بعد عامين من إعلان الحكومة اليمنية، مدينة عدن، ثاني أهم مدن البلاد، “محافظة محررة” من مسلحي الحوثيين وحلفائهم الموالين للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، تواجه المدينة اليوم انقلاباً ثانياً يقوده تيار ينادي بانفصال الجنوب عن الشمال، ويحظى بدعم مباشر من أبوظبي، محاولاً تقويض الحكومة الشرعية، التي تتبنى مشروع تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم فيدرالياً.
ويستفيد منفذو “الانقلاب الثاني”، وداعموهم، من الأزمات التي تعانيها “المناطق المحررة” والتي تتعدى مسألة “شكل الدولة” إلى فوضى غياب مؤسسات الدولة، فضلاً عن صراع النفوذ بين المجموعات المحلية وارتباطاتها الإقليمية.
وكانت الحكومة الشرعية أعلنت في 17 يوليو/ تموز 2015، أن عدن، والتي تصفها بـ”العاصمة المؤقتة”، باتت محافظة “محررة” من الانقلابيين بعد حرب طاحنة استمرت لما يزيد عن ثلاثة أشهر، وذهب ضحيتها الآلاف بين قتيل وجريح.
كما تعرّضت البنية التحتية لدمار واسع، سواء بالمواجهات المباشرة بين قوات الشرعية والمجموعات المسلحة الموالية لها مع الحوثيين وحلفائهم، أو نتيجة للقصف الجوي المكثف لمقاتلات التحالف التي كانت تستهدف المعسكرات والأهداف المفترضة التي يسيطر عليها الحوثيون.
وبالعودة إلى ما قبل عامين، فقد كانت عدن في الأصل الشرارة التي أشعلت الحرب بحدودها الواسعة، إذ تمكن الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي في فبراير/ شباط 2015 من مغادرة “الإقامة الجبرية” التي فرضها عليه الحوثيون والموالون لصالح في صنعاء.
وتوجّه إلى عدن ليعلن منها التراجع عن استقالة كان قد تقدم بها تحت ضغوط مطلع العام نفسه. وأعلن هادي عدن “عاصمة مؤقتة”، واصفاً صنعاء بأنها محتلة من المليشيات. وبعدها اتجه الحوثيون وحلفاؤهم صوب عدن، وما إن اقتربوا من المدينة، حتى بدأ التدخل العسكري للتحالف العربي بقيادة السعودية.
وخلال الأشهر الأولى من الحرب، كانت جهود التحالف منصبة باتجاه عدن، الأمر الذي كان ملموساً من خلال تصريحات مسؤولين في التحالف وقيادة الشرعية التي انتقلت مع تصاعد الحرب إلى السعودية.
تحدث هؤلاء عن عدن باعتبارها “مفتاح السلام” إذا ما قبل الانقلابيون الانسحاب منها للسماح بعودة الشرعية إلى البلاد وتحقيق الانتصار للتحالف، باعتبار أن المدينة كانت شرارة التدخل العسكري الذي جاء بناءً على طلب من الرئيس اليمني.
طوت عدن، في يوليو/ تموز 2015، صفحة الحرب مع الحوثيين وصالح، وفي شهر أغسطس/ آب انسحب الحوثيون وانهارت قواتهم في المحافظات المحيطة بعدن، تحديداً لحج وأبين وأغلب مناطق شبوة.
وكان ذلك بمثابة التحول الأهم خلال الحرب التي تصاعدت بتدخل التحالف العربي، وكانت الخطوة المرتقبة بعدها هي “عودة الشرعية”، باعتبارها على رأس أهداف التحالف المعلنة، وكنتيجة طبيعية لخروج “الانقلابيين” من “العاصمة المؤقتة”.
أدت الحرب لتدمير معسكرات الجيش اليمني ومقرات الأمن في عدن ومحيطها من الجنوب اليمني، وبعد انسحاب الحوثيين والقوات المتحالفة معهم، كانت المدينة على موعد مع مرحلة جديدة من المليشيات والمجموعات المسلحة التي وحدتها الحرب ضد الحوثيين، لكنها متباعدة في الأهداف والخلفيات.
وكانت الإمارات هي الدولة التي تولّت واجهة عمليات التحالف وعمله، في جنوب اليمن، بعد خروج الانقلابيين. وعملت أبوظبي على مجموعة تحالفات محلية مع تيارات في الحراك الجنوبي المنادي بالانفصال، وأخرى سلفية، على غرار المجموعات المحسوبة على وزير الدولة السابق هاني بن بريك.
خلال العام الأول (بعد خروج الحوثيين)، جرت عمليات تأطير وتدريب للمجموعات المسلحة التي نشأت تحت مسمى “المقاومة”.
في هذا السياق، ذكرت مصادر محلية أنه “تمّت محاولة إذابة المليشيات في المظهر من خلال توزيعها في معسكرات وعمليات تدريب هنا وهناك، إلا أنها لم تنجح بالضرورة في تغيير المحتوى المتعدد الأهداف والولاءات. الأمر الذي ظهر واضحاً من خلال موجات من النزاع على النفوذ داخل المدينة وبعض الحوادث المثيرة، كعمليات اغتيال استهدفت ناشطين اتُهموا من جماعة داخل إحدى المعسكرات بالإلحاد”.
عادت الحكومة الشرعية إلى عدن في أوقات متقطعة، لم تستقر معها بشكل فعلي بالغالب، بقدر ما كانت العودة رمزية أمام تحديات كبيرة.
ومن بين هذه التحديات إعادة الإعمار وعدم وجود بنية تحتية لمؤسسات دولة، كما هو الأمر في صنعاء، بالإضافة إلى الملف الأمني، إذ إن بعض المجموعات المسلحة التي شاركت بمواجهة الحوثيين كانت محسوبة على تنظيم “القاعدة” وشاركت إلى جانب قوات موالية للشرعية مدعومة بقوات إماراتية محدودة، في معركة “تحرير عدن”.
واعتباراً من مطلع عام 2016 بدأت أبوظبي والقوات اليمنية التي تأسست أغلبها حديثاً من جنوبيين عمليات عسكرية لإخراج مسلحي “القاعدة” من أحياء في عدن ومحيطها من المحافظات جنوب البلاد وشرقها. وهي عمليات بدت كما لو أنها “حرب تحرير ثانية” للمناطق التي أُعلن قبل عامين عن تحريرها من الحوثيين، ولكنها في المرة الأخيرة، كانت مع مسلحي “القاعدة”، الذين انسحبوا في الغالب بعد ضربات جوية وعمليات محدودة.
منذ أكثر من عام، دخلت عدن في موجة جديدة من الصراع على النفوذ بين المجموعات المتحالفة مع أبوظبي أو المدعومة منها، وأغلبها من المحسوبين على الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال، وأيضاً بين القوات والشخصيات والقوى المحسوبة على هادي، كون محافظ عدن السابق عيدروس الزبيدي ومدير الأمن في المدينة، شلال علي شائع، ومسؤولين آخرين بينهم قادة تشكيلات عسكرية، كانوا (وما يزال بعضهم)، يتجهون بولائهم لأبوظبي لا لحكومة الشرعية التي ينحصر وجودها في الغالب في القصر الرئاسي بمنطقة معاشيق، ودخلت في صراع مع موالين لأبوظبي حول مطار عدن.
في سياق الحديث عن عدن بعد عامين من إعلان “تحريرها” من “الانقلابيين”، برز حدث مفصلي، متمثل بكون القوات التي خرجت وانهارت أو حُسبت على الانقلابيين، كانت تمثل ما تبقى من القوات النظامية اليمنية التي يعتبرها الانفصاليون “شمالية”، وإن كانت تضم في مكوناتها من الجنوبيين.
وعقب الحرب، باتت عدن ومحيطها خالية تقريباً من أي تواجد لقوات تضم شماليين، وإن كانوا محسوبين على الشرعية، فالقوات التي تأسست جنوباً بدعم أبوظبي، مؤلفة من جنوبيين.
كما شهدت عدن حملات لمضايقة المواطنين المتحدرين من المحافظات الشمالية، وكل ذلك يجعل الوضع أقرب إلى تقسيم عملي، مع وجود حكومتين إحداهما في صنعاء والأخرى في عدن، وإن كانتا لا تصرحان بالانفصال بشكل رسمي، إلا أنه الأمر الأقرب إلى الواقع. بعد مرور عامين على إعلان “تحرير عدن”، شهدت المدينة تطوراً هاماً في مايو/ أيار الماضي، تمثل بتمرد أو انقلاب ثانٍ على الشرعية، حينما أعلن محافظ عدن السابق المدعوم من أبوظبي، تأسيس “المجلس الانتقالي الجنوبي” الانفصالي.
وذكر أن مهامه “إدارة وتمثيل الجنوب”، وأعلن هدفه بالسعي لـ”استعادة الدولة الجنوبية”، على حدود ما قبل توحيد شطري اليمن عام 1990. وبذلك أصبحت “الشرعية” أمام انقلاب أو نصف انقلاب في عدن، مدعوم من أبوظبي.
وقد حاول المجلس التهدئة، ولو ظاهرياً فقط، في الأسابيع الأخيرة عبر تراجعه بشكل نسبي عن وصف نفسه كـ”سلطة” انقلابية، من خلال التصريح بأنه لا يستهدف الشرعية لكنه في موازاة ذلك ركز على تحميل الحكومة المسؤولية عن تدهور الخدمات مع التهديد بأنه سيتجه لـ”تسلّم إدارة الجنوب” إذا ما استمر الفشل الحكومي، على حد وصفه.
*ويكيليكس يمن