بقلم - خالد الرويشان
قال الراعي مزهُوًا : خِرافي كثيرةٌ، تملأ السهل والجبل لكنّ عواءَ الذئاب يقضّ مضاجع الخرفان ، أنا بحاجةٍ إلى كلابٍ تحرس القطيع وتهاجم الذئاب
اشترى الراعي كلاباً كبيرةً مدرّبة.
فتح لها أبواب حظائره سعيدا واثقا..كعادته يخطط وينفّذ بأناةٍ وصبرٍ وذكاء!
كانت الكلاب تعود مع الخراف عند غروب كل يوم منهكةً جائعة لتلتهم عشاءها الذي كان خروفين أو أكثر.
وكان الراعي مطمئنا فالخراف كثيرةٌ والنعاج تتوالد!
كان الراعي يهدي كل مساء تيوسه وخرافه ونعاجه كي تنهشها الكلابُ حيّةً وتلتهمها عشاءَ كل يوم مع غروب الشمس!
لم يأسف الراعي على تيسٍ أو كبش! ..أو حتى نعجة توشك أن تلد!
كان يحدّث نفسه هانئَ البال: خروفان .. تَيسان أو ثلاثة كل ليلة لايعنيان شيئاً! سأنجح وسأربح مثل نجاحي في مواسمي السابقة! ويضيف بثقة:
تجربتي طويلة وثقتي كبيرة والقادم أفضل!
بعد أسابيع، لاحظ الراعي نقصاً في عدد الخراف والتيوس.. لكنه هَزّ أكتافه كعادته غير مُهتمٍّ قائلاً:
النِّعاج سَتلِدُ نعاجاً وخِرافاً .. الخيرُ قادم، والخراف آمنة والكلاب تؤدي مهمتها بامتياز
مَرّ وقتٌ غير طويل قبل أن يكتشف الراعي أن عدد الكلاب أصبح مساوياً لعدد الخراف والتيوس!
ذُعِرَ الراعي، اجتمعَ بكلابه، صَارَحها بأنه عازِمٌ على تسريحِ نصفِها! فالخرافُ والتيوس أصبحت قليلةً ولم تعد بحاجةٍ إلى هذا العدد الكبير من الكلاب. كشّرت الكلابُ عن أنيابها.. وصرخت في وجهه وأبانت عن نواجذها الحادّة.. فبَلَعَ الراعي صوتَه، ورجاءه وكتم عواطفه الغاضبة وخططه الغامضة المتناقضة ..تلك كانت موهبته! لكنه في داخله كان يعضّّ نواجذ الندم!
بعد أشهرٍ أخرى، أصبح عدد الكلاب ضعف عدد الخراف والتيوس!
لم يتدارك الراعي ذلك ولم يدرك خطورة ما يحدث طوال شهور ..لم يُدرك وهو الحاذق الداهية!
لم يتدارك الراعي أو يدرك حجم المذبحة وهو يراها كل مساء وعشاء! هذه تيوسه تُذبَح وخرافه تُسلَخ ومزارعه تموت أمام عينيه!
بعد أشهر همس لنفسه نادمًا:
الذئاب أرحم! كان يهمس ولكن بعد فوات الأوان! كان يرى بعينيه ويسمع بأذنيه أن الذئاب أيضا تَغِيْر على حظائر خرافه وتيوسه كل ليلة! وتفتك بلحمها وتهتك عظمها
قرّر الراعي أن يجتمع بكلابه، توسل إليها بأن تذهب في سبيلها، وأن تكتفي بما أكلت من الخراف والتيوس.
هزّت الكلابُ أذيالها ساخرةً وذَكّرتهُ بأنها حَمَت قطيعَهُ من الذئاب، واتّهمتهُ بأنّهُ ناكِثٌ للعهد، ناكرٌ للجميل!
أدرك الراعي متأخرًا خطأه الفادح باستقدامها! كان قد خسر كل شيء
لذلك ، قرر فجأةً أن يحزم أمره وأن يتخذ موقفا! هدّد بطردها!
لكنه لم يقل ذلك إلا بعد أن التهمت كل شيء ..كل شيء! وكعادته هدّدها ورجاها في نفس الوقت! يا لتناقضاته! كان منهكا حتى إنه ناشد الذئاب أيضا! .. يناشدها كل يوم ويمد يديه لها بينما الكلاب تنظر وتسمع! .. وبالطبع تزداد نهمًا وغضبا ..وحقدًا
لكنها جميعها ..الكلاب والذئاب معًا لم تثق به يومًا ..كانت تعرف تناقضاته وتقلباته! ووحدها خِرافه وتيوسه ونعاجه كانت تستمع له وتأمُل وتنتظر!
بعد أيام، وعند الغروب، عاد الراعي مملوءاً بالحسرة والندم، فلم يعد يملك سوى خروفين ..أو بالضبط، خروف وتيس! كانا يتقافزان أمامه وهو سارحٌ كمن فقد ذاكرته وذكاءه وتجربته خلال ساعات! كان الخروفان كل ما تبقّى له من خراف وتيوس!
كانت الكلابُ حولَه تملأُ السّهلَ والجبل وتتزاحم باندفاعٍ نَهِمٍ حول الخروفين الأخيرين.. عشائِها الأخير!
في مساءِ اليومِ التالي وفي ميعادِ عَشَائها، عادَت الكلابُ مسعورةً من الوادي وحيدةً منفردةً بالسهل كله! فلم يعُد ثمّةَ من خرافٍ أو تيوس!
كانت تعرف أن ثمّة تيسا أخيرا في انتظارها ..كان وحيدًا ويائسًا!
كانت جائعةً جامِحَةً كعادتها لا تلوي على شيء سوى وجبة عشائها! وكان الراعي واقفًا على باب قبوه بانتظارها مثل تيسٍ شجاعٍ وعنيد!
وحدث ما كان مُتوقّعا .. التهمت عشاءها الأخير!