“إسبرطة الصغيرة”.. عدن وأبوظبي والسيطرة على باب المندب بهذا العنوان نشر موقع قناة الجزيرة القطرية تحقيق استقصائي” حول الطموح الإماراتي في الهيمنة الاقتصادية في القرن الأفريقي واليمن وأجندتها للنفوذ العسكري بشكل مباشر في المنطقة عبر السيطرة على ممرات الملاحة الدولية وباب المندب
ونظرا للمعلومات الخطيرة التي وردت في هذا التحقيق نعيد نشره كما جاء على موقع القناة الخليجية
يعزو كثير من المؤرخين السبب المباشر لقيام الحرب العالمية الأولى، التي أودت بحياة عشرات الملايين من البشر، إلى عملية اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فيردناند على يد الصرب. لوقت طويل ظلت مثل هذه الأحاجي مثار استغراب كبير: كيف يمكن لحدث صغير نسبيًا أن يؤدي إلى ردة فعل كبيرة ومبالغ فيها؟ ولكن عالم اليوم، الذي يؤمن فيه الجميع تقريبًا بما يعرف بـ “أثر الفراشة”(1)، صار أكثر تفهمًا لمثل هذه الأمور. لذا لم يعد من غير المألوف أن يعيد حدث عابر تشكيل الحقائق التي نعرفها عن منطقة ما من العالم، وعلى الأخص في تلك البلاد التي ترتبط سياساتها بطموحات وشخوص حكامها بشكل وثيق. ونحن ندعي أن هذا الوصف ينطبق تمامًا على اللكمة التي تلقاها “علي الشحي”، نائب القنصل الإماراتي في جيبوتي، من قبل “وهيب موسى كالينله”، قائد القوات الجوية الجيبوتية، في مشادة نشبت بينهما بشكل مفاجئ قبل عامين تقريبًا.
في ذلك التوقيت، 27 (أبريل/نيسان) عام 2015، وبشكل معتاد تمامًا في بلد ترتع فيه القواعد العسكرية للدولة الأجنبية، من الولايات المتحدة في أقصى الغرب إلى اليابان في أقصى الشرق، هبطت طائرة إماراتية كانت تشارك في الضربات الجوية الموجهة إلى اليمن، ضمن إطار عملية عاصفة الحزم، في مطار جيبوتي الدولي دون ترخيص مسبق لهبوطها. أثارت الواقعة، بشكل غير مستغرب أيضًا، مشادة كلامية بين قائد القوات الجوية الجيبوتي وهيب موسى، ودبلوماسيين إماراتيين. مشادة أمكن لها أن تنتهي سريعًا، إلا أنها تحولت لاشتباك بالأيدي عكس حدّة الخلاف بين البلدين، على خلفية نزاعٍ قانوني طويل الأمد حول عقدٍ لمحطة حاويات “دوراليه”، أكبر ميناء للحاويات في أفريقيا كانت تديره شركة “موانئ دبي العالمية”، إثر اتهامات وجهها الرئيس الجيبوتي الحالي “إسماعيل عمر غيله” للشركة الإماراتية بتسهيل الصفقة عن طريق الرشاوى المالية، ما دفعه للإقدام على إلغاء العقد من جانب واحد في شهر (يوليو/تموز) عام 2014.
جاءت تداعيات المشاجرة متتابعة وسريعة، فأقدمت جيبوتي على طرد القوات السعودية والإماراتية من منشأة عسكرية في منطقة “هراموس” المجاورة لـ “معسكر ليمونييه”(2)، مقر القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا، وهي منشأة شيدها في وقت سابق الفيلق الأجنبي الفرنسي، واستأجرها تحالف الخليج قبل شهر واحد لدعم عملياته في اليمن. وفي 4 (مايو/أيار) التالي مباشرة تم قطع العلاقات رسميًا بين الإمارات وجيبوتي، ورغم طلب جيبوتي من وزير الخارجية الأميركي جون كيري التوسط لحل الأزمة، إلا أن كيري تجاهل هذه المطالبات مع تمسك أبوظبي بالاعتذار الرسمي، ما أدى إلى بلوغ الأمور حد النهاية. وفي غضون أيام كانت جيبوتي تتفاوض مع الصين على تشييد قائدة عسكرية جديدة نكاية في الأميركيين والخليجيين.
على الجانب الخليجي سارعت الرياض لمد البساط الأحمر أمام الرئيس الإريتري “أسياس أفورقي”، خصم جيبوتي الأكبر، من أجل البحث عن موضع انطلاق جديد لعملياتها في اليمن. لكن بالنسبة لولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد”، كان رد الفعل يتجاوز النكاية السياسية المثارة عقب الخلاف الدبلوماسي، أو حتى مجرد البحث عن بديل تكتيكي لتشغيل المهام العسكرية في اليمن، ويكأن اللكمة التي تلقاها الدبلوماسي الإماراتي كانت أثر فراشة في جيبوتي أثار عاصفة على بعد مئات الأميال في “عدن”.
“العودة إلى عدن”
حتى ذلك التوقيت، لم تكن الإمارات أكثر من حليف بروتوكولي في تحالف تقوده السعودية لمواجهة الحوثيين المسيطرين على صنعاء، العاصمة اليمنية، في (سبتمبر/أيلول) عام 2014. في الحقيقة، وقبل أشهر فقط من بدء عمليات التحالف، كانت أبوظبي نفسها واقعة في دائرة الاتهام بتسهيل استيلاء الحوثيين على صنعاء(3)، عبر تقديم الدعم المالي والعيني للحوثيين، الجماعة المسلحة المتحالفة مع الرئيس اليمني المخلوع “علي عبد الله صالح” المقرب من أبوظبي، دعم جاء نكاية في التجمع اليمني للإصلاح، الفرع اليمني لجماعة “الإخوان المسلمين”، من كان مشاركًا في الحكومة اليمنية حينها.
بلغ الخلاف السعودي الإماراتي آنذاك درجة أن “محمد بن زايد” كان مضطرًا للانتظار عشرة أيام كاملة قبل أن يسمح له بزيارة الرياض للوقوف على التفاصيل النهائية للعملية(4). ومع هذه الاختلافات، كان من الطبيعي أن تكون مشاركة الإمارات الأولية في التحالف السعودي محدودة، واقتصرت على تسيير الطلعات الجوية بصحبة الطيران السعودي، قبل أن تأتي واقعة جيبوتي لتدق ناقوس الخطر لدى حكام أبوظبي، بعد أن فقدوا حينذاك موطأ قدمهم الرئيس في القرن الأفريقي، في الوقت الذي كانت فيه الرياض تتعثر في جهودها لاستعادة “عدن”، أولى المدن الكبرى الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.
تصنف اليمن على أنها دولة بحرية بالأساس، فرغم أن مساحتها لا تتجاوز 600 ألف كم، إلا أن لديها شريطًا ساحليًا بطول 2200 كم يحيط بها من الغرب والجنوب، منشئًا عشرات المدن الساحلية على امتداده. ورغم ذلك، تظل “عدن” المطلة على بحر العرب، المتصل بالمحيط الهندي جنوبًا، أهم موانئ اليمن وأكثرها شهرة. وللمفارقة، فقد كان لدى الإمارات تاريخ قريب لا يمكنها نسيانه مع المدينة.
قبل قرابة ثلاث سنوات، تلقت الإمارات صفعة كبيرة في عدن، حين أقدمت الحكومة اليمنية، تحت ضغوط شعبية في بلد لا يزال حينها يعيش أجواء الثورة التي أطاحت بعلي عبد الله صالح، على إلغاء عقد منحت بموجبه شركة “موانئ” دبي العالمية، التي تدير اليوم أكثر من 70 ميناء حول العالم والمملوكة لإمارة دبي، حق إدارة ميناء عدن، بما يشمل ميناء “المعلا” ومحطة “كالتكس” للحاويات، لمائة عام قادمة، وهو اتفاق تم توقيعه بواسطة الرئيس اليمني المخلوع في عام 2008.
كانت الصفقة فضيحة بكل المقاييس(5)، ليس بسبب مدتها فحسب، وليس حتى بفعل العمولات والرشاوى التي تلقاها صالح ونظامه لتمريرها، ولكن الأهم أن الصفقة كانت تمثل موافقة ضمنية على تخلي اليمن عن حق إدارة أهم موانئها لصالح بلد منافس. فمع موقعه الإستراتيجي، وعمق مياهه التي تسمح باستقبال سفن حاويات أكبر حجمًا، وطقسه المستقر الذي جعله موقعًا مثاليًا للتزود بالوقود، كان ميناء عدن هو المنافس الأول لميناءي “جبل علي” و”راشد”، وهما الميناءان الأكثر أهمية وإستراتيجية في دولة الإمارات العربية المتحدة.
مع حلول عام 2011 كانت نوايا “موانئ دبي” في عدن صارت واضحة تمامًا. فرغم أن الاتفاق الأساسي نص على استثمار مبلغ 220 مليون دولار لتطوير البنية التحتية للميناء(6)، وزيادة سعته من الحاويات من 500 ألف حاوية، وهو الرقم الذي حققه الميناء في عام 2007 قبل تسليمه للشركة الإماراتية، إلى 900 ألف حاوية، إلا أن ما حدث في عام 2011 كان العكس كليًا. ففي هذا العام انخفضت السعة الاستيعابية للميناء إلى 130 ألف حاوية فقط، تبعتها زيادة طفيفة إلى 212 ألف حاوية عام 2012، وهو رقم ينقص كثيرًا عن سعة الميناء وقت استلام دبي إداراته، فضلًا عن رقم الأحلام الاستثماري المتفق عليه. فضلًا عن التدهور السريع في حالة البنية التحتية للميناء، والإهمال الشديد في صيانة معداته.
لم تقتصر الأمور على ذلك فحسب، بل إن ما أقدمت عليه “موانئ دبي”، منذ الوهلة الأولى لتسلمها زمام الأمور في الميناء، من رفع للتعريفة بنسبة 80% بدلًا من تقديم التسهيلات كباقي الموانئ لكسب رضاء الخطوط الملاحية العالمية، تسبب في نفور تلك الخطوط الملاحية من الميناء وعدم المرور عليه تفاديًا لرفع التعريفة، وأيضًا لرداءة الخدمة المقدمة التي بلغت حد تعطل نظام الميناء الحاسوبي المنظم للعمل. خطوط ملاحية كخط “بيه آي إل” (PIL) الذي كان يعد الخط الملاحي الأساسي المشغل للميناء، في حين أقدم الخط الملاحي الأخر “أي بيه إل” (APL)، الذي يعتبر الخط الأساسي الثاني في ميناء “عدن”، على تحويل مسار حاويات الترانزيت التابعة له إلى الموانئ المجاورة. وبينما نص الاتفاق الأصلي على أن تقوم “موانئ دبي” بتطوير المرحلة الثانية من محطة “كالتكس” للحاويات بطول 400 متر لاستقبال البواخر العملاقة، إلا أنه لم يتم استكمال هذه المرحلة أبدًا في خرق جديد للاتفاقية.
جاء اقتراب معارك عدن متزامنًا مع هواجس أبوظبي حول المخاطر التي تهدد طموحاتها الاقتصادية في القرن الأفريقي، فضلًا عن أجندتها الناشئة لإبراز قوتها العسكرية بشكل مباشر في المنطقة ذاتها، وهو ما دفع الإمارة إلى تغيير نظرتها إلى التحالف السعودي. تحول جاء متزامنًا بدوره مع حاجة سعودية ماسة لمشاركة عسكرية أكثر فاعلية، بعد فشلها في إقناع أي من باكستان أو مصر بإرسال قوات برية.
ومع دخول شهر (يوليو/تموز) من العام 2015(7)، وحتى بعد أن رفضت القوات الخاصة الأميركية طلبًا إماراتيًا للمشاركة في العملية(8)، كانت مقاطع الفيديو تبث عبر الإنترنت لتظهر الألوية الإماراتية لدى وصولها لليمن، مجهزة بمركبات “أشكوش” المضادة للألغام، والسيارات القتالية من طراز “بي إم بي 3” التي تم إنزالها من خلال طائرات “سي-17” الناقلة ، إضافة إلى أسراب دبابات “ليكرليس” المخصصة لحروب المدن، جنبًا إلى جنب مع سفينتين حربيتين برمائيتين، إحداهما سفينة سويفت التي حصلت عليها الإمارات من البحرية الأميركية. إنزال صنف أنه أكبر عملية إنزال برمائي لقوات عسكرية من بلدان الشرق الأوسط منذ حرب الكويت عام 1991.
ومع حلول الثالث من (أغسطس/آب) لنفس العام كانت القوات التي تقودها الإمارات العربية المتحدة تتوغل في عدن محققة السيطرة على قاعدة العند الجوية شمال غربي المدينة، والتي تحولت بحكم الواقع إلى مقر قيادة قوات الإمارات، والمليشيات المحلية المتحالفة معها، بما يعني أن عدن قد عادت من جديد إلى القبضة الإماراتية، ولكن هذه المرة ليس عبر اتفاق لإدارة الميناء، ولكن عبر تواجد عسكري فعلي يبدو أن أقل أهدافه اليوم هو مجرد استعادة السيطرة الاقتصادية من جديد على ميناء عدن، بينما تتعاظم ورائه الأهداف الأخرى.
“سدنة البحر”
لم تكن “عدن” أكثر من مجرد بداية استكشفت خلالها أبوظبي، عاصمة النفط والمال، الرائحة النفاذة للقوة. وبقدر ما أعاد غزو اليمن تعريف عقيدة الإمارات، ونقلها من عالم مسالم للأعمال التجارية، أو حتى محطة مركزية لممارسة نفوذ القوة الناعمة، لدولة تمارس النفوذ العسكري خارج حدودها، أو “إسبرطة/سبارتا صغيرة” بتعبير وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، فإن الغزو أعاد أيضًا تعريف دور أسهم القوة الإماراتية، وفي مقدمتها ذراعها الأهم: “موانئ دبي العالمية”.
تعيد الشركة الإماراتية الأبرز اليوم اكتشاف نفسها كأداة من أدوات النفوذ الإماراتي. فبالنسبة لإمارات “ابن زايد” لا يمكن الفصل بين الاقتصاد والعسكرية، وكلاهما يدور بشكل واضح حول السيطرة البحرية. رؤية أدت بشكل كبير لتحويل “موانئ دبي” لقاعدة ارتكاز لسهم عسكري إماراتي يناسب طموحات أمير أبوظبي. فلم يعد النشاط التجاري البحري للدولة الخليجية مرتهنًا لقوتها المالية الناعمة كما كانت الأمور قبل، فاليوم، وفي منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر على وجه الخصوص، أينما ظهرت “موانئ دبي” فإن علينا أن ننتظر ظهور القوة العسكرية لـ “إسبرطة الصغيرة”، وهو ما تشهده المنطقة كلها اليوم بداية من اليمن، وليس انتهاء بإريتريا أو الصومال.
في الوقت الذي كانت فيه الإمارات تؤسس نفوذها في عدن، كانت تستثمر في نفس الوقت في أصولها في إريتريا على الضفة الأخرى لمضيق باب المندب. بدأ الأمر بشكل معتاد في النصف الثاني من عام 2015، بعقد إيجار أبرمته “موانئ دبي العالمية” لتطوير ميناء “عصب” البدائي على البحر الأحمر، وعلى مدار الأشهر التالية، وبهدوء تام ودون صخب يذكر، كانت الإمارات تعزز بنيتها التحتية العسكرية في “عصب” مؤسسة أول قاعدة عسكرية فعلية لها خارج حدودها حول الميناء(9)، تشمل أصولًا جوية مجهزة لنشر سرب كامل من طائرات “ميراج 2000” الفرنسية الصنع، أو طائرات “سي-17″ و”سي-130” التابعة لسلاح الجو الإماراتي، إضافة إلى وحدة أرضية كبيرة بحجم كتيبة مدرعة مجهزة بدبابات “ليكريك” الفرنسية، فضلًا عن منشآت تدريب للمليشيات اليمنية المحلية أو حتى القوات الأجنبية قبل نقلها إلى اليمن(10).
بحلول أوائل العام الماضي 2016، كان مطار “أسمرة” في إريتريا، الذي تولت الإمارات مهمة تطويره أيضًا، يستقبل مروحياتٍ هجومية من طراز “أباتشي” تابعة لـ “قيادة الطيران المشتركة الإماراتية”، بالإضافة لمروحيات “تشينوك” و”بلاك هوك” تابعة للحرس الرئاسي الإماراتي للقيام بعمليات غير معلومة في اليمن، وبالفعل قامت هذه الطائرات لأول مرة بتنفيذ طلعاتٍ هجومية فوق “مضيق باب المندب” انطلاقًا من “عصب”. وجرى تدريب الطيارين الجدد في سلاح الجو اليمني على مروحياتٍ أعطتها الإمارات له، وتم التدريب في “عصب” أيضًا، قبل نقلهم إلى قاعدة “العند” الجوية في عدن، والخاضعة بدورها للسيطرة الإماراتية كما سبق أن أسلفنا، كما جرت عمليات نقل للآلاف من اليمنيين الذين دربتهم أبوظبي إلى عدن، مع كتائب كاملة من المقاتلين الإريتريين والصوماليين والسودانيين، الذين يعملون جميعًا اليوم تحت القيادة الإماراتية في المدينة اليمنية الساحلية.
من إريتريا إلى الصومال. وفي ذات الوقت الذي كانت الإمارات تكثف فيه نشاطها في “عدن” و”عصب”، قامت أبوظبي أيضًا بتوسعة شراكتها مع أجهزة الأمن والمخابرات الوطنية في الصومال(11)، عبر افتتاح مركز تدريب جديد لقوات المغاوير الصومالية بإشراف القوات الخاصة الإماراتية. وبالإضافة لتزويدها لقوات الأمن الصومالية بناقلات جند مدرعة وشاحنات مياه ودراجات نارية لصالح وزارة الأمن الداخلي، فإنها تعهدت بدفع رواتب قوات الأمن الحكومية لمدة أربع سنوات. إلا أن الخطوة الأكبر، والمتوقعة بحكم الإستراتيجية الإماراتية، كان عليها أن تنتظر قليلًا حتى دخول العام الحالي 2017.
في (أبريل/نيسان) من عامنا الحالي، وقعت منطقة “بونت لاند” أو “أرض النبط”(12)، شبه المستقلة في شمال شرقي الصومال، اتفاقية امتياز مدتها 30 عامًا مع شركة “موانئ دبي” لتطوير وإدارة ميناء متعدد الأغراض في مدينة “بوصاصو” على مرحلتين، بتكلفة تقديرية بلغت حوالي 336 مليون دولار. جاء التوقيع على الصفقة بعد مرور أسابيع فقط من التوقيع على صفقة مع منطقة جمهورية “صوماليلاند”، أو “أرض الصومال”، تسمح للإمارات أيضًا بإنشاء قاعدةٍ عسكرية في ميناء “بربرة”. وفي العام الماضي، كانت “صوماليلاند” أعلنت بدورها عن صفقة بقيمة 442 مليون دولار مع شركة “موانئ دبي العالمية” لرفع مستوى الميناء في “بربرة”، وإنشاء مركز تجاري إقليمي على ساحل البحر الأحمر.
ميناءان إستراتيجيات جديدان إذن يدخلان إلى حوزة الإمارات مع قاعدة عسكرية جديدة على الأقل في بربرة، وطبقا للمتوالية المعتادة فإن علينا أن ننتظر الإعلان عن خطط عسكرية في “بوصاصو” في وقت قريب، وهي حملة توسعات جديدة تأتي متزامنة مع إرهاصات عودة الإمارات إلى جيبوتي من جديد، بعدما ربحت مواني دبي مؤخرًا نزاعها القانوني مع الحكومة الجيبوتية(13)، وبعد أشهر من عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بوساطة سعودية.
بيد أن النشاط الإماراتي في الصومال لم يخل من الجدل ذاته، حيث جرى اتهام مسؤولين صوماليين بتلقي رشاوي لتمكين هذه الصفقات، وهي اتهامات تلاحق السيطرة البحرية الإماراتية في كل الأحوال، إلا أنها ظهرت بوضوح أكبر في الصومال، بسبب تجاوز أبوظبي للحكومة الاتحادية الصومالية بقيادة الرئيس “محمد عبد الله فارماجو” نحو إبرام صفقات مع الحكومات الإقليمية. غير أن هذه التعقيدات نادرًا ما تلقي لها أبوظبي بالًا، حتى إنها لا تمانع في تجاهل الاعتراضات الحكومية حال اكتشفت أن ذلك يمكن أن يعوق طموحاتها التوسعية، وهو تقريبًا هو ما حدث بالضبط في “سقطرى” اليمنية، المحطة التالية في خطة التوسع البحري الإماراتي.
“على خطى باتريوس”
في ظاهر الأمر، لم يكن الاجتماع الذي ضم الرئيس اليمني المخلوع “علي عبد الله صالح”، مع “ديفيد باتريوس” قائد القيادة المركزية الأميركية(14)، في النصف الأول من عام 2010، أكثر من اجتماع روتيني استدعته الظروف. كان الاجتماع مخصصًا لمناقشة التدابير اللازمة لمنع تكرار محاولة التفجير الفاشلة التي استهدفت طائرة الرحلة 253، التابعة لخطوط “نورثويست إير لاينز” فوق الأجواء اليمنية، مطلع العام المذكور، ومناقشة سبل مواجهة موجة النشاط الجديدة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. إلا أن التقارير الصادرة فيما بعد أكدت أن اجتماع “صالح” و”باتريوس” كان يستهدف ما هو أكثر من ذلك بكثير(15)، وصولًا إلى إعادة تعريف الوجود الأميركي في اليمن بشكل كلي.
كانت خطة “باتريوس” الجديدة واضحة ومحددة: قاعدة عسكرية أميركية في جزيرة “سقطرى”، الواقعة على بعد 380 كم جنوب سواحل اليمن، وهي أرخبيل من الجزر مصنف من قبل اليونسكو كموقع للتراث النباتي العالمي، إلا أن أهميته الحقيقية تنبع من كونه مفتاحًا إستراتيجيًا للسيطرة على المحيط الهندي، ما جعله موضع نزاع إستراتيجي على المستوى النظري بين الأميركيين والسوفييت إبان الحرب الباردة. ووفق عقيدة البحرية الأميركية، التي وضع أسسها المنظر الحربي الأميركي “ألفريد ثاير ماهان”، الذي يعرفه الأميركيون باسم كلاوسفيتز البحر، يعد المحيط الهندي هو مفتاح السيطرة على البحار السبعة الكبرى في العالم.
قبل يوم واحد من اجتماعه مع “صالح”، أعلن باتريوس أن المساعدة الأمنية إلى اليمن سوف تتضاعف من 70 مليون إلى أكثر من 150 مليون دولار، وهو ما يمثل زيادة قدرها 14 ضعفًا منذ عام 2006، ولكن اندلاع ثورات الربيع العربي بعد عدة أشهر أسهمت في تعطيل المشروع العسكري الأميركي الجديد في اليمن بشكل كامل، قبل أن تعود الإمارات، بعد أقل من ثلاثة أشهر من سيطرتها على عدن، لتلفت الانتباه من جديد إلى الجزيرة النائية عبر عدد من المشروعات التنمية والخدمية المثيرة للريبة على أقل تقدير..
مشروعاتٌ تضمنت إنشاء مستشفى “خليفة” الذي يعتبر المستشفى الوحيد في الجزيرة، إضافة إلى تجديد مدارس الجزيرة البالغ عددها تسع مدارس، قبل أن تعلن عن خططها للتنمية السياحية للجزيرة الواقعة في بحر العرب، التي تبلغ مساحتها 1400 كم، ويقطنها 45 ألف يمني، وهي الخطط التي حرصت الإمارات على وضعها في إطار رسمي(16)، بتوقيع اتفاق لتنمية الجزيرة مع رئيس الوزراء اليمني السابق الموالي لها “خالد بحاح” في (مارس/آذار) 2016، اتفاق سرعان ما قامت حكومة الرئيس “عبد ربه منصور هادي” بإلغائه بعد الإطاحة بـ “بحاح” العام الماضي، بمباركة سعودية، بعد أن لاحظت تدفق رجال الأعمال الإماراتيين إلى حجز مساحات كبيرة من شواطئ الجزيرة غير المأهولة.
يثير الاهتمام الإماراتي المبالغ فيه بـ “سقطرى” الكثير من التكهنات، خاصة بعد تسريب معلومات حول تحضيرات تجري لربط الجزيرة بشركة اتصالات إماراتية، وإعلان طيران “الاتحاد” المملوك لإمارة أبوظبي تسيير ثلاث رحلات أسبوعيًا بين العاصمة الإماراتية و”سقطرى” اليمنية، وهو ما يعد اهتمامًا مبالغًا فيه نسبة إلى حجم النشاط في الجزيرة، وبالنظر إلى أن أبوظبي لا تسير رحلات منتظمة مع “عدن” نفسها، وهي تحركات دفعت مكتب الرئيس هادي، المقيم بالرياض، للتحذير من “الأطماع الإماراتية في الجزيرة”.
مع كل ذلك، فإن هناك مشروعين أعلنت عنهما الإمارات في الجزيرة يثيران القدر الأكبر من الريبة: الأول هو بناء مطار “سقطرى” ومنشآت البنية التحتية السياحية المرافقة له والتي ستتطلب تشريد جزء كبير من السكان المحليين، وربما طرد الناس من أكثر الأماكن المرغوبة من أجل إفساح المجال للسياح الغربيين. أما المشروع الثاني والمتوقع بالتبعية، فهو مشروع إنشاء قاعدة عسكرية خاصة في اليمن لإيواء 2300 جندي يمني(17)، من سكان الأرخبيل الذين سيتم نقلهم إلى الإمارات للتدريب، قبل شحنهم إلى الجزر من جديد ليرأسوا قوة عمل عسكرية محلية.
تسير الإمارات في “سقطرى” على خطى أحلام الماضي القريب للأميركيين، وهي تبدو راغبة في الذهاب إلى أبعد مدى، بعد تقارير تشير إلى أن ولي عهد أبوظبي يخطط أيضًا لنشر قوة عسكرية ساحلية في جزيرة “ميون” قرب شواطئ “عدن”(18). وتنسجم هذه التحركات الإقليمية مع الترتيب الإقليمي الجديد الذي تنتهجه البحرية الأميركية بشأن السيطرة على “باب المندب”، والذي يمنح بموجبه أدوارًا أكثر فاعلية للقوات البحرية الإماراتية والمصرية في مكافحة القرصنة ومواجهة احتمالات “التمدد الإيراني” وهو السبب الأهم، ما يفسر استثمار الإمارات خلال العامين الماضيين في تعزيز قواتها البحرية بشكل ملحوظ، بما يشمل إدراج أسلحة جديدة تشمل غواصات وسفن تدخل سريع وأنظمة ملاحة مائية، وصولًا إلى خطط لتمويل شراء حاملات مروحيات(19)، كما يفسر أيضًا الدعم المادي الذي قدمته الإمارات لخطط تسليح البحرية المصرية، وعلى رأسها حصولها على سفن ميسترال الفرنسية، وإنشاء الأسطول المصري الجنوبي على البحر الأحمر.
على كل حال، رغم أن السعودية وحليفها الرئيس هادي لا تبدو راضية بشكل تام عن خطط الإمارات في الجنوب اليمني أو مطمئنة لها، إلا أن هذه الخطط تسير بانتظام حتى الآن على قدم وساق، بما في ذلك اقتراح الوحدة العسكرية “السوقطرية”، التي تبدو منسجمة مع الوحدات العسكرية الخاصة التي أنشأتها الإمارة في أجزاء أخرى من جنوب اليمن، حيث أنشأت أبوظبي في كل “حضرموت” و”عدن” وحدات عسكرية خاصة مستقلة عن بعضها البعض وعن أي نظير يمني، يتم تمويلها وإدارتها بالكامل من قبل الإماراتيين. وتمثل هذه الوحدات الفصل التالي في خطة “بن زايد” التوسعية اليمنية، وهو استثمار إماراتي يهدف بالأساس إلى حماية النفوذ البحري لها، حتى لو كان ثمن ذلك هو تقسيم اليمن بأكملها.
“كشافة سواحل عدن”
في قصر البحر في أبوظبي، وعلى بعد ثلاثة آلاف ميل عن “عدن”، جرى اجتماع في 27 (فبراير/شباط) الماضي جمع بين “محمد بن زايد” و “عبد ربه منصور هادي”(20). خلال الاجتماع، الذي تم عقده بوساطة سعودية، أعرب “ابن زايد” لهادي عن قلقه حول نفوذ التجمع اليمني للإصلاح في إدارته، متهمًا 14 شخصًا من قادة الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين أنهم على علاقة مع تنظيم القاعدة. وخرج “هادي” من الاجتماع مع وعد بالتحدث إلى “محمد اليدومي”، زعيم الحزب، بشأن هؤلاء القادة الذين ذكرهم “ابن زايد”.
في حقيقة الأمر، كان الاجتماع محاولة سعودية للتوفيق بين “هادي” والإمارات، على خلفية أزمة مطار عدن الشهيرة التي اندلعت في (فبراير/شباط) الماضي، حين حاول هادي استعادة السيطرة العسكرية على المطار من “قوات الحزام الأمني”، المليشيا التي تديرها الإمارات في عدن، لصالح “قوات الحماية الرئاسية” التي يديرها “ناصر عبد ربه”، نجل هادي نفسه، ما تسبب في نشوب معارك واسعة بين الطرفين، اتهم خلالها “هادي” الإمارات صراحة بمحاولة احتلال اليمن. ولكن يبدو أن اجتماع (فبراير/شباط) البروتوكولي لم يسفر عن كثير من التقدم، وفق ما أظهرته قرارات أواخر (أبريل/ نيسان)، التي تضمنت قيام هادي بإقالة المسؤولين المقربين من دولة الإمارات العربية في “عدن”، وعلى رأسهم محافظ عدن “عيدروس الزبيدي”، ووزير الدولة “هادي بن بريك”، وهو ما ردت عليه الإمارات سريعًا برعاية تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة “الزبيدي” و”ابن بريك”(21)، في تلويح من الإمارات بإلقاء ثقلها خلف ملف انفصال الجنوب كاملًا.
كانت قرارات هادي تعبيرًا واضحًا عن شعوره بفقدان السيطرة على عدن لصالح رجال أبوظبي من السياسيين، والأهم لصالح رجالها العسكريين، وهم الآلاف من أعضاء مليشيات “الحزام الأمني” التي تديرها أبوظبي، والتي أصبحت بحكم الواقع القوة الأكثر نفوذًا في عدن ومحافظات الجنوب، لدرجة أنها تدير اليوم بالمشاركة مع أبوظبي ثمانية سجون سرية لتعذيب معارضيها(22). ورغم احتجاج “هادي” على سلوك أبوظبي لدى رعاته السعوديين، فقد فشل “محمد بن سلمان” وزير الدفاع السعودي، خلال اجتماع عقد في العاصمة السعودية الرياض في (مايو/أيار) الماضي(23)، في إثناء “ابن زايد” عن دعم المجلس الانتقالي الجنوبي، فضلًا عن خوض نقاش حول إخضاع “قوات الحزام الأمني” لسلطة هادي، فيما بدا أنه بمثابة إعلان واضح من قبل أبوظبي أنها لم تعد تعمل تحت قيادة السعودية في اليمن، وأنها تستقل بأطماعها وقيادتها الخاصة.
كانت هذه هي الرسالة ذاتها التي وجهتها الإمارات في (يناير/كانون الثاني) عام 2016، حين أعلنت انتهاء عملية “عاصفة الحزم” بالنسبة لها(24)، إثر خلاف بينها وبين الرياض حول مشاركة “تجمع الإصلاح” في معارك تحرير “تعز”. لم تقم الإمارات بالانسحاب من اليمن في أعقاب الإعلان، ولم تقم بالمساس بأي من أصولها العسكرية، ولكنها على العكس واصلت عزفها المنفرد في البحر بالاستثمار في الموانئ والقواعد البحرية، وعلى البر في عدن وغيرها بالاستثمار في الشخصيات السياسية والتيارات الاجتماعية والدينية والتكتلات القبلية، وفي المليشيات التي قامت بتدريبها في منشآتها العسكرية العديدة في المنطقة، من أجل تأمين ما يكفي من النفوذ لحماية أهدافها في اليمن، والتي لا تشمل بكل تأكيد شرعية هادي أو حتى الحفاظ على وحدة البلاد.
لم يكن “محمد بن زايد” قد رأى الدنيا بعد حين قامت السلطات الاستعمارية البريطانية في شبه الجزيرة العربية بإنشاء وتمويل كشافة سواحل عمان مطلع الخمسينيات. شكلت بريطانيا وحدتها العسكرية الجديدة من أبناء الفقراء والمهمشين في الإمارات، الذين دربهم ضباط بريطانيون، وكانت مهمة الكشافة هي حماية فرق التنقيب عن النفط، والحفاظ على السلام بين القبائل، ومكافحة تهريب الأسلحة وتجارة الرقيق. وبعد عشرين عامًا، سيصبح هؤلاء العسكريين الذين دربتهم بريطانيا نواة القوات المسلحة لدولة الإمارات العربية المتحدة. بوعي أو بغير وعي، فإن ما يفعله “محمد بن زايد” اليوم في جنوب اليمن يشبه تمامًا ما فعلته بريطانيا في بلاده المحتلة قبل سبعة عقود، لأن كل الطموحات الاستعمارية تتشابه على ما يبدو.