بقلم - محمد المقبلي
ليس المخلوع صالح ومنظومته المعلومة وغير المعلومة وادعاءاتهم الجمهورية هم الساقطون الوحيدون منذ الإنقلاب والإجتياح، فالكثير من الدعايات والإدعاءات سقطت وكثير من الأدعياء سقطوا أيضاً من أول مؤسسة مدنية إلى آخر ديوان مرصوص “بالمداكي والمساند”..
غير أن السقوط الجريح كان من نصيب الشهامة الافتراضية بالنسبة لمن كانوا يمنحون أنفسهم لقب وجاهات إجتماعية ويتصدرون واجهة الدواوين يرهقون مسامعنا بالحديث عن الشهامة والنخوة والفزعة والعديد من الأسماء الحسنى للنخبة القبلية بما فيها نجدة الملهوف..
الشهامة التي ظننتها واقعية تحولت إلى افتراضية في لحظة مفصلية وحساسة في تاريخ هذا البلد المعذب والجريح، خصوصاً في مدينة مثل صنعاء التي كانت مفتوحة وأصبحت مغلقة وجريحة في ذات اللحظة، الشهامة الافتراضية والنخوة القبلية التي لم تعمل شيئاً لأمهات المختطفين في صباح الأحد الحزين عندما استعرضت دوريات مليشيا الانقلاب عضلاتها المسلحة على مدنيات عزل في وقفة احتجاجية مقابل الأمن السياسي للمطالبة بإطلاق سراح المختطفين والمغيبين في سجون مرئية وغير مرئية..
الشهامة الإفتراضية لم تستجب لنداء تلك الأم التي أحرقت ظفائر زوجة ابنها المختطف وهي تلوح للنخوة القبلية في محيط الإنقلاب التي استجابت لنكف الحرب على أطفال تعز وحصارهم ولم تستجب للأم الملهوفة وهي تندد بالانتهاكات التي قد تصل إلى العيب الأسود وفق الأعراف القبلية المعلومة لدى الراسخين في “المراغة”.
كنت أحد الذين راهنوا نسبياً على النخب الإجتماعية في رفع الأذى عن المدنيين كوننا بلد يفتقر لآلية الحماية المدنية وعولت كثيراً على الحماية الإجتماعية، وكنت أمقت الخطاب المتعالي على القبيلة باعتبارها آلية حماية إجتماعية قد تحد من تغول وبطش السلطة بحق المدنيين كما حدث من تفاعل اجتماعي إيجابي مع ثورة الشباب.. غير أن ذلك التعويل يكاد أن يتبخر كلياً، وقد تبخر جزئياً فلم يعد المخيال الاجتماعي والشهامة الاجتماعية تخطر في بالي كثيراُ كما كانت في خيال القبيلي الشهم أعلى الديوان وهو يتحدث بمرارة عن التصرفات التي لها علاقة بإهانة الكرامة الإنسانية، وأن لا صمت تجاه مس كرامة يمني أو يمنية من قبل أي سلطة كانت ومن قبل أي شخص كان.
وتلك اللقاءات الموسعة التي كانت تنجد الملهوف وتغيث ذوي الحاجة..تحولت الى فقاعة صابون متوسط الجودة ويبدو أن الإمامة هي الفيروس الذي يعطل فاعلية الشهامة اليمنية ويشل حركتها وهذا ما كنت أقرأه في المرويات التاريخية، وأرى براهين في اللحظة الراهنة إشارة إلى ذلك من بينها كيف أن الذين أرهقوا مسامعنا بالحديث عن النخوة والشهامة كأن على رؤوسهم طير الهدهد واجمين في صنعاء ومحيطها تجاه الإنتهاكات باستنثاء أصوات الأحرار النادرين والنادر لاحكم له..
تصمت صنعاء كل يوم أكثر تجاه الانتهاكات التي تطال أمهات المختطفين، صنعاء التي ابديت عليها حنقاً غير معلن وأنا أقرأ نصوصاً للبردوني حملت ما يشبه النداء الجريح حينما كان ينادي “صنعاء يا أخت القبور ثوري فإنك لم تثوري، حاولت أن تتقيئي في ليلة عفن العصور، وأردت قبل وسائل البنيان تشييد القصور، ونويت في تشرين أن تلدي أعاجيب الزهور.” بهذا النداء الجريح كان البردوني يخاطب صنعاء الواجمة بما يشبه صمت المقابر إزاء مفاعيل الحرية والثورة التي تدب في مفاصلها وشوارعها بينما لاتتفاعل مع صوت الحرية المكتوم من قبل أعداء الاستجابة.
هي ذات المدينة الرهينة التي شهدت شوارعها يومنا هذا اعتداءً على أمهات المختطفين وأياديهن المتعبة، التي تلوح في البحث عن المغيبين في سجون الانقلاب. بحسب مهتمين بالحقوق والحريات فإن الإعتداء على أمهات المختطفين جريمة مضافة إلى جريمة الاختطاف لأبنائهن وذويهن، في ظل غياب آلية الحماية المدنية للأمهات بعد الحصار والترويع الذي تعرضن له من قبل المليشيا. وكذا غياب الحماية الاجتماعية “الشهامة الاجتماعية” التي ظنناها واقعاً وتحولت إلى شهامة افتراضية.
رابطة أمهات المختطفين راية الحرية التي لم تسقط في صنعاء رغم الضربات والأذى الذي يطالهن من قبل المليشيا، هي آخر ما تبقى من ملامح الشهامة المدنية الواقعية..
التعامل مع المختطفين المدنيين كأسرى حرب، وعدم معرفة أماكنهم، وغياب الاهتمام الأممي والحقوقي الدولي بهم، عناوين أليمة تستحق التنديد كل لحظة بالشهامة التي تعمل على فك قيد واحد على حريتهم.
أنا ضد الشهامة الإفتراضية التي لم تتحول إلى واقع ملموس ولو نسبياً.. أنا ضد الأعراف التي تلاشت تجاه حريق ظفائر الأمهات والإنتهاكات التي تطالهن، ضدغياب النخوة القبلية في مناطق سيطرة المليشيا تجاه ما تتعرض لها النساء من اعتداءات سافرة تزيح الستار عن من تبقى من أدعياء الشهامة الافتراضية.
بين تجربة رابطة أمهات المختطفين في اليمن والقبعات البيضاء في سوريا تتجسد تجربة الكفاح المدني في مراحل الصراع في ظل التساؤل عن مستقبل النضال المدني لأمهات المختطفين في محيط مغلق على العمل المدني وعن إمكانية أن تتحول الشهامة الافتراضية إلى واقع ولو في اللحظات الحساسة الأخيرة والحرجة من عمر الانقلاب الذي ينكمش كل يوم.
(نقلا عن المصدر أونلاين)