طالما ارتبطت قناة السويس بتاريخ مصر، خاصة بعد أن أعلن الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر، تأميمها عام 1956، معادياً بذلك الدول الكبرى بالعالم، حتى باتت أحد أهم معالم السيادة المصرية.
إلا أن هذه السيادة التي واجهت مصر من أجلها حروباً عسكرية واقتصادية وسياسية ستفقدها قريباً في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ فقد أعلنت الحكومة المصرية، مؤخراً، وجود شراكة وصفقة جديدة بين قناة السويس وشركة موانئ دبي الإماراتية، تحصل بموجبها القناة على 51% منها وموانئ دبي على 49%.
وأوضح رئيس هيئة قناة السويس، الفريق مهاب مميش، تفاصيل الصفقة، قائلاً إن المباحثات تتضمّن إنشاء شركة تنمية مشتركة تكون مملوكة بنسبة 51% للمنطقة الاقتصادية للقناة، و49% منها لـ”موانئ دبي”.
وأضاف مميش أن الصفقة تأتي “في إطار اهتمام الإماراتيين بالاستثمار في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، نظراً لكونها من أهم المناطق الاستثمارية الواعدة في العالم”.
وأكد أن دخول مجموعة استثمارية عملاقة مثل “موانئ دبي” للاستثمار في منطقة شمال غربي خليج السويس سيرفع التصنيف الاستثماري لـ”اقتصادية القناة”، على حد قوله.
رمز للسيادة الوطنية
وعقب شيوع خبر الصفقة، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، ودُوّنت آلاف التغريدات الغاضبة والمندّدة بمخطط الإمارات الجديد، والذي وصفه مغرّدون بأنه استيلاء على قناة السويس.
وتفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي- بحسب ما رصد “الخليج أونلاين”- مع الخبر الذي اعتبره ناشطون “بيعاً جديداً لمرافق مصرية”.
كما أبدى المغرّدون دهشتهم من الاتجاه للشراكة مع موانئ دبي في ظل اتجاه إقليمي لإلغاء الشراكة معها، في ظل ممارساتها للهيمنة والسيطرة على موانئ المنطقة الاستراتيجية.
وتأتي صفقة قناة السويس بعد إلغاء الصومال اتفاقية شراكة مع موانئ دبي لإدارة ميناء “بربرة”، وإلغاء جيبوتي عقداً مع موانئ دبي أيضاً لتشغيل محطة “دوراليه” للحاويات.
وينطلق الموقف الشعبي المعارض لاستثمار الإمارات في قناة السويس من أنها تُعدّ رمزاً للسيادة المصرية ولا يجوز لأحد أن يشترك في إدارتها أو الحصول على أرباحها إلا مصر، التي دفعت ثمناً باهظاً لتحقّق سيادتها عليها.
فقبل أكثر من 50 عاماً، وبعد إعلان الرئيس عبد الناصر تأميم القناة، قرّرت فرنسا وبريطانيا تجميد الأموال المصرية في بلادهما، في حين جمّدت الولايات المتحدة أموال شركة القناة لديها، وأموال الحكومة المصرية في بنوكها أيضاً.
وسياسياً بدأت الدول الكبرى في تعبئة الرأي العام الدولي ضد مصر وإقناعه بأن تأميمها لشركة قناة السويس قد خالف الشرعية الدولية وحطّم مبدأ حرية المرور في القناة، وهدّد السلام والأمن في منطقة الشرق الأوسط.
وفي أغسطس 1956، عُقد مؤتمر للدول المنتفعة من قناة السويس، بطلب من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ونال مشروع أمريكي قُدّم خلال المؤتمر للتصويت عليه أغلبية الأصوات، وتضمّن اقتراحاً بإقامة منظمة دولية تقوم على نمط الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة لتشرف على إدارة القناة.
وعُرض المشروع على مصر ورفضه عبد الناصر، وإزاء هذا الرفض أعلن رئيس وزراء بريطانيا في مجلس العموم إنشاء هيئة جديدة باسم هيئة المنتفعين ويكون لها طابع مؤقت، وتكون مسؤولة عن تنسيق المرور في القناة وتحصيل رسوم المرور.
ولكن هذه الهيئة لم تنل ثقة مجلس الأمن الدولي بسبب رفض الاتحاد السوفييتي -المتمتّع بحق الفيتو- لها.
وأمام فشل سياسة الدول الكبرى في تحقيق مآربها عن طريق الضغط الدبلوماسي توجّهت هذه الدول للقوة العسكرية، فشنّت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل حرباً على مصر في العام 1956، التي انتهت بانسحاب القوات الاستعمارية من الأراضي المصرية، وانفراد القاهرة بملكية قناة السويس وحق إدارتها بلا منازع.
مورد مالي للدولة
إضافة إلى أنها رمز للسيادة المصرية، تعدّ قناة السويس إحدى أهم المجاري البحرية في العالم؛ حيث يمرّ عبر القناة ما بين 8% إلى 12% من حجم التجارة العالمية.
وتعدّ “الهيئة العامة لقناة السويس” أحد الموارد الرئيسية التي تعتمد عليها الدولة في توفير العملة الصعبة من إيراداتها.
وخلال أول شهرين من العام الجاري، يناير وفبراير 2018، بلغت إيرادات القناة 15.7 مليار جنيه (نحو 882 مليون دولار)، مقابل 13.7 مليار جنيه (764 مليون دولار) خلال ذات الفترة من العام الماضي، بينما بلغت إيرادات القناة في عام 2017 نحو 5.3 مليارات دولار، بزيادة 5.4% عن العام السابق.
في مصر أيضاً تملك دولة الإمارات نفوذاً على البحر الأحمر؛ فشركة موانئ دبي تسيطر على ميناء العين السخنة، الذي يُعدّ من أكبر وأهم الموانئ على البحر الأحمر، وفق عقد إدارة وُقّع في العام 2008.
وبموجب العقد تمتلك موانئ دبي 90% من أسهم شركة تطوير ميناء السخنة، صاحبة الامتياز والمسؤولة عن تشغيل ميناء السخنة، مقابل 670 مليون دولار.
السيادة المصرية التي تبتلعها الإمارات كانت السعودية قد انتهكت جانباً آخر منها بموافقة حكومة السيسي، التي وقّعت مع الرياض اتفاقية عام 2016، تتنازل بموجبها عن السيادة على جزيرتي “تيران” و”صنافير” لمصلحة المملكة.
ورغم أن المحكمة الإدارية العليا (المختصة بالنزاعات الإدارية) بمصر قد قضت، في 16 يناير 2017، ببطلان الاتفاقية واستمرار الجزيرتين تحت السيادة المصرية، إلا أن البرلمان المصري ومحكمة مصرية أخرى أقرّا عكس ذلك، متفقين مع الموقف الرسمي.
أزمة مالية
المحلل والمختص الاقتصادي عاصم أحمد، علّق في حديث لـ”الخليج أونلاين” على منح مصر شراكة للإمارات في قناة السويس بالقول: إن “الدافع الرئيسي وراء هذه الخطوة المصرية هو التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها القناة خلال السنوات الماضية، والتي دفعتها للاقتراض من بنوك محلية أكثر من مرة”.
وأضاف أحمد: إن “هيئة قناة السويس طلبت من البنوك الحكومية المصرية، في مايو الماضي، تمويلاً بقيمة 400 مليون دولار، للمساهمة في التكاليف الاستثمارية لمشروعات البنية التحتية التي تقوم بها الهيئة”.
وأشار إلى أن مديونيات هيئة قناة السويس للبنوك بلغت نحو 1.5 مليار دولار حصلت عليها بشكل مباشر.
وأوضح أن الهيئة حصلت على قرضين من بنوك مصرية محلية في العام 2015؛ الأول بقيمة 1.4 مليار دولار، والثاني بقيمة 400 مليون دولار.
وقال المحلل الاقتصادي: إن “هذه القروض تُثبت وجود أزمة مالية تعاني منها الهيئة العامة لقناة السويس، لذلك فإن مصر قرّرت أن يكون لديها شريك قوي مالياً في القناة لتتمكّن من تجاوز أزمتها المالية الخانقة”.
الإمارات توسّع نفوذها
من وجهة نظر ثانية، رأى المحلل الاقتصادي جمال جبون، أن “الإمارات اختارت الاستثمار بقناة السويس لأنها تحاول تعزيز نفوذها في جميع المناطق الحيوية في العالم؛ فهي تشغل عشرات الموانئ حول العالم، ومن بينها ميناء العين السخنة المصري، الذي يُعد واحداً من أهم موانئ البحر الأحمر”.
وأضاف جبون في حديثه لـ”الخليج أونلاين”: إن “سيطرة الإمارات على قناة السويس وميناء العين السخنة يعكس حالة الضعف والهشاشة التي يعاني منها النظام المصري الحالي، فهو بسبب الظروف الاقتصادية التي مرّ بها يقوم بعملية بيع حقيقية لأراضٍ ذات سيادة مصرية لدول أخرى، كما فعل بجزيرتي تيران وصنافير عندما تنازل عنهما للسعودية”.
وتابع: “دعم الإمارات والسعودية للسيسي في إسقاط نظام الرئيس المعزول، محمد مرسي، يُعدّ أهم عامل ساهم في إقدام الحكومة المصرية على بيع نحو نصف قناة السويس للإمارات، والتنازل عن تيران وصنافير للسعودية”.
ورأى المحلل الاقتصادي أن الإمارات ستواصل توسيع نفوذها في الأراضية المصرية، وربما يتم قريباً توقيع اتفاقيات أخرى تدير بموجبها شركات إماراتية مصانع أو منشآت حيوية أو موانئ أخرى في مصر.
ويستبعد أن تحقّق مصر أي فائدة اقتصادية حقيقية على المدى البعيد من شراكتها مع الإمارات بقناة السويس؛ فشركة موانئ دبي تدير ميناء العين السخنة منذ عام 2008، وخلال السنوات العشر الماضية لم تنجح الشركة باستغلال طاقة الميناء أو زيادة قدراته، رغم أن الحكومة المصرية بنته بمليارات الدولارات.