مرَّ على الواقعة قرابة الـ30 عاماً، وما زال ذوو الضحايا يبحثون عن حق أولادهم الذين قُتلوا وتمَّ دفنهم سراً، وحتى مقابرهم لا يوجد لها أثر، على أيدي مُرشدين أعالٍ إيرانيين في عام 1988.
أُسر المعتقلين السياسيين الذين أُعدِموا في ثمانينيات القرن الماضي، ناشدوا الأمم المتحدة أن تُعلن الحقيقة بشأن إحدى أفظع الجرائم التي ارتكبتها إيران ضد شعبها، بحسب تقرير لموقع الديلي بيست الأميركي 30 أغسطس/آب 2017.
وكان 50 مواطناً إيرانياً، فقدوا أفراداً من أسرهم في عمليات إعدامٍ جماعي، قد أرسلوا إلى أسماء جاهانغير، المُقرِّرة الخاصة التابعة للأمم المتحدة المعنيَّة بأوضاع حقوق الإنسان في إيران؛ لمناشدتها العمل مع فريق العمل التابع للأمم المتحدة المعنيّ بحالات الإخفاء القسري أو غير الطوعي لتوضيح ما حدث، ولإجبار إيران على الاعتراف بالجريمة. وشملت الرسالة مطالب بمحاكمة المسؤولين عن عمليات الإعدام الجماعي في محكمةٍ عامة، واتهامهم بانتهاك الدستور الإيراني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ويعيش جميع أفراد الأسر التي قدمت الطلب حالياً في إيران، وكتبوا أسماءهم جميعاً في الرسالة، وهي خطوةٌ قد تُعرِّضهم للخطر.
وكانت عمليات إعدام واسعة بحق معارضي النظام الإيراني السياسيين قد بدأت بعد الثورة الإسلامية مباشرةً في عام 1979. ولم تستغرق محاكمات الضحايا أكثر من بضع دقائق، ولم يُمنَح من أُعدِموا فرصةً للدفاع عن أنفسهم. ووقعت أسوأ مذبحةٍ في صيف عام 1988، مع تنفيذ عمليات إعدامٍ جماعي بعد بضعة أيامٍ فقط من قبول طهران قرار مجلس الأمن الدولي بإنهاء الحرب الإيرانية-العراقية التي استمرت 8 أعوام.
وتُقدِّر منظمة العفو الدولية ومنظماتٌ أخرى معنية بحقوق الإنسان أنَّ عدد القتلى من الرجال والنساء والأطفال بالسجون الإيرانية في صيف عام 1988 يتراوح بين 4500 و5000 شخص.
وفي كثيرٍ من الحالات، كانت هناك أحكامٌ بالسجن صادرةً بالفعل في حق الضحايا، حتى إنَّ بعض من أُعدِموا كانوا قد أكملوا مدة عقوبتهم وقت وفاتهم. بيد أنَّ عدد القتلى الحقيقي لا يزال مجهولاً؛ لأنَّ عمليات الإعدام نُفِّذَت سراً.
ودُفِنَت جثثهم في مقابر جماعية لا تحمل علامات، معظمها بمقبرة خفران في جنوب شرقي العاصمة الإيرانية (طهران)، ولم تُبلَّغ الأسر ذلك. وحتى اليوم، تتعرض الأسر لمضايقاتٍ عند زيارة قبور أحبائهم. وعلى مدار عقود، بذلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية جهوداً هائلة لمحو ذكرى المذبحة.
والآن، وبعد نحو 3 عقود من عمليات الإعدام، يئِس العديد من أفراد أسر الضحايا من أن تزوّدهم البلاد طواعيةً بمعلوماتٍ عمَّا حدث. وتُعَد مناشدتهم أسماء جاهانغير محاولةً جديدة لإقناع المجتمع الدولي بمساءلة إيران.
والعام الماضي، قال أحمد منتظري، نجل المرجع الراحل آية الله منتظري، أن وزارة الأمن والاستخبارات طلبت من الموقع الرسمي لهذا المرجع الشيعي المعارض حذف ملف صوتي يعود لعام 1988 يدين مسؤولين في النظام الإيراني بتنفيذ إعدامات جماعية بحق الآلاف من المعارضين خلال شهرين من الزمن في عام 1988.
مطالباتٌ بظهور الحقيقة بلا جدوى
وجاء في الرسالة أنَّ الأُسر قدَّمت عدة طعونٍ للسلطات الإيرانية لتزويدهم بالمعلومات، تشمل عدد الأشخاص الذين أُعدِموا وأسماءهم، ووصاياهم، وأماكن دفنهم، ومواعيد إعدامهم، ومواعيد محاكماتهم، والتهم الموجَّهة إليهم، ومدة استمرار المحاكمات. ولكنَّهم لم يحصلوا على أي إجابات، بحسب الموقع الأميركي.
تُطالب الأسر أيضاً بتفويض وفدٍ دولي لتفقُّد الأوضاع في السجون الإيرانية، وإجراء مقابلاتٍ مع السجناء السياسيين وأسر الأشخاص الذين أُعدِموا.
وكانت الأسر قد بدأت مناشدتها الأولى للحصول على المعلومات، بعد فترة وجيزة من تنفيذ عمليات الإعدام في عام 1989، وأرسلوا طلباتهم إلى حسن حبيبي، وزير العدل آنذاك. ثم وجَّهوا نداءً مماثلاً إلى الرئيس الإيراني محمد خاتمي أواخر عام 1998. وفي الآونة الأخيرة، أرسلوا إلى الرئيس حسن روحاني، وسألوه الأسئلة نفسها، وحصلوا على النتيجة نفسها؛ الصمت.
وفي شهر فبراير/شباط من عام 2009، أُرسِلَت جرَّافاتٌ إلى مقبرة خفران لتدمير آثار القبور، مع أنَّ هوية المدفونين فيها لم تكن واضحة. وبعد ذلك، مُنِعت الأسر من زيارة المقبرة.
الأسر المنسيّة
في السنوات الأخيرة، زادت بالفعل مضايقات السلطات لأُسر الضحايا. وقالت منيرة برادران، التي قضت بالسجن 9 سنوات في ثمانينيات القرن الماضي، إنَّ الأسر لا تزال تتعرض بانتظامٍ لاستجوابات، واعتقالات، وتهديدات.
وتقول منيرة إنَّه رغم حديث الناس عن عمليات القتل التي وقعت عام 1988، فإنَّه “للأسف، نُسِيَت الأُسر وما تمر به، رغم حقيقة أنَّ الأُسر كانت هي من حافظت على إحياء ذكرى ما حدث”. وأضافت أنَّ السلطات نجحت في عزل الأسر؛ ومن ثم إسكاتهم. وأردفت: “طالما بقيت الأُسر معزولة، فسيستمر هذا الجرح في التفاقم”.
وجاء في الرسالة: “لقد حُرِمنا من حرية إقامة مراسم تذكارية في بيوتنا، ولذلك، قررنا الالتقاء في مقبرةٍ مهجورة لا تحمل علامات؛ للحفاظ على إحياء ذكراهم”. ولكنَّ السلطات رفضت منحهم “حتى هذا الحق البسيط”. وقالوا إنَّ الشرطة تشن “مداهماتٍ مستمرة” ضد الأسر، وتستخدم العنف ضدها. وجاء في الرسالة كذلك: “تعرَّض العديد من أفراد أسر الضحايا للتهديد أو الاعتقال أو الطرد من وظائفهم. ولا يزال هذا الوضع مستمراً”.
خرق المحظورات
على مدار سنواتٍ عديدة، كان التحدُّث عن عمليات الإعدام الجماعي التي وقعت في الثمانينيات يُعتبر من المُحرَّمات، وهو خطٌ أحمر رسمته طهران. وفي معظم الأحيان، كانت الأُسر تحافظ على إحياء ذكرى أحبائهم وتواصل المطالبة بتحقيق العدالة، لكنَّهم كانوا الوحيدين الذين يفعلون ذلك. وفي الأعوام الأخيرة، كُسِر حاجز الصمت، وعُرِضت القضية في بعض الأفلام، حتى إنَّ بعض الشخصيات البارزة أثارتها، بحسب “الديلي بيست”.
وفي العام الحالي (2017)، ترشُّح إبراهيم رئيسي، الذي كان ضمن اللجنة الثلاثية التي قررت مصير السجناء الذين أُعدِموا، كمنافسٍ رئيس للرئيس روحاني، وهو ما أعاد إثارة النقاش والجدل حول المسألة.
ولكن حتى قبل ترشُّح رئيسي، وضع ظهور معلوماتٍ أخرى حداً للصمت؛ مما أدى إلى عودة الأحداث المُروِّعة إلى بؤرة الأضواء السياسية.
ففي شهر أغسطس/آب من عام 2016، أصدر مكتب آية الله منتظري الراحل، وهو الوريث السابق لآية الله الخميني، مقطعاً صوتياً لاجتماعٍ بين منتظرى و”فريق الموت” الذي اختاره الخميني لتنفيذ عمليات الإعدام، والذي كان يضمَّ رئيسي. وأعرب منتظرى في المقطع عن اعتراضه الشديد على المخطط، وقال إنَّ الناس سيتذكرون الخميني بأنَّه “قاتلٌ متعطشٌ للدماء” إذا سَمَح بتنفيذ هذا المخطط.
وحكمت السلطات الإيرانية على نجل منتظري، أحمد منتظرى، بالسجن لمدة 21 عاماً؛ بسبب دوره في نشر المقطع، ولكنَّ تنفيذ الحكم أُوقِف في وقتٍ لاحق.
الهدف: التخويف
إذاً، لماذا سمحت الجمهورية الإسلامية بكسر الصمت؟ تعتقد منيرة أنَّ السبب في ذلك هو أنَّ الإسكات القسري لم يحقق النتائج المرجوة منه. وقالت: “أرادوا أن ينسى الناس المأساة، ولكن بمرور الوقت، كانوا يتحدثون عنها أكثر وأكثر. وحين بدأت الحركة الخضراء (في أعقاب الانتخابات الرئاسية الإيرانية المُتنازع عليها التي أُجريت في عام 2009)، وصل الأمر إلى أنَّ الشباب الذين كانوا أطفالاً في الثمانينيات أو لم يكونوا قد وُلِدوا آنذاك، أثاروا أسئلةً حول أحداث تلك الفترة. والآن، تدافع السلطات نفسها عن المذبحة بوقاحة”.
فعلى سبيل المثال، في 15 يوليو/تموز، أشاد آية الله خامنئي بفيلم “Midday Adventures” أو “مغامرات منتصف النهار”، الذي يروي قصةً مشوَّهةً عن اعتقال قادة منظمة مجاهدي خلق الإيرانية.
جديرٌ بالذكر أنَّ إيران تُصنِّف جماعة مجاهدي خلق كمنظمةٍ إرهابية، وكانت الولايات المتحدة تفعل الأمر نفسه حتى عام 2012. وقبل الثورة، استهدفت منظمة مجاهدي خلق مستشارين عسكريين أميركيين في إيران. وبعد ذلك، قتلت رئيس وزراء ورئيساً، فضلاً عن آلاف المسؤولين والمواطنين. وفي أثناء الحرب الإيرانية-العراقية، كانت المنظمة تحظى بدعم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
وكان هناك آلافٌ من أعضاء منظمة مجاهدي خلق بين من أُعدِموا في مذبحة عام 1988.
وقال خامنئي كذلك إنَّه “يجب فعل شيءٍ” لأسد الله لاجيفاردي، الذي كان أحد المسؤولين عن عمليات الإعدام الجماعي في عام 1988. ويُذكَر أنَّ منظمة مجاهدي خلق اغتالت لاجيفاردي، الذي أُطلِقَ عليه لقب “جزَّار إيفين”، في عام 1998. ويُشير تصريح خامنئي المبهم إلى اعتقاده أنَّه ينبغي تكريم لاجيفاردي، وأنَّ ما فعله كان مُبرَّراً، مع أنَّه لم يقل ذلك مباشرةً.
وفي 17 يوليو/تموز، دافع وزير الاستخبارات السابق، علي فلاحيان، بقوةٍ، عن عمليات الإعدام، وقال إنَّ السجناء السياسيين “استحقوا” القتل. وفي 21 يوليو/تموز، دعا أحمد خاتمي، خطيب جمعة طهران المؤقت وعضو مجلس الخبراء، إلى تكريم المسؤولين عن عمليات الإعدام.
وقالت منيرة إنَّ التصريحات الأخيرة التي أدلى بها بعض مسؤولي الجمهورية الإسلامية عن أحداث عام 1988، ساعدت في تجديد الاهتمام العام بها. وأضافت: “لكنَّنا رأينا النتيجة في أثناء الانتخابات؛ إذ صوَّت العديد من الناخبين حتى لا يفوز إبراهيم رئيسي، الذي لعب دوراً هاماً في عمليات الإعدام”.