الحكومات والاستقرار الإقليمي، وأصبحت ظاهرة صعود الميليشيات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أحد حقائق السياسة في هذه المنطقة المضطربة.
ففي العراق على سبيل المثال، بعد أن فقد تنظيم «داعش» سيطرته على شمالي البلاد، ملأت جماعاتٌ شبه عسكرية الفراغ الناتج في بعض الأحيان، مستفيدةً من ظروف الحوكمة السيئة نفسها التي ساعدت على وصول داعش إلى السلطة، ومواصلة عرقلة الاستقرار في المنطقة.
فمَن المتسبب في صعود الميليشيات في المنطقة، وكيف يمكن للمنظمات الدولية والإنسانية التعامل هذه الظاهرة.
تقرير لمعهد Brookings الأمريكي، عرَضَ أسباب هذه الظاهرة، حيث عرض شادي حميد وفاندا فلباب براون، الزميلان البارزان في المعهد، رؤى ثاقبة حول الدور المعقَّد الذي تؤديه مثل هذه الميليشيات في البلدان ذات الحكومات الهشة والعاجزة.
كما ناقش بول وايز، الأستاذ في جامعة ستانفورد، وجيفري فيلتمان، الزميل الزائر في معهد Brookings تحديات تقديم المساعدات الإنسانية، والتعقيدات المحيطة بالتعامل الدولي مع هذه الميليشيات. فيما أدارت الزميلة البارزة في المعهد سوزان مالوني الفريق الذي بحث هذا الموضوع.
هناك حوالي 150 ألفاً من أفراد الميليشيات يحتشدون في العراق، حسبما ذكرت فاندا في موجزٍ سياسي جديد قائم على بحث ميداني في البلاد.
وأكَّدت أنَّ بعض هذه الميليشيات يشكل تهديدات مختلفة للدولة العراقية والمجتمع العراقي، في ظل تسبُّبها في تأجيج الطائفية والقمع السياسي.
وأوضحت فاندا كيف تشارك بعض الجماعات شبه العسكرية في ممارسات «إسكاتٍ منهجي» و «تحريف اقتصادي» و «ممارسات ابتزاز صريحة شبيهة بممارسات عصابات المافيا»، مما يسمح للميليشيات ببناء «رأس مال سياسي هائل»، والتسلل إلى مؤسسات الدولة.
وصحيحٌ أنَّ فرص الميليشيات لإطاحة الدولة العراقية ضئيلة، لكنَّ فاندا أكَّدت أنَّ بعضها، ولاسيما تلك الميليشيات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالساسة العراقيين وتحظى بدعمٍ من إيران، قد استولت على الدولة العراقية من الداخل، في بلدٍ «ينظر أغلب أبناء شعبه إلى أفرادها على أنَّهم أبطال«.
وأوضح حميد أن صعود بعض الجماعات مثل داعش في العراق وسوريا، اللتين تعصف بهما الحرب الأهلية، يرجع في الأساس إلى الظروف الكامنة المتمثلة في الحوكمة السيئة، وقدرة الميليشيات على تقديم نفسها على أنَّها «أفضل البدائل السيئة».
فقد خلق مناخ فترة ما بعد الحرب الأهلية فراغاً استغله تنظيم داعش وميليشيات أخرى. وقال حميد إنَّ الجماعات المسلحة غير الحكومية تزدهر في الأماكن التي لا تجد فيها الاحتياجات الأساسية للمواطنين سوى «حوكمةٍ سيئة، أو فاشلة، أو منعدمة في الأساس».
وسلَّط حميد الضوءَ على الكيفية التي أدَّى بها عزم داعش على تطبيق نسخةٍ متطرفة من الشريعة الإسلامية، في الأراضي الواقعة تحت سيطرته، إلى إنشاء «هياكل قانونية ومؤسسية معقَّدة إلى حدٍّ كبير»، وفَّرت للعراقيين والسوريين خدماتٍ قانونية ومحاكم محلية وآلياتٍ لفضّ النزاع، كانت غير متوفرة في أغلب الأحيان تحت إدارة حكوماتٍ فاسدة وعاجزة للغاية.
ومن ثَمَّ، فعندما يكون «سقف الطموحات منخفضاً جداً»، لا تحتاج هذه الجماعات المسلحة غير الحكومية إلى توفير حوكمة جيدة، بل مجرد «حوكمةٍ تكفي» لكسب الدعم المحلي من المواطنين، الذين ربما يكونون كارهين لأيديولوجية الجماعات المتطرفة مثل داعش، لكنَّهم يفضلونها على الخيارات الأخرى المتاحة المتمثلة في الفوضى التامة، وغياب الخدمات الأساسية، أو الانتهاكات الطائفية من حكوماتهم، وفقاً لما ذكره حميد.
وأضافت فاندا أنَّه حتى في أفغانستان، حيث كانت حركة طالبان سيئةً في إدارة شؤون الحكم أثناء التسعينيات من القرن الماضي، كان الأفغان يُفضِّلون «وحشية طالبان التي يُمكن التنبؤ بها» على «وحشية الحكومة التي لا يمكن التنبؤ بها»، والتي كانت تُسفر عن حربٍ أهلية وانتهاكات بالغة.
تؤثر الحوكمة السيئة على طريقة عمل المنظمات الدولية كذلك. إذ قال وايز إنه إذا فشلت الدولة في حماية سيادة القانون وضمان الاستقرار، فإنَّ المنظمات الإنسانية تواجه المهمة المزدوجة المتمثلة في حماية السكان المدنيين وتوفير الغذاء لهم.
وأوضح وايز أنه أثناء معركة الموصل بين عامي 2016-2017 -التي تعد واحدة من أسوأ المعارك الحضرية منذ الحرب العالمية الثانية- اختارت منظمة الصحة العالمية الإلحاق الوظيفي للموظفين الطبيين العاملين في جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، من أجل ضمان أسرع استجابة. (وذلك على الرغم من مقاومة منظمة أطباء بلا حدود واللجنة الدولية للصليب الأحمر).
وقال وايز: «أنقذوا (بذلك) أرواحاً بالفعل، ولكن ليس ثمة إجماع على كيفية استجابة المنظمات الإنسانية لمتطلبات الصدمة»، ولفت الانتباه إلى وجود «دافع إنساني» جديد «يتعارض جوهرياً مع الاستراتيجيات الإنسانية الضرورية».
الانخراط السياسي للأمم المتحدة مع الجماعات المسلحة التي لا تنتمي للدولة يعقد الأوضاع في الدولة المضطربة.
سلط فيلتمان، وكيل الأمين العام السابق للشؤون السياسية، الضوءَ على أنه «ليس ثمة توجيه مواز أو تفويض في العموم لطريقة التعامل السياسي مع الجماعات إذا كنت مسؤولاً في الأمم المتحدة»، وذلك بسبب معارضة الدول الأعضاء نفسها.
وفي حين تشدد الأمانة العامة على الحقِّ في الحديث مع أي طرف من الأطراف المعنية ومع جميع هذه الأطراف المعنية بغرض «إدارة النزاع والحد منه وحله»، فإنَّ فعل ذلك لا يزال أمراً أصعب بكثير عند الممارسة العملية.
وتحدث فيلتمان عن ثلاث حالات -هي ليبيا وسوريا واليمن- تضرب مثالاً لصعوبة التعامل مع الميليشيات. فهذه الحكومات الثلاث جميعها شرعية -أي ممثلة في الجمعية العامة للأمم المتحدة على سبيل المثال- ومع ذلك فإنها لا تحظى باحتكار السلطة داخل أراضيها.
وبوصفه مبعوثاً للأمم المتحدة، فقد أوضح أنَّ التعامل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية يأتي مصحوباً بمعضلة صعبة، وهي: «هل يؤدي التعامل مع الجماعات المسلحة إلى إضعاف المجموعات التي تسعى جاهدة من أجل حل سلمي؟».
مع أنَّ الأمر برمته قد يتعلق بالحوكمة، فقد سارع أعضاء اللجنة بالإشارة إلى أنَّ سياسات أمريكية بعينها -ولا سيما فيما يخص تصنيف جماعات بأنها «منظمات إرهابية»- لا يزال أمراً يأتي بنتائج عكسية فيما يخص بناء الدولة والمصالح الأمريكية.
وذكرت فاندا حالة كولومبيا: نظراً إلى أن منظمة «فارك» (القوات المسلحة الثورية الكولومبية) -التي أصبحت حالياً جزءاً نشطاً من العملية السياسية- قد صُنفت في الماضي على أنها جماعة إرهابية، فإنَّ «الولايات المتحدة لا يمكنها حتى أن تشتري فنجاناً من القهوة لفارك».
وأشارت فاندا إلى مواقف مماثلة في الصومال ونيجيريا والعراق، حيث خلقت سياسات التصنيف الأمريكية تحدياً لمشاركة الأمم المتحدة أيضاً.
ولكن بينما تظهر مجموعات مثل حماس وحزب الله في القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية، فإنها لا تظهر في قائمة الأمم المتحدة. وفي النهاية تحدث فيلتمان مؤيداً لهذا النوع من المشاركة المتحفظة للأمم المتحدة على المستوى السياسي.
أما على الجبهة السياسية، فقد وجَّه وايز الانتباه إلى أثر سلبي آخر متعلق بالسياسة، وهو أنَّ قوانين مكافحة الإرهاب تطبق لاضطهاد الأطباء الذين يعالجون مرضى مرتبطين بمقاتلي العدو. وقال وايز إنَّ تقديم الرعاية المحايدة في نهاية المطاف «جزءٌ من أخلاقنا الطبية، ومبدأٌ إنساني».
تدرك فاندا الحاجة إلى نهج العصا والجزرة تجاه المجموعات المسلحة، بهدف تشكيل سلوكهم، ليكون متسقاً مع دولة عراقية أكثر شمولاً وغير طائفية وعرضة للمحاسبة وفعالة، لتكون بذلك متفقة أيضاً مع المصالح الأمريكية، وهي عملية سياسية يمكن أن تكون «غير متقنة» و «غير سارة» و «أحياناً غير منتظمة».
ودعا حميد إلى منع التاريخ من تكرار نفسه بـ «ظهور النسخة الثانية من داعش»، فليس لدى الولايات المتحدة خيار سوى معالجة قضايا الحوكمة في الشرق الأوسط، مهما تكن هذه السياسة غير شعبية في الداخل.