في منزل صغير سقفه من القش كبقية منازل أغلب الساكنين في سهل تهامة، كان يعيش شوقي علي جبلي محمد شمها (36 عاماً) مع زوجته وأولاده الثلاثة وبناته الأربع.
كان شوقي يعمل مع والده في رعي الأغنام وفي مزرعة صغيرة، في قريته الصغيرة، القطعة العليا، التابعة لمديرية الحجلية، شرقي محافظة الحديدة. هنالك كان يقضي كل أوقاته ولا يهتم كثيراً بما يحصل بعيداً عنّه، حتى أنه لم يعلم أن الحوثيين دخلوا صنعاء إلا بعد وصولهم إلى قريته وإقامتهم نقاطاً أمنية فيها.
في يوم من أيام العام 2015، وصله استدعاء من قسم الشرطة التابع للحوثيين في القرية للإجابة على أسئلة كما جاء في الاستدعاء. ذهب إلى القسم وكله أمل في أن يعود بعد ساعات ولكنه لم يعد إلا بعد 11 شهراً قضاها متنقلاً بين أربعة سجون تابعة للحوثيين.
في سجن القرية
بدأ رحلته في سجون الحوثيين من سجن قريته. 15 يوماً فقط هي المدة التي قضاها في هذا السجن. كان السجانون يخرجونه ويعصبون عينيه ويقيدون يديه وقدميه ويوجهون أسلحتهم نحوه بعد “تعميرها” ثم يفكون أسلحتهم على رأسه ويقولون إنهم سيقتلونه. طوال 15 يوماً، كان يسمع هذا الكلام بشكل مستمر.
في نفس السجن، تعرض شوقي للضرب بالأسلاك على أماكن مختلفة في جسده، وهذا كان أول أنواع التعذيب الذي يتعرض له. تعرف على مَن كان يقوم بضربه، وهو ليس رجل أمن أو مشرفا حوثي. مَن كان يضربه بالسلك هو مدرس في إحدى المدارس أصبح محققاً مع الحوثيين كغيره ممن جعلهم الحوثيون إما مشرفين أو أمنيين أو محققين.
في هذه الفترة، وُضع في سجن انفرادي وتعرض للكمات على وجهه، عدا الشتم واللعن والركل بالأقدام. كان هذا يحصل بشكل شبه يومي.
لأيام طويلة، بقيت عائلته تبحث عه دون أن تعرف شيئاً، وقدمت مذكرة اختفاء إلى المركز الأمه في القرية، ولكن العاملين فيه قالوا إنهم لا يعرفون عه شئياً ولم يصلهم أي تعميم بخصوص ما إذا كان معتقلاً أو حتى ميتاً. بعدها، اتجهوا إلى مدينة الحديدة ليبحثوا عنه هناك ولكنهم كانوا يرجعون دون الحصول على أية معلومات.
في سجن القلعة
بعد 15 يوماً، نُقل شوقي إلى سجن القلعة وهو قلعة أثرية حولها الحوثيون إلى سجن مركزي في وسط مدينة الحديدة. وعن هذه المرحلة يقول “كانت الأقسى ولا يمكن أن أنساها”.
تلقى أعنف أنواع التعذيب. كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة وفي كل لحظة كان ينتظر أن ينقطع نفسه ويموت بعد أن فقد الأمل في الخروج من السجن.
ويضيف شوقي: أُجبرت على التوقيع والبصم على 20 ورقة وأنا معصوب العينين، ولم أكن أعرف شيئاً عن محتواها. في البداية كانت تهمتي “تقديم إحداثيات إلى طيران العدوان”، وكنت أنفي هذه التهمة لأنها غير حقيقية، وكان دليلهم الوحيد على ذلك أني عملت في السعودية لفترة بسيطة في الماضي.
في سجن اللواء العاشر
بعد شهرين ونصف الشهر في سجن القلعة، نقلت مليشيات الحوثي شوقي إلى سجن اللواء العاشر الذي يخضع لمليشيات الحوثي في مدينة باجل، جنوب مدينة الحديدة. لم يقض فيه فترة طويلة، فقط أسبوعين، بقي خلالهما في زنزانة متوسطة الحجم مع حوالي خمسة سجناء.
يقول شوقي: كان يأتي إلي مسلحون ويخرجوني إلى خارج معسكر اللواء كل يوم في منتصف الليل للتحقيق معي وأنا معصوب العينيين لا أعرف مكاني، ومن ثم يعيدوني في صباح اليوم التالي.
وعن التعذيب الذي تعرض له في سجن اللواء العاشر بمدينة باجل يقول شوقي: في ليلة من الليالي، شاهدت الموت حين أتى مشرف السجن وكانوا ينادونه “أبو محمد”، وضربه بآلة حادة على عنقي وراح يضغط حتى سال دمي وهو يقول لي “اعترف بالتهمة”. لا زالت آثار الطعنة على عنقي حتى اليوم.
ويضيف: أثناء عملي في مزرعة والدي، أصبت في إحدى قدمي وأجريت عملية جراحية وبقيت الإصابة مؤثره فيّ، وأثناء التحقيق معي في سجن اللواء العاشر أخبرت الحوثيين بذلك، فاستغلوا الأمر وصاروا يضربوه على ساقي في مكان العملية، ما تسبب بإعاقته عن الحركة.
طوال كل الفترة السابقة، لم يسمح بزيارته وكان ممنوعاً من الحديث مع أهله، وهذا كان أشد أنواع التعذيب النفسي الذي تعرض له، خصوصاً أنه علم في ما بعد أن أقاربه كانوا يحاولون زيارته في السجن ولكن حراسه أنكروا وجوده فيه، وكانوا مرة يقولون لهم إنه قتل في غارة للطيران ومرة أخرى إنه نقل إلى سجن في صنعاء أو الحديدة أو ذمار.
وعندما كان يسأل “هل زاره أحد من أهله؟”، كان يجيبه السجان بأن أسرته وأطفالي قتلوا ودمرت منازلهم في غارات للطيران. هذه الأخبار جعلته يصاب بأزمة نفسية عميقة. كان يفكر في أسرته وكيف قتلوا ومتى؟
في سجن جزيرة حنيش
نقل شوقي مع مجموعة من السجناء عبر قارب صيد إلى جزيرة كبيرة في البحر اكتشف فيما بعد أنها جزيرة حنيش وهي إحدى الجزر اليمنية المنتشرة في البحر الأحمر والقريبة من إريتريا، لا توجد إلا مجموعة قليلة من السكان يعملون في الصيد، ولا توجد رحلات إلى هذه الجزيرة إلا عبر قوارب الصيد البدائية.
في سجن حنيش، وعد الحوثيون المختطفين بالإفراج عنهم قريباً ووزعوا عليهم ملابس وأحذية وطعاماً جيداً، لكن هذا كله كان الهدف منه أن يصرحوا لقناة المسيرة التابعة للحوثيين بأن التعامل معهم جيّد.
يقول شوقي “لم أدل بأي تصريح. أخبرتهم أني متعب من آثار الضرب على رقبتي ولا أستطيع الكلام. بعض السجناء تحدثوا للقناة وقالوا لمراسلها إنهم يعاملون بشكل جيد ولم يتعرضوا لأي تعذيب. صدقوا وعود الحوثيين بالإفراج عنهم ولكن هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح”.
ويوضح: كنت أقف عشر ساعات، أنا ومَن معي، بدون حركة. وكان لدينا جدول يومي: في منتصف كل ليلة يأتي إلينا سجان ويسكب علينا ماء بارداً حتى نستيقظ من النوم. وكانوا يأتون إلينا أحياناً بماء من ماء البحر لنشربه. حتى الأكل الذي كان نظيفاً وجيداً عند وصولنا إلى سجن حنيش تحول لاحقاً إلى طعام رائحته قذرة. ولكن لم يكن لدينا خيار سوى تناوله أو الموت جوعاً.
وأضاف: أخبرت المسؤول عن السجن في حنيش بأني مصاب بتشمع في الكبد وأني ممنوع من أكل الطعام المالح والمطهو بالزيت ولكن دون فائدة. كانوا يرغموني على تناول أكل يزيد حالتي سوءاً، ولم يكن هناك أي طبيب في هذا السجن البعيد.
الحرية مقابل شكر الحوثي
بعد أكثر من ثمانية أشهر قضاها في سجن حنيش، زادت حالت شوقي الصحية سوءاً، ولم يقبل مدير السجن بإسعافه حتى أصبحت حالته ميؤوساً منها وصار يبول دماً ويبصق دماً. حينها قرر مشرف السجن إطلاق سراحه.
لكن مدير السجن اشترط عليه قبل إطلاق سراحه أن يحضر ضمانه تجارية من ضمين تجاري يحضر إلى أمن الحوثيين عند الحاجة، إلا أنه لبعده عن القرية، وأنه أساساً مزارع بسيط ليست لي علاقات كبيرة مع تجار يقبلون بضمانته.
ازدادت حالتي سوءاً، وكان يغمى علي في اليوم من مرتين إلى ثلاث مرات، ما اضطر مشرف السجن إلى أن يكتفي بتعهد كتابي مني بعدم تكرار التخريب في البلاد والعمالة للسعودية. بصمت على الورقة المطلوبة بإصبعي النصف مشلولة نتيجة التعذيب.
كذلك، اشترط مشرف السجن أن أسجل كلمة شكر لعبد الملك الحوثي لتعرض على قناة المسيرة، وهو ما فعلته.
ويروي شوقي رحلة العودة إلى منزله بالقول: انتظرت عدة أيام بعد الإفراج عني حتى انطلاق الصيادين إلى أقرب نقطة برية من الجزيرة لأذهب معهم. وصلت إلى البر الرئيسي إلى ميناء الصيد في الحديدة، واستقليت بعدها سيارة أجرة بسيطة قبل صاحبها بنقلي مجاناً بعد أن حكيت له قصتي، ووصلت إلى منزلي، ولكن لم يكن فيه أحد سوى زوجتي وأولادي، فجميع أشقائي هربوا إلى مأرب.
ويضيف: لم أكن أتوقع أني سأرى أسرتي من جديد بعد أن أخبروني بأنهم قتلوا في الغارات. لم أشعر بالراحة مطلقاً في قريتي. كنت طوال الوقت أشعر بأني مراقب حتى أني لم أستطع الذهاب إلى المستشفى إلا في حالات محدودة. وبعد تفكير طويل، اتخذت قرار الخروج من القرية واللحاق بإخوتي الثلاثة في مأرب.
غادر شوقي قريته مكرها “لم يكن لدي أي خيار سوى الهروب لأني مراقَب. تواصلت مع مهرب. كان قرار الخروج من القرية ضرورياً حتى أجتمع مجدداً بعائلتي في مكان آمن وأتلقى العلاج”.