تمشي بخطى مُتسارعة في الصباح الباكر عبر شوارع مدينة لاهاي متجهةً للعمل. بابتسامة لا تفارق محياها وعينان تتقدان ذكاءً تُدوِّن مريم أفكارها ومشورتها على قصاصات أوراق صفراء، لتقدمها إلى أعضاء كتلة البرلمان التي تعمل معها.
بابتسامة لا تفارق محياها وأفكار تتدفق منها كنهر لا ينضب وروحاً مشبعة بالأمل تبدأ مريم صباحها كل يوم.
تنحدرُ مريم السقاف من إحدى الأسر الحضرمية اليمنية المُحافظة، وانتقلت وهي في ربيعها الرابع إلى هولندا برفقة والديها اللاجئين. كثير من الكفاح والإيمان تخلل مشوار حياتها نحو النجاح. “لم أحلم فقط، بل سرتُ بخطى ثابتة نحو حلمي” هكذا وصفت مريم السقاف، أصغر موظفة في البرلمان الهولندي نجاحها خلال حوارها مع DW عربية.
مريم الطموحة
منذ نعومة أظفارها تميل مريم إلى الأجواء الإجتماعية الدافئة. فهي تهتم بتفاصيل الأمور وتتفنن دائماً بعمل خطط الإجازات لعائلتها. أصدقاؤها ايضا يعتمدون عليها عندما تكون هناك رحلة أو حفلة ما يريدون القيام بها. تقول مريم ” كنت دائمةَ الحرص على معرفة المجتمع الهولندي. كيف ينظم الناس أنفسهم، ما هو دور الحكومة وما الذي يمكنني القيام به للمساهمة به في هذا البلد؟ لذلك لم يكن من المستغرب أن أتجه نحو دراسة قضايا المجتمع والقطاع العام”.
تشعر مريم أنها تجسيد لطموح كل امرأة شرق أوسطية نشأت في مجتمع ذكوري حرمَ المرأة فرصها في الحصول على وضع متساوٍ مع الرجل، وهو ما تصفه مريم بـ”العار”. مريم الفتاة التي تنحدر من إحدى العائلات المعروفة في اليمن بتدينها الشدد، أطلقت العنان لأحلامها، وحققت نجاحات منقطعة النظير منذ سن باكرة، لتصبح أصغر موظفة في البرلمان.
ولم تكن طريق مريم إلى تحقيق أحلامها من حرير، بل واجهت تحديات عديدة في مجتمع يشهد تفاقم العداء تجاه المهاجرين، خاصة المسلمين منهم. ففي البرلمان الذي وجدت فيه مريم فرصة عمل نادرة لمهاجرة مثلها، يسجل الخبراء تراجعا خلال السنوات الأخيرة في عدد البرلمانيين من أصول مهاجرة.
في أروقة البرلمان الهولندي
كانت مريم منذ نشأتها في زيارات دائمة مع والديها إلى اليمن. ومع وجود الفارق التاريخي والثقافي، يبدو أن بعضاً من روح البيئة اليمنية قد ألقى بظلاله على فكر مريم الليبرالي المحافظ. ظهر ذلك عند اختيارها للحزب الذي تنتمي اليه الآن، وهو حزب الشعب للحرية والديمقراطية “VVD” المحافظ، وهو أكبر حزب في الحكومة، ولديه 33 مقعد في الانتخابات الأخيرة.
العمل الخاص لمريم كمساعد سياسي، جعلها نقطة الاتصال للمواطنين والمنظمات والصحفيين وموظفي الخدمة المدنية الذين يرغبون في الحصول على اتصال مع النائب البرلماني، كما تشارك في النقاش الذي يدور بينه وبينهم.
تصف مريم مكتبها بأنه موطن آخر لها، حيث تمارس فيه كل ما حلمت به. يبدو أن هذا المنصب لم يكن مجرد وظيفة مرموقة يحلم بها الكثيرون، بل إنه العمل الذي يتوافق وشخصيتها في الحياة، كما تقول مريم، وتضيف بأن عملها كمساعد سياسي ساعدها في التعرف عن كثب على أفكار عضو البرلمان الذي تعمل معه، وهو يعطيها الفرصة للإطلاع على عملية صنع القرار السياسي في البرلمان، من البداية وحتى النهاية.
“إيمان والدي بي مفتاح نجاحي”
“لولا إيمان أبي بي، لما كنتُ الآن على ما أنا عليه”. وتردف قائلة: “تجاوز أبي العقبات والانتقادات المجتمعية، وكان دائم التشجيع لي”. ينظر حسين أبو مريم الذي كان يرافقنا خلال هذا اللقاء، بفخر إلى ابنته، مقاطعاً:
“عندما أنهت مريم تعليمها الأساسي، بعمر الـ 14، حان وقت انتقالها إلى إحدى مدرستين: إما إلى الـ “Gymnasium” وهي المدرسة الثانوية ذات المعدلات المرتفعة، أو إلى الـ “Atheneum vwo” وهي المدرسة الثانوية العادية”.
ويضيف: “خلال اجتماعي بأستاذ مريم لتقييم مستواها الدراسي قدم ملاحظاته متحدثاً عن المدرسة الأنسب لها”. وينقل والد مريم عن مدرِّس قوله: “مريم فتاة ذكية، بيد انها اجتماعية جدا، وهو ما قد يشغلها في مدرسة تتطلب تفرغا تاما”. نظر الأب حينها إلى مريم ورأى – كما يقول – نفحة حزن في عينيها، ثم وجه إليه حديثه مباشرةً قائلاً:
“أشكرك على جميع ملاحظاتك وبالتأكيد ستستفيد منها مريم، لكن ابنتي ستذهب إلى المدرسة التي اختارتها هي، أنا مؤمن بأنها ستحقق ما تريد. وهذا ما كان. فقد تفوقت ابنتي رغم أنها لم تتوقف عن ممارسة حياتها الاجتماعية مع الأصدقاء”.
الحزام الأسود
تميز مريم لم يكن فقط داخل أروقة البرلمان، بل برز أيضا من خلال هوايات كانت تمارسها منها فن الكاراتيه. بدأت مريم الكاراتيه وهي في السابعة حتى حصولها الحزام الأسود في السابعة عشرة، وتصفها بأنها رياضة الدفاع عن النفس.
تقول مريم: “إيمان والدي بي هو مفتاح نجاحي”.
وأكثر ما يميز مريم هو علاقاتها مع الآخرين، وهو ما بدا واضحاً خلال جولتنا معها في البرلمان، حيث كانت تتواصل وباتسامتها المعهودة مع الجميع.
وإضافة إلى روحها المرحة، فهي فتاة دقيقة جداً في عملها، وهو ما جعل مدراءها في العمل ومنذ تدريبها يتمسكون بها رغم كونها طالبة. كما تجيد مريم ست لغات وهي العربية والإنكليزية والهولندية والروسية والألمانية والفرنسية.
المرأة الشرقية والغرب
ترى مريم أن الصعوبات التي تواجهها المرأة في اليمن وفي الشرق الأوسط، في ظل العادات والتقاليد والدين، لا يجب أن تكون حاجزا بين المرأة وطموحها. فالنساء في أوروبا لم يحظين بالحرية التي وصلن إليها إلا بعد سعي ونضال طويل، دون أن يتوقف نضالهن من أجل رفع سقف طموحاتهن.
تشعر مريم بالحزن على وضع النساء في بلاد الشرق، لأنها ترى أن هناك الكثير من مثيلاتها من حيث الطموح، لكنهن لم يجدن الفرصة بعد.
وتوجه مريم حديثها للمرأة العربية قائلة: “ثقي في نفسك وتعلمي، لأن المعرفة هي القوة والتمكين والتحدي لتحقيق ذاتك، وهذا يتطلب شجاعة وقوة”. وتؤكد مريم بأنها على يقين بأن المرأة العربية “إنْ قامت بذلك فستأخذ مكانها في المجتمع وستحقق النجاح الذي تنشده”.