لم يثنِ برد الصباح الأم الخمسينية من التردد مرارا على مدرسة حفصة للبنات في حي «عَصِر» غربي العاصمة صنعاء، للتسجيل لدى مخيم للنازحين الفارين من جحيم المعارك المندلعة في مدينة الحديدة (غربي اليمن).
تتكئ فاطمة موسى على ابنتها الصغرى فاتن، لتسجيل اسمها وأسرتها ضمن النازحين في المدينة الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حتى تحصل على نصيبها من المساعدات الغذائية والإيوائية المقدمة بسخاء من المنظمات الدولية.
حاولت الأرملة والأم لستة أبناء استفسار الموظف الذي يقيّد الأسماء في سجلات طويلة، قبل أن يصرخ في وجهها بلهجة حادة بأن تلتزم النظام، وبعد ساعات سُجل اسمها وقِيل لها أن تنتظر اتصالا. ظلت الأم تتفقد هاتفها مرارا، لكن لم يتصل أحد.
قبل أيام، اتفقت مع امرأة من الحوثيين على أن تذهب بها الأخيرة إلى إحدى المنظمات، وحين وصلتا إلى هناك كانت الاثنتان تقدمان اسميهما كونهما نازحتين، رغم أن الأخيرة تسكن في صنعاء وزوجها ضابط في الداخلية.
ولكون لقب الأخيرة ينتهي بـ«الأهدل»، أي من ينتهي نسبهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قُبلت على الفور. ولم يكد يمر أسبوع حتى استلمت أولى دفعات المساعدات شملت موادا غذائية وإيوائية شاملة، تلتها دفعة أخرى في ظرف أسبوعين فقط.
تقول فاطمة موسى للجزيرة نت «لأن لقبها الأهدل قدموا لها كل المساعدات ومبالغ مالية، بينما نحن النازحون الذي عانينا من الحرب لم يكترثوا لحالنا وقالوا إن اسمنا سقط من الكشوفات لأن بياناتنا ناقصة».
وبحسرة تضيف «كنت أعتقد أن هذه المرأة ستمنحنا المساعدات كونها لا تحتاج لها، لكنها باعتها».
بيع المساعدات
ليست فاطمة الحالة الوحيدة، ففي الوقت الذي يتضور فيه الآلاف من النازحين جوعا، تُبدد المساعدات التي تقدمها المنظمات الدولية على الحوثيين والموالين لهم، ويُباع الجزء الأكبر منها في الأسواق بأسعار بخسة، حسب ما عاينت الجزيرة نت.
ويعمد الحوثيون إلى بيع المساعدات الفائضة، ويصل سعر الوحدة من البطانيات المصنوعة في باكستان 2500 ريال (5 دولارات). ويُباع سعر كيس القمح المقدم من برنامج الغذاء العالمي بستة آلاف ريال (12 دولارا)، بينما تصل قنينة زيت الطعام عبوة 5 ليترات إلى 1500 ريال (3 دولارات).
ويباع «طرد» المساعدات المقدم من صندوق الأمم المتحدة للسكان بـ800 ريال (دولار ونصف الدولار)، وفق سامي العرسي الذي يشتري المساعدات الإنسانية ويبيعها لآخرين في جنوبي صنعاء.
وفي الوقت الذي كان فيه سامي ومساعده يجهزون مجموعة من المواقد الصغيرة -التي تقدمها اللجنة الدولية للصليب الأحمر-للنازحين في مخيمات الإيواء للبيع، كان أحد التجار يفاوضه في شراء كمية من الفاصوليا التي قدمها برنامج الغذاء العالمي.
يقول سامي للجزيرة نت إنه يشتري «بكميات كبيرة» المساعدات من نازحين إضافة إلى قياديين حوثيين.
وفي متجره، يعرض سامي بطانيات وملايات ومناشف وفرش أسنان وصحونا وخياما وبسكويتات وحفاظات للأطفال، وغير ذلك مما تقدمه المنظمات.
شركاء بالقوة
ويقول مصدر في إحدى المنظمات الدولية فضّل عدم الكشف عن هويته، إن سلطات الحوثيين تشترط على المنظمات الإغاثية العمل في مناطق سيطرتها عبر منظمات محلية شريكة، وهذه المنظمات الشريكة تنهب كل المساعدات.
وأوضح للجزيرة نت «يقيّد الحوثيون كل مسلحيهم وقاداتهم بأنهم نازحون، من بينهم المسلحون الذين قدموا من المحافظات الشمالية للسيطرة على صنعاء، كما أن مسلحيهم يُسجلون بأنهم متضررون من الحرب».
وأكد أن معظم المستفيدين من المساعدات الإغاثية هم من الحوثيين، لكنهم يبيعونها في الأسواق للتربح، مضيفا «هناك شحنات كاملة يتم نهبها وبيعها للتجار، الأمر الذي يعزز من انهيار الوضع الإنساني، ويوسّع دائرة الجوع، لكننا لا نملك القوة لمواجهة ذلك، ربما يتسبب ذلك بحرمان الآلاف من المتضررين الحقيقيين».
ووفق أحد الموالين للحوثيين، فإن المنظمات تقدم لهم كل المواد الغذائية، ويضيف ساخرا «كان باقي اللحم والقات».
نهب للمساعدات
ولكون المنظمات تعتمد على المسؤولين المحليين الموالين للحوثيين، فإن الأخيرين يدفعون بأسماء غير مستحقة كونهم متضررين من الحرب، مقابل أن تُقسّم المساعدات بالنصف بين المسؤولين والمستفيدين.
هذا الأمر يتكرر في كل القرى، وفي محافظة ذمار وسط البلاد سجّل مسؤول محلي كل سكان قريته وبينهم تجار، وبعد أن وُزعت المساعدات كان النصف منها في فناء منزله يحمّل على شاحنات في طريقها للبيع.
وكتب الصحفي معين النجري على صفحته في «فيسبوك» أن برنامج الغذاء العالمي يُسلّم منذ عام أكثر من ألف موظف في صحيفة الثورة الحكومية مساعدات غذائية.
وقال إن الأسماء كانت مقرونة بالتوقيع والبصمة، رغم أن الموظفين لم يستلموا أي مساعدات ولم يكونوا على علم بذلك.
وفتحت تلك الحادثة ملفا شائكا، إذ إن الآلاف من الموظفين -الذين لم يتسلموا رواتبهم منذ عامين-كانوا مقيدين في المنظمات الدولية ويُصرف لهم مساعدات، لكنها لم تصل، وتُصادر عبر المنظمات التي شكلها الحوثيون.
إدانات واسعة
وأدان برنامج الغذاء العالمي ما وصفها بعمليات التلاعب والاحتيال التي طالت توزيع المساعدات. وقال في بيان إن مساعدات غذائية مخصصة ليمنيين يعانون الجوع الشديد تسرق وتباع في مناطق يسيطر عليها الحوثيون.
وقال المدير التنفيذي في البرنامج ديفد بيزلي إن «هذا الفعل يصل إلى سرقة الطعام من أفواه الجائعين (…) ويجب أن يتوقف هذا السلوك الإجرامي على الفور».
من جهتها، طالبت الحكومة اليمنية في بيان لها «بإجراءات حازمة لإيقاف عبث المليشيا الحوثية بالمساعدات الإغاثية».
لكن الحوثيين نفوا تلك التهم، وقال رئيس «اللجنة الثورية العليا» محمد علي الحوثي في بيان له إن تصريحات برنامج الغذاء العالمي «تهدف إلى التشهير فقط، ولا تخدم العمل الإنساني بقدر خدمتها لأجندة دول العدوان على اليمن».
واتهم الحوثي برنامج الغذاء بتزويد اليمنيين بالغذاء الفاسد، وقال إنه سيتم «مقاضاة البرنامج أمام القضاء اليمني».