي عرفت بعصابة “دهمس”.
في خضم هذه الصراعات والمصاعب الاقتصادية وشحة الموارد كانت البنية المجتمعية في الأرياف تتآكل. وجملة تلك المجامع بمختلف مراحل تطورها لا تلقي بالا للوحدة، بل أن بنية وعيها السياسي تتأسس على تعريف الجنوب اليمني بـ”الجنوب العربي” وهي يمينية في خياراتها السياسية وتفكيرها السياسي.
وهؤلاء من الجنوب أما اليمين السياسي في الشمال فلم يكن يرى في الوحدة اليمنية إلا توسعا جغرافيا للجمهورية العربية اليمنية، ويرى الجنوب مجرد جغرافيا بلا تاريخ، وهذه هي الخلفية لسياسات الضم والإلحاق التي مارسوها من بعد حرب 1994م، لكن الوحدة اليمنية وبالمفهوم الذي تأسست عليه نظريا وبموجب دستور الوحدة هي من منبع اليسار، وليست ردة فعل للتدخلات الخارجية. غير أن اليمين برموزه الرئيسية في الشمال (علي عبدالله صالح والشيخ عبدالله حسين الاحمر والشيخ عبدالمجيد الزنداني) انقلبوا جميعهم على الدستور الذي قامت عليه الوحدة وبسياسات الضم والإلحاق أنتجوا العوامل التي صنعت القضية الجنوبية.
* إذاً عدم رغبة الإقليم بوجود دولة بذلك الشكل في ذلك المكان والزمان تحديداً، كان واحدا من الأسباب التي دفعت إلى قيام الوحدة في العام 1990 بذلك الشكل؟
** تاريخياً كما قلت لك شيء واحد: الحرب الباردة كانت قائمة على صراع أيديولوجي بين جماعة الاشتراكية وبين الدول التي تتبع الفلك الرأسمالي. عندما انهار الاتحاد السوفيتي بدرجة رئيسية، انهارت الحرب الباردة. ثم ما الذي حصل؟ عودة كل شعب من الشعوب إلى تاريخه الخاص. وبالتالي انسحبت الأيديولوجيا إلى الوراء وبالتالي مثلا ألمانيا عادت ألمانيا، الشرقية والغربية لأن تاريخهم واحد. عادوا إلى تاريخهم الخاص وليس التاريخ العالمي. وكذلك بلدان كيوغسلافيا، كرواتيا أيضا عادت كرواتيا، وهكذا الأمر ينطبق على البوسنة والهرسك وألبانيا. الجبل الأسود عاد الجبل الأسود وذهب الصرب لأنفسهم. كل أمة عادت لتاريخها الخاص، وكذلك نحن اليمنيون عدنا إلى تاريخنا الخاص. لاحظ ما هو تاريخنا الخاص في هذه الحالة؟ لقد عدنا إلى تاريخنا الخاص بأفق تقدمي تحققت عبره الوحدة. هذا تاريخ قاسم مشترك بين الشطرين، عدنا إلى تاريخنا الخاص بأفق متقدم وهو شعب واحد ودولة واحدة. لكن ما يؤسف له إنها كانت وحدة استعجالية وفي نفس الوقت تم تحقيقها بين قوتين سياسيتين متناقضتين فكرياً وسياسياً وطبقياً، بل وتحققت بأسلوب فوقي سلطوي.
* وكأنك تفرق بين اليمن التاريخي الثابت وبين اليمن السياسي المتحول؟
** اليمن التاريخي كان له تعديلات أيضا. مثلا المانيا التاريخية، كرواتيا التاريخية، كما قلت لك عادوا كل إلى تاريخه الخاص. اليمنيون كان عندهم تاريخ خاص فالتاريخ الحديث تاريخ متقدم أيضا بشكل مشترك. حينما تتحدث عن ثورة سبتمبر 1962 (الثورة اليمنية ضد الملكية في الشطر الشمالي) وثورة أكتوبر 1963 (بداية الكفاح المسلح للتحرر من الاحتلال البريطاني في الشطر الجنوبي)، لا تستطيع أن تقول إن المشاركين في الثورتين كانوا من شطر واحد مستقل من الجنوب أو من الشمال، لقد جاؤوا إلى هذين الحدثين من كليهما.
* هل تعني أن الوحدة كانت موجودة بين اليمنيين قبل العام 1990 (عام الوحدة بين الشمال و الجنوب) وأنها في 1990 أجهضت و لم تتحقق؟
** لا. لم تكن هناك وحدة سياسية مطلقاً قبل ١٩٩٠ ولو بتعبيرات مختلفة. لكن الوحدة تحققت بطريقة استعجالية غير مبررة وبدوافع وطموحات شخصية تخللت هذا الحدث التاريخي الكبير في 1990 لكنها انهارت عملياً في ١٩٩٤ بالحرب.
* ألم تكن القرارات والخطوات الاستعجالية التي اتخذت في ١٩٩٠ قد أجهضت فرص الوحدة الحقيقية؟
** الطريقة صحيح كانت مختلة، الطريقة الاستعجالية في تحقيق الوحدة. انظر، الواقع الموضوعي في العام 1990 وحدث الوحدة كان أكبر وأعظم من الشخصيات التي تصدرت المشهد حينذاك. الذات أو الأفراد الذين حققوا الوحدة، هم أضعف بكثير من هذا الإنجاز الذي تحقق.
* هل يمكن عكس هذا التشخيص على ثورة 2011 أيضا والقول أن الذات لم يكن بحجم الفكرة؟
** مثلا إذا أخذنا الأمر بشكل سياسي فما حققته الوحدة هو أنها أسقطت نظامين استبداديين كانا يأخذان بعدا طبقيا وأعطت فرصة لحضور تاريخ جديد بأبعاده الشعبية والجماهيرية. جاءت التعددية السياسية والتعددية السياسية لا تزدهر بشكل أفضل إلا في ظل نظام ديمقراطي وهذا البعد في النظام أجهض في العام ١٩٩٤.
لكن ما حدث في ٢٠١١ كانت نتيجة تمخضت عن حدث كبير وأكلت الأطر الاستبدادية التي كانت موجودة. أولاً بداية في العام ٢٠٠٧عبر الحراك الجنوبي، ثورة في الكرامة والإنسانية، لعب هذا دورا، ولعبت المعارضة بدور لا بأس به، ثم جاءت ٢٠١١. في ٢٠١١ مع الأسف الشديد كما حصلت في بلدان الربيع العربي جعلوها حركات جماهيرية بلا ضفاف. لم يكن لها قيادة سواء في تونس أو مصر أو في اليمن. هذا الحدث الكبير للأسف لم يولد قيادة.
* لكن هذا نقد كلاسيكي الإجابة عليه هي كيف تولد قيادة وهي حركة جماهيرية قوتها في عدم وجود قيادة محددة لها يمكن قمعها أو احتواؤها؟
** عوامل الثورة كانت متوفرة. وبالمقابل انظر مثلا الدعم الدولي أثناء حضور الحركة المدنية واستقطابات الشباب التي جرت داخل هذه الحركات كلها، لم تجري بمعزل عن العالم. حينما ترى مثلا عدد التيارات والحركات التنظيمية الذي ظهرت في الميادين، هي ضخمة وكبيرة وكثيرة من حيث العدد. لكنها لم تستطع أن تتوحد. ألا تلاحظ ذلك؟ حدث لها نوع من التفتت. من الذي هندس ذلك؟ هذا سيظل سؤال يبحث عن إجابة.
* وهذا كان من مصلحة الخارج؟
** هذا التفتت جرى، بفعل أي فعل سواء كانت له خلفيات خارجية أم أنه نتيجة لأطر داخلية. لعبت الأنظمة نفسها دور في هذا التفتت باللعب السلطوية التي كانت لديها. كانت تخترق هذه الثورات وتؤسس وتستنسخ أيضا تنظيمات من هذا النوع، وتساعد على إيجاد كتل معينة تابعة لها. فظل الأمر هكذا. ظل المجرى يتدفق بالحيوية الشبابية ولكن تعددت فروعه فضاع. العالم اليوم يمر بأحداث كبيرة لا يمكن أن تتم في مجتمع مغلق لأن السياق الدولي كله تغير. مثلا، من كان يستطيع خلال الحرب الباردة أو حتى في العام 1990 أن يسافر بدعوة أي منظمة دولية للخارج إلا عبر وزارة الخارجية؟ اليوم التواصلات تتم بشكل مفتوح وبدون العودة للدولة. هذا التغيير في العالم ليس تغيير مؤامراتي، هو فقط مصير تاريخ العالم من ناحية الاندماج، أو ما يسمى بالعولمة، عالم واحد. وبالتالي السياق الدولي في العلاقات تغير مائة بالمائة. إذا كانت اليوم تحصل مشكلة على مواطن عادي ضمن مسألة قيمية، تتدخل المنظمات الدولية وتضغط على حكوماتها. هذا كله تطور تاريخي، والذكي فقط هو من يستفيد من هذا التطور.
* ومع ذلك لم تستفد منه مجتمعاتنا؟
** لأن مجتمعاتنا متخلفة حضارياً.
* بما أنك كتبت رسالة الماجستير عن التطور المعرفي في اليمن قبل الإسلام، برأيك ماذا سيسجل التطور المعرفي عن اليمن خلال الخمسين السنة الماضية؟
** أولا، تاريخ هذا الشعب حيوي. ثانيا اليمنيون كانوا يتفاعلون مع الأحداث الكبرى في العالم على غير النمط المعاش. يعني عندما قامت الثورات العربية القومية الكبيرة مثلا في بلاد الشام ومصر والعراق، كانت اليمن عندها ثورات أيضا. وعندما نشأ نمط معين في الحرب الباردة في تأسيس دول طبقية على أساس فكر اشتراكي كان هناك تجربة من هذا النوع لها صدى عالمي في اليمن وهي جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية. عندما جاءت العولمة وكان الناس يتحدثون عن الديمقراطيات الناشئة من بين كل البلدان العربية، كانت اليمن من ضمن نموذج الديمقراطيات الناشئة. بصرف النظر عن نجاح هذه التجربة أو فشلها، كل من هذه التجارب كانت تدفع خطوة إلى الأمام في تاريخ اليمن واليمنيين.
دعك من هذا، اليمنيون هم الذين أسلموا بدون قتال واليمنيون من المفاخر التي لديهم هي أنهم الوحيدون الذين أسلموا دون قتال لأنهم استوعبوا المسألة والفكرة. الخلفية التاريخية بالنسبة لهم كانت تعزز الفكرة. ودخلوا في الإسلام بل وحملوا مسؤوليات تاريخية. أظن أن التاريخ يسجل هذه القضايا لليمنيين.
* كأنك تريد القول بأن لا شيء يمكن فرضه أو انتزاعه بالقوة في بلد كاليمن؟
** نعم نعم. أنظر أيضا أول تعددية دينية وجدت في اليمن. كانت اليهودية موجودة والمسيحية موجودة حتى قبل أن يأتي الإسلام وهذا مذكور في النقوش، مذكور كذلك في القرآن وقد تحدث عن أصحاب الأخدود. التاريخ يسجل كل هذا.
* أنه تاريخ دموي لكنه حيوي في نفس الوقت؟
** نعم. ما سيسجله التاريخ أيضا هو أن اليمن في تطوره الداخلي لا يترك لوحده، وإنما يتم قطع تطوره من الخارج.
* هل ينطبق هذا “القطع” على ثورة ٢٠١١ و ثورات سبتمبر وأكتوبر من ستينات القرن الماضي؟
** يقطع تطوره بتدخل الخارج. لكن المهم هنا، هو أن كل هذه التدخلات الخارجية لم تستطع حتى اللحظة أن تقضي على قدرة تاريخ اليمن على السير إلى الأمام. وهذا ينسحب عن الخمسين عاما الماضية أيضا.
*يعني كاسرة ومندفعة هذه البلد كالنهرّ؟!
** نعم، لديها حضور قوي.
* هل الأحزاب اليمنية هي انعكاس لهذا النهر؟ ام أن سير اليمن للأمام غير مرتبط بالكيانات؟
** نعم هي مما كان يولده هذا النهر من الطاقات المحركة للتاريخ في اليمن.
* ينطبق هذا على الحزب الاشتراكي أيضا؟
** انظر، نحن في الحزب أولا كما قلت لك لا نريد أن نظل نسبح في الزمان ونريد أن نهبط إلى المكان، إلى الأرض. أولاً نحن كحزب يساري نريد أن نخوض تجربة مختلفة. من ضمن هذه التجربة، كانت جهود الحزب في «اللقاء المشترك» حينما اتخذنا أسلوبا في العمل السياسي ينطلق من مفهوم السياسة. بمعنى آخر، القيام بما هو قابل للإنجاز. لابد للسياسة أن تقوم بما هو قابل للتحقيق من الأحلام الواقعية ليست تلك الأحلام الكبيرة المغذاة بالأيديولوجيا، لكي يقترب الزمان من المكان. وفي هذا السياق قررنا في الحزب التفكير السياسي بتأن. من تجربتنا في المنظور الأيديولوجي، الإجابة جاهزة دائما وقد تناقض الواقع. وبالتالي حينما خرجنا إلى التفكير بإنجاز ما هو قابل للإنجاز، تطلب الأمر قراءة مختلفة للواقع.
بمعنى آخر، فهمنا مسألة النظرية أو التنظير ليس بالمعنى الكلامي أو بالمعني التجريدي الخالص أو التنظير حتى في تعبيره بمعناه الفلسفي. زمان حينما يقال “هذا يساري” كان معنى ذلك أن هذا منظّر ويٌعتبر كلامه كلاما فارغا. بينما التنظير هو الحصول أو التعرف على الأسئلة الحقيقية للواقع ومحاولة الإجابة على تلك الأسئلة. وبالتالي نحن قررنا أن نفكر بشكل متأن نبدأ فيه. ثمة تحولات تجري في البلد وفي المنطقة وعلينا أن نتجنب عزل الحزب تحت مبادئ وشعارات، وبالتالي أن نشارك في كل اللقاءات والأعمال السياسية أو الحوارية وتحديد موقفنا السياسي بوضوح داخلها.
ولهذا ذهبنا حتى إلى مؤتمر الرياض وشاركنا فيه. ودعونا إلى بناء تكتلات تحالفية على مستوى الداخل من أجل انتهاج طرق ملائمة إلى السلام. وكان هدفنا بدرجة رئيسية المشاركة في كل هذا الأشياء ببوصلة واحدة وهي أننا نرفض أية أعمال لا تقوم بإقرار السلام أو تقوم بتأجيج الحرب. لأن هذه أعمال نرفضها. حضرنا إلى مؤتمر الرياض أو إعلان الرياض ووضعنا كل هذه الأشياء، وعملنا مبادرة وطرحناها واستوعب الكثير منها في البيان الختامي لمؤتمر الرياض. هذه واحدة من تجاربنا المهمة. كما أن استراتيجيتنا تمثلت في عدم القبول بالخروج عن المرجعيات الوطنية المتفق عليها. لا يمكن أن نسمح بالخروج عنها، ولكن الأهم هو أننا نذهب إلى كل مكان حتى ولو كان ضدنا لنقول رأينا فيه.
* وهذا تماما عكس تفكير الحزب في العام 1997 عندما قاطع الانتخابات البرلمانية؟
** طبعا. أنت أخرج من السياسة النظرية إلى السياسة العملية. والعملية لها شروطها. رفضنا أيضا الانجرار وراء تحالفات سياسية عشوائية تخضع لمنطق اللحظة. دٌعينا مثلا للانضمام لاصطفافات (استقطابية حادة في حينها) ولكننا تحفظنا على المشاركة فيها لأننا وجدنا أن هذا النوع من الاستقطاب قد يهيئ البلاد إلى حرب، فرفضناه، وغضبت منا كل الأطراف وتعرضنا لهجوم كبير بسبب ذلك.
هذا شرح أولي لسياستنا وهي ببساطة الوقوف بتأن. لا نريد أن ندخل في أي مواقف لحظية تخضع لمنطق اللحظة بدون النظر فيها بآفاق مستقبلية. نرفض هذه المواقف الاصطفافات اللحظية أكثر إذا كانت تعمل على إعادة بناء توازنات تقوم على المحاصصة، فالمحاصصة كارثة. على سبيل المثال بالنسبة لباقي الأطراف، حكومة الوحدة الوطنية هي أنك تحاصص المناصب بين كل القوى السياسية. بالنسبة لنا حكومة الوحدة الوطنية هي حكومة كفاءات وبرنامج سياسي واقتصادي تنموي للبلاد تعبر داخله كل منطقة عن احتياجاتها. هذه هي الوحدة الوطنية، أما المحاصصة الفئوية هذه لا تحقق وحدة وطنية.
* لكن هذه المحاصصة هي ما حققته المبادرة الخليجية التي وقعها الاشتراكي، ولم تحاصص فقط السلطة بل حاصصت الدولة!
** المبادرة الخليجية اهتمت بنقل السلطة لكن القرار ٢٠١٤ هو الذي استوعب المطالب الثورية للشباب جزئياً وسميت بالآلة التنفيذية، ربما بتشكيل حكومة الوفاق الوطني جاءت هذه المحاصصة.. هي التي أتت بالمشكلة أيضا بل وكانت هي الطريق إلى انفجار الحرب ونحن لسنا معها كما تلاحظ. المحاصصة التي أعادت التوازنات القديمة نفسها، هي مرفوضة. هذه البدايات في المحاصصة هي التي سمحت للحركة التي أعطت نفسها صفة بالشرعية الثورية (الصفة التي أطلقها الحوثيون على أنفسهم بعد تعطيلهم للدستور وفرض إعلان دستوري بعد وضع الرئيس والحكومة قيد الإقامة الجبرية في أوائل 2015) أن تٌسقط الشرعية السياسية التوافقية.
* لكن هذه هي الشرعية التوافقية التي كانت حاكمة البلد من ٢٠١١؟
** جاء ما يسمى الشرعية الثورية ، نحن تعاملنا مع جميع الأطراف من دون مقاطعة لأي كان أو إغلاق الحديث معه أو التوقف عن الحوار وفي هذا السياق. كنا نبني استراتيجيتنا على عدم السماح لها بإسقاط الشرعية السياسية التوافقية. من هنا دخلنا “حوار موفنبيك”.
* لكن – واسمح لي بالمقاطعة – قصة السياسة الشرعية التوافقية كانت خطيرة أيضا؟
** كيف؟
* التوافق المطلق مفسدة مطلقة ثم أنها تحولت إلى غاية وليست وسيلة؟
** لا، سأقول لك، هنا لابد أن ندقق بالمفاهيم وبالتالي فإن التوافق يعني ما يتم التوصل إليه من اتفاقات على أساس التنازلات من جميع الأطراف المشتركة بالتالي يمكن أن نقول أن التوافق جمع الإرادات (الناقصة). بالتالي فإن الشرعية السياسية التوافقية بهذا المعنى ليست مفسدة وليست خطرا. الخطر هو في الخروج من التوافق السياسي وإصرار أي من الأطراف على ما يريده فقط.
* بهذه الروح ذهبتم إلى الرياض خاصة أنكم رافضين للحرب كما تقول؟
** نعم هذه الخلفية الأولى. ذهبنا إلى مؤتمر الرياض للمشاركة والمساهمة في أعماله وصياغة مخرجاته بما يساعد دول مجلس التعاون في مقدمتهم السعودية أن يلعبوا دور الوسيط بين القوى اليمنية المختلفة. ذلك أن خيار لعب دور الوسيط سيجعل من الحلول ممكنة ووجدنا في مؤتمر الرياض أنه وسيلة كان لها أن تحقق المصالحة بين اليمنيين بوساطة من الأشقاء في السعودية وباقي دول الخليج، خاصة وأنهم هم رعاة المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. من هذا المنطلق أيضا نحن تحدثنا مع جماعة أنصار الله (الحوثيين) والأمور ما تزال في بداياتها في مايو 2015. قلنا لهم أن يوافقوا على المشاركة في مؤتمر الرياض. وجدنا في هذه المشاركة أنها يمكن أن تكون فرصة مهمة للحد من التداعيات. فرفضوا الدعوة وحتى احتجوا علينا لماذا سنحضر. قلنا لهم نفس هذا الكلام الذي قلته لك في لقاء سابق. ورأينا في عدم قبول أنصار الله بالحضور، وسلوكهم بذلك الشكل، جرا لليمن إلى حرب طويلة وتحويل البلاد إلى منطقة صراع إقليمي. ولذلك حرصنا في هذا السياق أن تبحث جماعة أنصار الله عن تسوية سياسية منصفة بدلا من التركيز على إحكام قبضتها على سلطة الأمر الواقع وبدون شرعية.
* ماهي ملامح اي تسوية سياسية منصفة أو مصالحة وطنية منصفة كما تسميها؟
** المصالحة الوطنية يجب أن تتم بأفق العدالة الانتقالية. اما إذا تم استبعاد مفاهيم ومبادئ العدالة الانتقالية من المصالحة الوطنية فإن ذلك يعني إعادة التأهيل السياسي للقوى التي صنعت مشكلات هذا البلد واحتكرت مقدراته. وهذا سيؤدي إلى حرمان هذا الشعب من ثرواته الوطنية كما أن هذه القوى هي ذاتها التي احتضنت الفساد. ولذلك، فالمصالحة الوطنية على طريقتها لن تحل المسائل.
* لكن مؤتمر الرياض لم يتحدث عن هذا، بل كان وسيلة لشرعنة الحرب؟
** لا يمكن توصيف الأمر بطريقتك هذه فالتدخل الخارجي جاء بطلب من رئيس الدولة وإحاطة مبدئية لمجلس الأمن الدولي، وكذلك ردة فعل من رعاة المبادرة الخليجية على حرب داخلية اشعلها الانقلابيون.
* لكن أتحدث محلياً عن شرعنة الحرب بالمعنى الوطني؟
** نحن حاولنا أن نقوم ببناء تكتل. قدمنا مبادرة ووقع عليها الحزب الاشتراكي والحزب الوحدوي الناصري وحزب التجمع الوحدوي اليمني واتحاد القوى الشعبية وبعض المنظمات ومناضلين الثورة اليمنية وكيانات أخرى. لكن مع الأسف الشديد اكتشفنا مع العمل أن كل القوى ضعيفة وأن الاستقطابات مزقتها وكذلك الحرب، فصارت مشكلة، بالكاد سلمنا نحن كحزب من الاستقطابات الداخلية. وقد انتقدنا البعض ووجه لنا اللوم على تلك المبادرة واعتبروها انحياز لطرف في الحرب ومحاولة لتخفيف الضغط عليه، بينما هدفنا كان هو أن يعمل هذا الائتلاف على توسيع مساحة النضال السلمي لأنه في هذه الحرب تم نسيان حاجة اسمها “نضال سلمي”. يجب أن تكون هناك قوى تبقي على شيء اسمه النضال السلمي.
* تقصد أن على المجتمع أن يحافظ على مثالياته حتى في لحظات الخراب العظيم؟
** تماما، وأرجو أن تضيف هذه العبارة التي قلتها للتو إلى نص الحديث، لأنها تمثل إضاءة مكثفة لهذه الفكرة التي أتحدث عنها. أنظر، إذا أردنا أن نضعف قدر الإمكان ديناميكية الصراع السياسي العنيف السائد اليوم في اليمن، فيجب إضعاف الديناميكية التي تستخدم العنف والقتال في العمل السياسي.
الأطراف الفاعلة اليوم في الصراع الميداني العسكري والقوى الإقليمية التي تقوم بإسنادها أو بخوض المعارك بعضها بنفسها، لا يرضى أي منها بالتنازل أو تجاوز مصالحه، حتى الكارثية منها إلا بالعنف.
وإذا كانت توجد قوة سلام، كما أشرت بعبارتك الممتازة جداً، ولو نجحنا في الحفاظ على هذه الائتلافات لاستطعنا الحفاظ على هذه المثاليات والأسس. لكنا اكتشفنا أن القوى التي تعمل من أجل السلام ضعيفة. اليوم ممكن أن تتعامل مع الأمم المتحدة من أجل الحفاظ على استمرار دور المجتمع الدولي في اليمن ومنع تحويل الحرب في اليمن إلى حرب منسية.
أردنا أيضا إدخال كل القوى المؤيدة لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني في هذا الجهد. لكن مع الأسف وجدنا تلك القوى هي نفسها قد تمزقت. فواحدة من الأشياء التي كشفتها الحرب أنها استولدت استقطابات حادة جداً في المجتمع وفي المجال السياسي وحتى داخل الأحزاب ذاتها. بالنسبة لنا نجونا قدر المستطاع من هذه الحالة بممارسة هذه السياسة التي تشير إليها.
* تقصد محاولتكم العمل السياسي بأدوات سياسية غير تقليدية في بيئة شديدة التقليدية؟
** بالضبط هذا هو. في موضوع آخر أريد أن أقول لك لماذا تراجع المجال السياسي في اليمن بشكل عام؟ وهذه أيضا واحدة من الحقائق التي تتحكم في مسار الأحداث، وهي ترنّح معطيات الربيع العربي وانهيارها في البلدان التي قام فيها. حتى في اليمن انهارت معطيات الربيع العربي ولم يتبقَ منها سوى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل التي على الاقل رسخت الربيع العربي فكريا ونظريا وساعدت على رسم صورة المستقبل لليمن. كما شكلت هذه المخرجات دليلا إرشاديا لكيفية حل مشكلات اليمن المزمنة، مع ملاحظة أن هذا المؤتمر شاركت فيه قوى مجتمعية متنوعة من قطاعات شعبية ونخبوية واسعة، وفي مقدمتها الشباب والمرأة والتكنوقراط والأكاديميون وكوادر من مختلف التخصصات، واستمر لما يقرب من عام وعقد باعتماد طرق منهجية ومؤسسية، وكان يختلف تماما عن أية مؤتمرات سياسية سابقة عقدت في اليمن، ولم يكن حكرا فقط على السياسيين التقليديين والقوى المتنفذة، وإلى ذلك كان المؤتمر التجربة الوحيدة الناجحة في كل بلدان الربيع العربي.
من بين الأسباب الرئيسية لهذا التراجع والانهيار أن السياسة في اليمن في بيئة سياسية ضعيفة وهشة لأنها ليست بيئة مؤسساتية، فالأحزاب داخلها تعمل بطريقة ارتجالية وترتكز على أشخاص أكثر منها على مؤسسات. هذه البيئة الهشة التي تتصف بصفات السلبية تنعكس على الواقع الوطني بمجمله، وهو على صورة مجتمع ضعيف وتابع للنخب.
هذه النخب السياسية القابضة على المفاصل الرئيسية للحياة السياسية والاقتصادية والسلطة، هي نخب تتضخم لديها القوة المالية والمادية والعسكرية والميليشاوية، كما أن المجال السياسي هو الآن في يدها. وهذه النخب هي نخب تقليدية اجتماعيا وقليلة المعرفة والعلم ومتخلفة ثقافيا، وتقوم بحل الصراعات أو المنافسات فيما بينها بناء على المنافع السياسية والاقتصادية من خلال التفاوض والتسوية، بعيدا عن مؤسسات الدولة وبعيدا عن أحزابها وحتى بعيداً عن وجودها الرسمي في أجهزة الدولة. هذه النخب تعمل صفقة جانبية، مثلا تغير قوانين الدولة والبلاد والمؤسسات في سبيل تحقيق تسوية فيما بينها البين، وهذه النخب في تمثيلاتها المجتمعية هي تمثيلات فئوية.
البيئة السياسة في اليمن مكونة من أحزاب سياسية إقطاعية وأخرى دينية، وثالثة قومية ويسارية ومؤدلجة إلى حد كبير، تخالط تركيبتها القيادية عناصر انتهازية سياسيا تقوم بإخضاع العام للشخصي بدلاً من العكس هدفها الانتفاع من موقعها السياسي للمصلحة الشخصية، كما أن بعضها تصيغ علاقتها البينية في مختلف الأحزاب والأطراف بناء على تفاعلات ترتكز فقط على المنفعة والانتماءات المناطقية وولاءات مختلفة.
* الولاءات الغير وطنية؟
** ليس بهذا المعنى، لكن يمكنك القول ولاءات غير مؤسسية تجاه أحزابها. فكيف تريد من هذه الأحزاب أن تقدّم مشروعا سياسيا كبيرا؟
* وكأنك تقول مجددا أن الذات (الأفراد والقيادات) ليست بحجم اللحظة (التاريخية)؟
** بالضبط مئة بالمئة. ثم لديك للأسف الشديد رأي عام مشتت ويلعب الإعلام – الذي يظلل على الحقيقة – دورا كبيرا فيه، وهو إعلام يلعب دورا تشتيتيا يحول دون تحقيق إجماع وطني. والإعلام سواءً أكان الرسمي أو الغير رسمي تحت قبضة هذه النخب. وأخيرا، لديك بلد مفتوح على الخارج تعاني نخبه السياسية والرسمية من ضعف في الولاء المؤسسي للبلاد.
* العقدة اليزنية؟ [سيف ابن ذي يزن، ملك يمني قبل الإسلام استعان بالفرس لإخراج الأحباش من اليمن، ويشار إلى مرحلته بالعقدة اليزنية في تاريخ اليمن، أي عقدة الاستعانة بالخارج وعدم الثقة بالإمكانيات الوطنية]
** القوى المجتمعية الحديثة سواءً منها المنظمات أو النقابات أو الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني، أو تلك المنخرطة في الأنشطة المؤسسية الحكومية أو الخاصة وعلى مستوى المهن الرفيعة التي تعتمد على العلم والمعرفة كالمهن الأكاديمية وغيرها كذلك، لا وجود يحسب لها في موازين القوى. ويبرز ذلك في عجزها عن صنع أحداث أو منع وقوع أحداث أخرى. لا يتظاهرون، لا يقولون “لا” أو حتى للتصدي للمخاطر التي تتعرض لها مصالحهم، وكل واحد منهم يذهب لحل مشاكله بمفرده.
تخيل لو أن القوى التقليدية حبست نفسها بالبيت ولم تخرج؟ الحياة لن تتأثر، الحياة ستمضي، بل أن عوادم السيارات ستخف، وستستنشق هواء عميقا، لكن لو الأطباء والمدرسون والأكاديميون والعمال توقفوا يوما واحدا عن العمل ما الذي سيحدث؟ ستتعطل الحياة تماما. ولكن هذه القوى المهنية والحداثية المهمة لا تستخدم نفسها كقوة أو ككتلة بإمكانها فرض شروطها السياسية.
* هذا ما فعلته في ٢٠١١؟
** فعلته في العام ٢٠١١ عندما تكتلتْ، لكن لا بأس ولنا أن نظل نأمل فيها ومنها الشيء الكثير. التاريخ لا يسير بخط مستقيم، التاريخ، وفق النظرة الماركسية التاريخ حلزوني المسار في كل حلزونية أحيانا يكون منعطف كأنه عودة للنقطة السابقة لكن أعلى في المستوى فوقه بكثير. حتى وإن لم ندرك ذلك.
* هل يمكن إسقاط ذلك بالمعنى الواسع على الفارق ما بين الزمان والمكان؟
** أقصد في حديثي معك بهذا الشأن أن تيار اليمين في السياسة وخاصة في البلدان المتخلفة أو ما كان يسمى “العالم الثالث ” لا يسعى وراء تحقيق مشاريع سياسية كبرى، بمعنى المشاريع السياسية التي تنشد تحقيق تحولات كبرى في سياق تطور البلدان إلى الامام.
أي الارتقاء بالواقع المعيشي إلى ما هو أعلى مما هو سائد، أي أنه يقوم بالسعي وحسب إلى تحقيق مصالح ومكاسب سياسية للفئات المجتمعية التي يمثلها. وبالتالي فهو لا يهتم بالتغيير ولا تشتمل رؤيته مصالح جميع الفئات والطبقات الاجتماعية التي يتكون منها الشعب، وعلى ذلك يظل يحافظ على الإبقاء على المعطيات والآليات التي تحقق مصالح أي إطار يسمح له بتأييد الأوضاع التي يجني من خلالها مصالحه. وفي هذا السياق أقصد بـ”المكان” هذه الأوضاع التي ينبغي ألا تتغير من منظورات اليمين المتخلف في السياسة، وهو (اليمين) وبالذات في بلداننا يتعاطى مع التطورات الحضارية للزمن المقاس فقط في أبعادها المادية فهو يستخدم المنتجات المادية و يقتنيها لساسته الكبار وينتفعون بها في حدود الاستمتاع ولا يعيشون أو يهتمون بروح العصر، بل ويقاومون هذه الروح في بعدها التقدمي.
بينما تيار “اليسار” يميل بشدة إلى روح العصر وما تحمله من معطيات فكرية وسياسية واجتماعية للدفع بتاريخ مجتمعه إلى الامام، وفي تجربتنا الخاصة في اليمن فإنك تستطيع أن تحس أن اليسار وأحزاب اليسار وتياراته المختلفة لديهم برامج سياسية، وأحزاب اليمين لا يهتمون بالسياسة إلا من خلال الانتخابات الموسمية للحصول على أكبر قدر ممكن من مقدرات السلطة، والحضور القوي في المجالس النيابية والهدف هو أن الدولة مدار محاصصة لديهم، وأن هذا الأمر يعطيهم الإمكانية للحصول على حصصهم من الانتفاع بالدولة وسلطتها، ويعملون على سن القوانين وغيرها بما يحافظ على مصالحهم وحسب.
لو أنك متابع لجلسات مجلس النواب اليمني، من الذي أفشل سن قانون الإيجارات للمساكن، وقانون التعليم أو قانون الضرائب، وقانون تنظيم حمل السلاح، ومن الذي تصدى للإجراءات الاقتصادية؟!
اليمين في بلادنا لا يسعه سوى الإبقاء على الواقع كما هو، بينما اليسار كانت جملة تلك المحاولات في الأمثلة التي ذكرتها لك هي من مجهوداته التي بذلها في سياقات نضاله من أجل تحسين معيشة الشعب والارتقاء بحياته. هو (اليسار) لم ينجح في تحقيقها لأن خبرته وذروة اهتماماته بالانتخابات وبآلياتها وبتكتيكاتها ضعيفة، وكذلك بالتحالفات المطلوب القيام بها خلال هذه الانتخابات، وكما كانت له نظرة واضحة تجاه المجتمعات المحلية على اختلاف تركيباتها وتبايناتها، فقد عجز عمليا عن إدارة التنوع في الوحدة، فاهتم بالجزء الأخير من هذه المعادلة، واستغرقته القراءات النظرية الفكرية في رؤيته لها بعيدا عن الدراسات التي كان من الضروري القيام بها بمناهج السياسة العملية.
* إذا ما انتقلنا للحديث عن القضية الجنوبية، هل لك ان تحدثنا وتحدث قارئ غير يمني تحديدا وغير ملم بالتفاصيل اليمنية الكثيرة عنها؟
** القضية الجنوبية هي قضية نشأت من بعد حرب صيف ١٩٩٤ عندما تم تحويل الوحدة السلمية إلى وحدة بالقوة والعنف تحت شعار (الوحدة أو الموت) والذي كان الآلية الرئيسية التي استخدمت كتبرير لاجتياح الجنوب عسكريا من قبل المنظومة السياسية العسكرية القبلية التقليدية التي كانت في أصل وجودها حكمت الشمال بالقوة والعنف داخل ما كان يسمى الجمهورية العربية اليمنية. وقد تمكنت هذه القوى من توسيع نطاق حكمها السلطوي على كل اليمن بالاجتياح العسكري للجنوب، وتحويل الوحدة السلمية التي تحققت بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إلى ضم وإلحاق الجنوب وطمس هويته السياسية وتدمير كل مقومات الشراكة الندية في الوحدة اليمنية.
إلى ذلك فالوحدة اليمنية من بعد ١٩٩٤ استمرت بالقوة واستخدام القمع والخيارات الأمنية في مجابهة أية مطالب جنوبية لإصلاح مسار الوحدة اليمنية، وفي سياق المواجهات السلطوية للهبات الجماهيرية التي شملت جغرافية الجنوب كله كانت سلطة ٧-٧-١٩٩٤ وتحالف حرب ١٩٩٤. وبالتالي فإن المعالجات التي كانت تنتهجها السلطة الحاكمة حينذاك، كانت تتسم بأخذ القضية الجنوبية بالخفة السياسية، وأبرزها سياسة (فرق تسد) في الجنوب، بالعمل على إنتاج الحالات القديمة لما قبل استقلال الجنوب، بمحاولات إعادة إنتاج الثارات القبلية وإنعاش بقايا مراحل الصراعات السياسية والطبقية/الاجتماعية التي شهدها الجنوب تحت حكم الجبهة القومية والحزب الاشتراكي، مما هيأ الأوضاع في الجنوب إلى مقدمات الصراعات على مرتكزات عقائدية (سلفية) وأيديولوجية لإعادة إنتاج مرتكزات جغرافية ومناطقية وقبلية، و إنتاج ثقافة الكراهية على مستوى البلاد بصفة عامة لكي تنجح سياسات سلطة ( ٧-٧) في ممارسات فرق تسد على المستوى الوطني كله، كلما أوغلت بإدارة شئون البلاد بالأزمات.
بناء على ذلك نشأت في الجنوب حركة سياسية سلمية مقاومة لأوضاع الضم والالحاق عُرفت بـ”الحراك السياسي السلمي الجنوبي” تجلت تعبيرات هذه الحركة في قيام فصائل سياسية حراكية رفعت شعارات سياسية متعددة: مثل (التحرير والاستقلال، واستعادة الدولة، الانفصال، وتقرير المصير).
وكان مغزى جملة تلك الشعارات أن الجنوبيين يرفضون أن يتركوا مصيرهم يتحدد بقرارات يتخذها غيرهم من دون مشاركتهم. وخاضوا غمار الصراع السياسي السلمي عبر المسيرات الاحتجاجية والتظاهرات في المناسبات الوطنية الاحتفالية التي كانت تعكس وحدة الهوية السياسية للجنوب، بما يذكر الجميع بأن الوحدة تمت بين دولتين وتعرض مناضلو الحراك السياسي السلمي الجنوبي للاعتقالات والمحاكمات. ومن ضمن هؤلاء عدد وازن من القيادات العليا على مستوى المكتب السياسي واللجنة المركزية ولجان المحافظات في الحزب الاشتراكي اليمني.
كانت ذروة تلك التعبيرات السياسية النضالية هي الاعتصام غير المسبوق الذي استمر في ساحة العروض في خورمكسر، وكذلك في مدينة المكلا لأكثر من خمسة شهور (من أكتوبر ٢٠١٤ وحتى مارس ٢٠١٥).
لعله من المفيد الإشارة هنا، إلى أن مؤتمر الحوار الوطني الشامل وعند معالجته للأوضاع في الجنوب، استخلصت أدبياته ومخرجاته أن القضية الجنوبية ليست مجرد نتائج وآثار سياسية وحسب، انتهت بإزاحة شريك تأسيس الوحدة (الحزب الاشتراكي اليمني) من السلطة ومن جسد الدولة، بل أن القضية الجنوبية توفرت على إشكاليات كبيرة ومعقدة مكونه من أبعاد سياسية وحقوقية وقانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية عبث فيها نظام 7/7 بتفنن منهجي بجعل الجنوب مجرد جغرافيا بلا تاريخ.
* قبل اختتام هذا اللقاء وبعد ما حدثتنا عن القضية الجنوبية اسألك مجددا، وللمرة الثانية أو الثالثة، هل لا يزال لدى اليمن فرصة للبقاء بلداً واحداً؟
** ونحن نتحدث عن القضية الجنوبية وبعدما آلت إليه أوضاع الجنوب في ظل السياسيات الداخلية التي مارستها سلطة ٧/٧ وتحالف حرب ١٩٩٤بالضم والإلحاق والإمعان في الاعتماد على تنفيذ سياسة فرق تسد على المستوى الوطني، وإدارة البلد بالأزمات، وحجم الخراب الهائل الذي أصاب الوحدة اليمنية في معناها ومبناها وعلى مستوى “العقول والنفوس” وهذا تعبير كان يستخدمه الأخ حيدرة مسدوس عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، كل ذلك يجعل من سؤالك لا يقبل بالإجابة اليقينية: نعم أو لا. وعليه لنا هنا أن نستعرض عدداً من الحقائق ربما بالاستناد إليها يمكننا أن نرجح جواباً معيناً، وفي المجتمع الإنساني للتاريخ مفاجآته، واسمح لي أن أبدأ منه آخر الأحداث ذات الصلة بالوحدة.
اجتياح الجنوب عسكرياً للمرة الثانية في العام ٢٠١٥ من قبل القوات العسكرية والميليشاوية لتحالف علي عبدالله صالح وأنصار الله، أضعف تماماً إمكانية استمرار الوحدة خاصة إذا تم استثمار هذه الأوضاع من قبل قوى إقليمية متعددة لها مصالحها الجيوسياسية والتي لا تتفق مع أن تستمر الجمهورية اليمنية دولة قوية في المنطقة.
السلطوية التي حكمت البلاد منذ ١٩٩٤ أمعنت في جعل الجنوب فراغا سياسيا امتلأ بقوى أيديولوجية متطرفة، وأدت ممارسات بعض أجنحة النظام حينذاك بواسطة أجندات لعدد من القوى السياسية إلى تقهقر ثقافي، أدى بالمقابل إلى تقهقر الهوية الثقافية الوطنية والسياسية الحداثية، الأمر الذي أضعف مسألة الانتماء إلى وطن كلي واحد بل ثارت النزعات المحلية والهويات ما قبل الوطنية.
حالة التقهقر الثقافي وانحسار الهوية الوطنية الكلية لا يقتصر على الجنوب وحسب بل أن له تجليات واضحة كذلك في الشمال حيث بدأ تمييز الذات (الأنا) والآخر في سياقات الحرب الجارية اليوم في ٢٠١٧، على أساس إما مناطقي أو مذهبي. أما العلاقة تجاه الجنوب فلا تتجلى لدى القوى السلطوية الجديدة (أنصار الله) أو القوى التقليدية السابقة من تحالف حرب ١٩٩٤م إلا بصيغة تملكية أيديولوجية لا وطنية.
إن أزمة الثقة بين النخب السياسية وحتى الثقافية التقليدية وغيرها في الشمال وكذلك في الجنوب، تزداد عمقاً يوماً بعد يوم، فسلوك النخب المتنفذة بعد حرب ١٩٩٤م أوجد شكوكاً لدى غالبية الأطراف في الجنوب حول جدية هؤلاء في الإخلاص لمخرجات الحوار الوطني والخاص بالقضية الجنوبية -خاصة وأن (النقاط الـ20) التي أقرها الحوار الوطني الشامل كإجراءات للثقة تم الالتفاف عليها وعدم تنفيذها. وبالمقابل فإن النخب السياسية التقليدية في الشمال لديها شكوك برغبة الجنوبيين الحقيقية في استمرار الوحدة.
الطابع العام للمواقف السياسية للقوى الدولية في مقاربة الصراعات اليمنية الداخلية؛ ينحصر في ترقب تطورات الأحداث، كما أن القوى السياسية الحداثية بما فيها أحزاب وتنظيمات يسارية وأخرى قوى مجتمعية تقدمية تعيش حالياً حالة انعدام الوزن…
إجمالا يمكن لك هنا أن تستنتج أنه على المستوى الداخلي لا يوجد ضامن لاستمرارية الوحدة، وإن كان الجانب الدولي والإقليمي يؤيد – حتى اللحظة – وحدة واستقرار وسيادة الجمهورية اليمنية، نستنتج هنا أنه لا يوجد ضامن لاستمرار الوحدة سلميا .
* إذن أين يقف الحزب الاشتراكي وسط كل ذلك؟
** ما سردته لك أتى عن رؤية للواقع من زاوية فكرية/سياسية تأخذ الوقائع في تشكلاتها ومساراتها.. هي رؤية ربما تكون تشاؤمية ولكننا غير يائسين. ولو دققت في الإجابة ستجد أني ذكرت لك أن للتاريخ مفاجآت وبالنسبة إلى اليمن فإن معطيات التاريخ بشأنه منذ أقدم العصور تستوعب تجليات ساطعة لوحدة المجتمع في اليمن تجليات متنوعة، ليست بالضرورة تجليات سياسية كالوحدة التي تحققت لأول مرة في تاريخ اليمن.
أقصد الوحدة الأخيرة والتي تحققت في مطلع التسعينات من القرن العشرين، فكل الدول التي نشأت في اليمن قبل الإسلام وخلال فترة الإسلام قامت العديد منها على مساحات من الشمال والجنوب.
أنظر مثلاً دولتي أوسان أو حمير قبل اكتمالهما، أو الدولة الرسولية وكذلك بالنسبة للدولة الطاهرية، هذه كلها صور من تجليات الوحدة وتعبيراتها في اليمن وفقاً لشروط تلك الأزمنة السياسية ودرجة التطور الحضاري لها ولم تكن تمتد على مساحة اليمن الطبيعية كلها.
وعلى ذلك فالوحدة حالة ممتدة ومتقطعة ومضطربة سياسيا واجتماعيا في تاريخ اليمن بتعبيرات متنوعة، وإن لم تشمل كامل الجغرافيا السياسية اليمنية المعاصرة، وإذا كان هذا في البعد السياسي من هذا التاريخ فإن بعده الاجتماعي أكثر قوة وأكثر تماسكاً في حضوره، ولكن بتنوعات فولكلورية غير متطابقة بالضرورة وشديدة الخصوبة تحمل تشابهات كبيرة فيما بينها، إلى ذلك كان ضرورياً أن أسرد هذه الخلفية حيث كان دائماً يعني أن التفاؤل وبعيداً عن اليأس له أرضية وممكنات، شرط نضوج العامل الذاتي والذي يعاني حالياً من الشتات وتجاوز الذات اليمنية لهذه الحالة.
وفي هذا السياق فإن الحزب الاشتراكي يرى بأن خيار الوحدة قادر على إنتاج مصالح جديدة للشعب في الجنوب والشمال وهو خيار قادر على إنتاج حل واقعي لمشكلات اليمن ككل، حلول قابلة للحياة والاستمرارية ترتكز على قائمتين: الأولى؛ عدم تكرار ممارسات الحقبة السياسية السابقة، وأبرزها سياسات الضم والإلحاق. والثانية؛ إيجاد ضمانات حقيقية للجنوب بما في ذلك حق تقرير المصير والعودة إلى الإرادة الشعبية حيث من الصعوبة إجبار الناس على ما لا يريدونه أو ما ينبغي أن يقبلوا به انفصالا كان هذا أو وحدة.
إن الحزب الاشتراكي اليمني ووفقاً للمنطلقات التي ذكرتها لك ينظر إلى الحل للقضية الجنوبية على “قاعدة عريضة لتسوية سياسية وطنية شاملة، في إطار دولة اتحادية فيدرالية أو كونفدرالية، عبر هيكل مؤسسي وعقد اجتماعي جديدين يرسيان هذه الدولة على الإرادة الشعبية الضامنة لحرية جميع أبنائه”، وهذه العبارة الطويلة واردة بوضوح في مخرجات الحوار الوطني الخاصة بحل القضية الجنوبية.