بقلم - عبدالعزيز غالب الابارة
كانت الساعة تشير الى حوالي الثامنة مساء عندما رن الهاتف بجواري وانا ما زلت مستغرقا في نوم عميق بعد يوم شاق عدت فيه من مبنى الجوازات الذي كان يكتظ بمئات اليمنيين الباحثين عن وثيقة فرار (جواز سفر) من الأوضاع المعيشية والحياة الظنكا التي حطت على صدورهم وانا واحد منهم بين عشرات الطوابير اتنقل لعلي ابلغ مبتغاي واحصل على هذه الوثيقة التي ستساعدني على الهروب من هذا الوضع المخزي، ومثلنا مئات الالف ممن لم يحالفهم الحظ للوصول الى ذلك المبنى الذي اصبح الدخول اليه صعبا جدا حينها وإذا اردت ان يكون لك حظا في دخول المبنى عليك ان تنام بالقرب من السور حتى تتمكن من الحصول على فرصة الدخول بعد ان يقوم العسكر والمشرفون بإدخال من يعرفون او من يدفعون لهم.
المهم امتدت يدي الى الهاتف واخذت اتحسس زر الإجابة على المكالمات وانا مغمض العينين فقد غفوت بعد الإفطار والصلاة فقد اثقل عليّ الصوم والتعب معاً.. وصلت الى الهاتف وأجبت على المكالمة والتي كانت الرابعة تقريبا واذا بصوت مبحوح يرتجف،.. لم افهم منه شيء في المرة الأولى والثانية حتى صرخ ذات الصوت قائلا: “اين انت؟ قالوا طائرة ضربت معسكر العبر وتلفون ابي مغلق وكل تلفونات الذين مع ابي ما حد يرد”.. كان ذلك الصوت لأم عمر أم اولادي و”مليكتي” وأبنة الشهيد رحمة الله عليه.. اكملت ام عمر جملتها واجهشت بالبكاء فقطعت الاتصال واخذت ابحث في سجل هاتفي عن ارقام المغدور بهم واحد تلو الاخر .. عمي ! اخي ! ابن اخي ! إبن عمي ! إبن خالي ! إبن عمي ! اشخاص اعرفهم كانوا على مقربة من عمي هناك!! لا حياة لمن تنادي..
كنت في منزل كريمتي في منطقة الصافية خرجت حينها متجها الى منزل عمي الشهيد احمد يحى الابارة في شارع هائل حيث كانت زوجتي واولادي حينها.. لم يفارق الهاتف اذني وانا أحاول الاتصال باي شخص لعلي أجد بصيص امل يمحو ما علق بذهني من وساوس الشيطان وهواجسه المشؤومة التي تكاد ان تذهب بعقلي.. وانا في الباص رن الهاتف وكان المتصل هذه المرة خالي أبو “صلاح” احد شهداء المجزرة .. استجمعت قواي المنهارة ورديت على الهاتف معتقداً ان هذا الاتصال هو الذي انتظره وانني قد وجدت ضالتي في من يطمئن قلبي ويذهب عني وسوسة الشيطان الملعون الذي رسم في مدارات مخيلتي خارطة بشعة بذلت كل جهدي في محاولة طمس معالمها.. اجبت على الهاتف ويا ليتني لم اجب.. كان الصوت الذي حمل إليا الفاجعة وأكد لي تلك الصورة التي أحاول منذ زمن محو معالمها.. انها الحقيقة.. قال لي بصوت حزين عظم الله اجرنا جميعاً لقد تأكد استشهاد (عمك احمد وصلاح وعبدالملك وعبدالاله وبشير وعبدالجبار).. خلاص انتهى كل شيء وبدى ما توهمته حقيقة لا غبار عليها..
هذه هي قصة لحظات بسيطة من لحظات الفاجعة التي هزت اليمن من أقصاه الى أقصاه باستشهاد ثلة من أنبل رجالات اليمن الملخصين واوفاهم للوطن حباً وتضحية وفداء.. عشرات الضباط والعسكريين قضوا في تلك الضربة التي استهدفت اول لواء عسكري تشكل بعد الانقلاب الحوثي وسقوط صنعاء.. اللواء الذي شكله العميد احمد الابارة ورفاقه في صحراء العبر بحضرموت وكان النواة الأولى لجيش يمني وطني ولائه للوطن والدستور وفق رؤية قائده ومؤسسه وهو ما لم يروق للبعض؛ فكان هذا اللواء الوطني وخطة الشهيد العسكرية التي قدمها للتحالف ملخصة نقاط تحرير اليمن من الحوثي وطريقة القضاء عليه، كل تلك العوامل كانت كفيلة بالقضاء على هذا اللواء وقائده – بدلا من القضاء على الحوثي- فهو الخطر الحقيقي الذي يهدد هذه القوى ومخططاتها الاجرامية .. فوجود مثل هؤلاء الجنود ومثل هؤلاء القادة يعني فشل الاجندات الرامية الى العبث باليمن والاستيلاء عليه وسلب سيادته وتفتيته الى كيانات متناحرة وفصائل متقاتلة على مدى الأعوام والسنين القادمة..
قتلوه ووأدوا بمقتله حلم اليمنيين في الخلاص من جرثومة السلالة والكهنوت وافشلوا بمقتله مشروع بناء اليمن الجديد للمرة الثانية كما افشلوه من قبل بقتلهم الشهيد الحمدي.. قتلوه حتى لا تعود الدولة ويستمروا في انهاك اليمن واليمنيين ويجعلوا من اليمن ساحة لتصفية حساباتهم مستخدمين اليمنين انفسهم ممن باعوا انفسهم وارتهنوا لأجندات شيطانية سيكونون هم وقودها وهم لا يشعرون..
رحم الله شهيدنا وكل شهداء الوطن وحفظ الله اليمن برا وبحرا وجوا..