لم تشهد العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، تدهوراً بهذا القدر الهائل كما حدث خلال الأيام الماضية من شد وجذب غير معهود طوال تاريخ البلدين الذين كانا حتى وقت قريب يشكلان حلفاً استراتيجياً، ونجحا طوال عقود من العلاقات المشتركة في إبقاء الخلافات تحت دائرة الضوء، إلا أن تطورات الأسبوع الأخير أخرجت معها الخلافات المحتدمة بين قيادتي البلدين إلى السطح.
ويقول مراقبون إن الخلاف السعودي الإماراتي قديم وعميق ويشمل تقريباً معظم القضايا الاستراتيجية المتعلقة بمستقبل الدولتين، خاصة فيما يتعلق بالجانبين السياسي والاقتصادي، وأن الطعنة التي وجهتها أبوظبي في ظهر الرياض خلال اجتماع “أوبك بلس” لم تكن سوى شرارة أشعلت النار في فتيل الأزمة المتجذرة والممتدة لسنوات طويلة بين الرياض وأبوظبي.
أوبك بلس.. لحظة اشتعال الفتيل
في الاجتماع الأخير لتحالف “أوبك بلس” عارضت الإمارات بشدة اقتراحا سعودياً يمهد للتوصل إلى اتفاق، واصفة إياه بأنه “غير عادل”، مما تسبب في تأجيل الاتفاق، الأمر الذي قد يؤدي إلى عرقلة عملية موازنة الأسعار في سوق النفط الخام خلال أزمة وباء كوفيد-19.
هذا الموقف الإماراتي شكل تحديا نادرا للسعودية في سوق النفط من حليف “وثيق”، الأمر الذي استدعى رداً سعودياً قوياً، لتصدر المملكة عقب ذلك جملة من القرارات الاستثنائية والتي أحدثت هزة كبرى في أبوظبي.
حجم الغضب السعودي من الموقف الإماراتي عبر عنه بوضوح شديد وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز، والذي هاجم قيادة الإمارات في تصريح “استثنائي” على شاشة قناة العربية بعد أقل من 24 ساعة على إفشال الإمارات التحركات السعودية في “أوبك بلس”. وفي إحدى تصريحاته قال الوزير السعودي:: “لا يمكن لأي دولة اتخاذ مستوى إنتاجها في شهر واحد كمرجعية.. أحضر اجتماعات أوبك+ منذ 34 عاما، ولم أشهد طلبا مماثلا”، مشددا على أن “السعودية تعد أكبر المضحين، ولولا قيادتها لما تحسنت السوق النفطية”، في إشارة لاذعة لتصريحات وزير الطاقة الإماراتي الذي برر موقف بلاده بأنها ضحت كثيراً طوال السنين الماضية وأنها أكثر دولة قدمت التضحيات وتعرضت للظلم في عصبة زعماء مصدري النفط.
رؤية “بن سلمان” الاقتصادية تضرب أطماع “بن زايد”
تتفق آراء جميع المحللين والخبراء المتابعين لتطور الصراع السعودي الإماراتي على أن أساس وجوهر الخلاف بين الدولتين خلاف اقتصادي بحت، بعد أن قرر العملاق السعودي النائم طوال عقود وفق تشبيه الكاتب السعودي علي الشهابي، الاستفاقة من غيبوبته والتحرك نحو خلق اقتصاد سعودي قوي لا يعتمد على قطاع النفط، وفق ما يطرحه المشروع الأهم لولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان “رؤية 2030”.
وكانت السعودية طوال تاريخها تعتمد على واردات النفط كمصدر أساسي وحيد للدخل تقريباً، قبل ان يبدأ الأمير السعودي الشاب بتوجيه ضربات اقتصادية متوالية لأبوظبي في سباق اقتصادي محموم لوضع المملكة في المكان الذي تستحقه.
واستهدفت التحركات السعودية بشكل مباشر عصب الاقتصاد الإماراتي، وأثرت بشدة في شرايينه وقطاعاته الحيوية، وفي مقدمتها أنشطة السياحة والتسوق والصادرات والخدمات والأعمال والاستثمار وإيرادات النقد الأجنبي.
فعلى مستوى استهداف قطاع السياحة، قررت السعودية حظر سفر مواطنيها من الإمارات وإليها، وهو ما يعني حرمان الإمارات من أكثر من مليوني سائح سعودي سنويا، وحرمان دبي لوحدها من 1.5 مليون سعودي، وحرمانها كذلك من إيرادات نقد أجنبي تقدر بمليارات الدولارات، خاصة أن السعوديين الأكثر إنفاقا داخل الإمارات، بل ويتفوقون على الهنود الذين يحتلون المرتبة الأولى في عدد السياح الأجانب بعدد يفوق مليوني سائح في دبي فقط.
أما بالنسبة للصادرات الإماراتية، فقد استهدفتها السعودية بشكل مباشر عبر عدة قرارات، منها تعديل قواعد الاستيراد من دول مجلس التعاون الخليجي.
وبحسب تلك القرارات، فلن تمنح السعودية مزايا جمركية لكل البضائع المنتجة في المناطق الحرة، وهو ما يشكل ضربة لصادرات إمارة دبي والمناطق الحرة في الإمارات، ومنها جبل علي والمنطقة الحرة في مطار دبي. بالإضافة إلى قرارات اقتصادية أخرى عديدة دقت ناقوس الخطر في أروقة الحكم بالإمارات، وهزت مكانتها الاقتصادية.
حرب اليمن.. الطعنة التي لن ينساها بن سلمان
انطلقت حرب اليمن في مارس 2015م، وبتحالف وثيق بين السعودية والإمارات لدعم وإسناد الحكومة الشرعية في مواجهة انقلاب الحوثيين. في ذلك الوقت كان الحوثي يسيطر على صنعاء وعدد من المحافظات الشمالية، بينما تفرض الحكومة الشرعية سيطرتها على جميع المحافظات الجنوبية وعدد من محافظات الشمال.
المعادلة تغيرت كثيراً منذ ذلك الحين، فالحوثي الذي كان قبل دخول الإمارات ساحة اليمن مجرد مليشيا مسلحة أصبح الآن صاحب النفوذ الأكبر في البلد والقوة الأكثر تسليحاً على الأرض، بينما انكمشت المساحة الجغرافية للحكومة الشرعية التي تدعمها الرياض لأدنى مستوى لأي حكومة يمنية في تاريخ اليمن الحديث.
وقد كان للإمارات دور فاعل في تأزيم المشهد في اليمن، فقد بدأت بمنازعة الشرعية سلطاتها قبل أن تخرجها رسمياً من عدن في انقلاب أغسطس 2019م، كما أسندت مليشيات الحوثيين وقادت عمليات تمويل الجماعة وإمدادها بالإسلحة المهربة، الأمر الذي مكن الحوثيين من التحول إلى قوة مهددة للأمن الوطني السعودي.
وفي 2019م فوجئت الرياض بإعلان ابوظبي الانسحاب الأحادي من اليمن دون التنسيق معها، في موقف وصفه مقربون من البلاط الملكي السعودي بأنه “خيانة وطعنة في خاصرة المملكة”.
حتى اتفاق الرياض الذي حاولت فيه المملكة الخروج من أزمة انقلاب عدن التي مولتها الأمارات بات في حكم “الميت سريرياً” برغبة إماراتية بحتة، ولم تنجح مساعي الرياض المتواصلة طوال الفترة الماضية في إجبار مليشيات الإمارات الإنفصالية في تنفيذ أي بند من بنودها.
كل ذلك بالإضافة إلى اقتطاع الإمارات جزيرة سقطرى لنفسها عنوة بالرغم من معارضة السعودية لهذه الخطوة الخطيرة، كان له دور كبير في إدراك قيادة المملكة أن أفدح أخطائها في حرب اليمن كان الركون لحليف غادر كالإمارات.