توفي قبل يوم الجمعة 22 كانون الثاني/ يناير الجاري، الباحث والمترجم الفلسطيني جورج زيناتي (1935 – 2021)، تاركًا خلفه إرثًا فكريًا مميزًا، قدّم فيه مجموعة واسعة من الأعمال الفلسفية والفكرية التي بحثت في مواضيع مختلفة، مثل الحرية والعنف والفلسفة، بالإضافة إلى إمداده المكتبة العربية بترجماتٍ مميزة، لعل أهمها أعمال المفكر والفيلسوف الفرنسي بول ريكور.
وولد زيناتي في مدينة حيفا الفلسطينية، وهُجّر منها برفقة عائلته سنة 1948 نحو العاصمة اللبنانية بيروت، حيث قضى سنوات شبابه، قبل أن ينتقل أواخر الستينيات إلى العاصمة الفرنسية باريس لمتابعة دراسته، إذ نال في جامعتها شهادة الدكتوراة في الآداب والعلوم الإنسانية عام 1972، ليبدأ بعدها مشواره في عالم التدريس، حيث عمل أستاذًا في جامعة “زائير لوبومباشي” في الكونغو بين عامي 1973 – 1977، قبل أن يعود إلى بيروت ليعمل أستاذًا للفلسفة الحديثة والمعاصرة والدراسات العليا، في كليتي التربية والآداب في الجامعة اللبنانية.
أصدر الراحل سنة 1964 رواية بعنوان “الظمأ الأبدي”، روى فيها سقوط مدينته حيفا، ولكنه سرعان ما غادر عالم الأدب ليتفرغ للفلسفة، إذ رأى فيها مسارًا إنسانيًا كامنًا في سيرورتها الأعمق والأنقى. وسعى زيناتي في مجمل أعماله الفلسفية إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، وكانت له آراء مختلفة حيال هذه المسألة، منها اعتباره أن معظم الفلاسفة العرب والمسلمين لم يرغبوا في خوض أي صراعٍ مع العقيدة، بل آثروا الانصراف إلى بحوثهم بحرية، طامعين في أن يوفر لهم الحاكم الحماية التي توفر لهم البيئة المطلوبة للبحث والتفكير.
واشتغل الأكاديمي الفلسطيني أيضًا على تسليط الضوء على الأيديولوجيا وتفرعاتها السياسية منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، وحتى نهاية عصر النهضة وبداية العصر الكلاسيكي. كما وتناول مسألة الصراع الدائم داخل المدارس الفلسفية المختلفة، بالإضافة إلى بحثه المستمر في مسألتي الحرية والعنف اللتين خصص لهما كتابًا بعنوان “الحرية والعنف”، طرح فيه تساؤلاتٍ مختلفة حولهما، منها: ألا يشكل مفهوم الحرية ذاته الوهم الأكبر الذي أضفاه الإنسان على نفسه عبر العصور المختلفة، كي يخفي المرء حقيقته عن نفسه ذاتها؟ كيف يمكننا أن نؤسس علميًا مفهومًا كهذا ربما لم يكن في العمق إلا حكمًا مسبقًا غير عقلاني؟
وإلى جانب الحرية والعنف، تتبّع جورج زيناتي أثر فلاسفة مختلفين في الفلسفة العربية والغربية، وأصدر مؤلفات مختلفة تبحث في هذا الشأن، منها كتاب “الفلسفة في مسارها”، و”رحلات داخل الفلسفة الغربية”، بالإضافة إلى كتاب “فلسفة ابن باجة وأثرها”، قارب فيه الفيلسوف أبو بكر ابن باجة من الناحيتين الشخصية والمعرفية، وحاول في هذا السياق الإضاءة على أبرز مكونات فكره الفلسفي ورؤيته للإنسان عقلًا وجسدًا، ومن ثم دراسة تأثره بمن سبقه من فلاسفة، وتأثيره فيمن لحق منهم في الشرق والغرب.
وفي ضوء انشغاله بهذه المسائل بحثًا وتأليفًا وتدريسًا أيضًا، سعى الراحل إلى إمداد المكتبة العربية بعناوين مميزة لفلاسفة ومفكرين غربيين، فترجم خلال ثلاثة عقودٍ من الزمن مجموعة واسعة من الأعمال الفلسفية والفكرية، منها “انفعالات النفس” لرينيه ديكارت، و”الفلسفة الأخلاقية” لمونيك كانتو سبيربر وروفين أوجيان، و”تاريخ بيزنطية” لجان – كلود شينيه، و”تاريخ الكثلكة” لايف برولي، و”ابن رشد المقلق” لجان باتيست برونيه، و”الذات عينها كآخر” و”الذاكرة، التاريخ، النسيان” لبول ريكور.