“هل هذه كارثة طبيعية؟ منازل محروقة ومهدمة، فوارغ وآثار رصاصات، لا يوجد من يتحدث عما حدث بالتحديد ليجلب كل هذا الدمار في إحدى مدن جمهورية اتحاد ميانمار وهي “مايكيتلا”.
كان هذا ما رواه جوناثان هيد أحد مراسلي بي بي سي لشؤون جنوب شرق آسيا عن مأساة مسلمي الروهينغا في دولة ميانمار.
تقع جمهورية اتحاد ميانمار في الشرق الآسيوي على امتداد خليج البنغال، تحدها من الشمال الشرقي الصين، ومن الشمال الغربي الهند وبنغلاديش، وكذلك تشترك حدودها مع كل من لاوس وتايلاند، وعلى الصعيد الجنوبي تطل ميانمار على سواحل خليج البنغال والمحيط الهندي، وتمتد إطلالتها في الجنوب الشرقي إلى شبه جزيرة الملايو.
جغرافيًا كانت خاضعة للاحتلال البريطاني منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وتحديدًا حتى العام 1948، وخرجت من هذا الاحتلال بإرث من الحرب الأهلية والاقتتال بين طوائف المجتمع الدينية والعرقية، وكانت من أبرز مشكلات الحرب بين الطوائف مشكلة “مسلمي أراكان” الذين تصدوا للاحتلال الإنجليزي في بدايته.
هذه الصراعات لم تحسمها سوى قوة انقلاب عسكري سيطر على حكومة البلاد التي كانت تعرف آنذاك باسم “بورما” عام 1962، وبدأ مجلس عسكري يُسمَّى مجلس الدولة للسلام والتنمية في إدارة شؤون البلاد، تحت قيادة جنرال عسكري يدعى “ني ون” دون سلطة تشريعية أو أجهزة معاونة وبحزب واحد.
ظلت البلاد سياسيًا تحت هذا الحكم إلى أن حدثت انفراجة في أوائل التسعينيات حينما جرت انتخابات وسمح ببعض التعددية الحزبية، إلا أن محاولات وضع دستور جديد بأوامر من المجلس العسكري الحاكم الذي تحول اسمه إلى “مجلس الدولة لاستعادة القانون والنظام” فشلت، لكن نتائج هذه الانفراجة الحقيقية لم تظهر سوى في العام 2010، بعدما بدأت عملية تحول ديمقراطي سلم بموجبه الجيش الإدارة لحكومة يرأسها جنرال لكن عدته العديد من القوى كـ”إصلاحي” اسمه “ثين سين”.
وتمكنت ميانمار في عام 2015 من اختيار حزب “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” لحكم البلاد برئاسة “تين كياو” مساعد زعيمة الحزب أونغ سان سو تشي، الحاصلة فيما بعد على جائزة نوبل للسلام، وقد حرمت آنذاك من خوض انتخابات الرئاسة، لكنها تعمل كمستشارة للدولة، ويعتبرها البعض الحاكمة الفعلية في البلاد.
هذا الموجز التاريخي السياسي القصير يحمل في طياته سنوات دموية مرت بها هذه البلاد، رسخت صراعًا عرقيًا ودينيًا متواصلًا بين المركز والأطراف بين عرقيات وأديان مختلفة استوطنت الهامش هربًا من سطوة العرقيات الحاكمة في المركز والمتحكمة في الجيش.
مسلمو الروهينجا في قلب الصراع
طبقًا لتقارير الأمم المتحدة تجري الآن عملية “تطهير عرقي” في ميانمار أدت إلى تهجير ما بين ٣٠٠ إلى ٥٠٠ ألف شخص من أقلية الروهينجا المقدر عددها بـ1.1 مليون نسمة، وذلك عقب مضي عقود من الاضطهاد الموجه ضدهم، كان أبرز تجلياته تجريدهم من الجنسية سنة 1982.
وفي آخر فصول هذه المحرقة التي تدور رحاها تجاه مسلمي الروهينجا، فرّ قرابة 18 ألف روهينجي مسلم في أقل من أسبوع، بعد أن أطلق الجيش حملة قمعية وحشية ضدهم في ظل صمت من القوى التي تسمى بـ”الديمقراطية” في البلاد، في إحدى حالات العقاب الجماعي ضد هذه الأقلية.
ذريعة الجيش ادعاء وجود هجوم شنه مسلحون على مراكز حدودية، إلا أن نشطاء أكدوا أنه على امتداد عام كامل، نفذ الجيش سلسلة عمليات وحشية بحق أقلية الروهينجا التي تسكن في ولاية راخين الساحلية الغربية، ومن بين ذلك تنفيذ عمليات موثقة للإبادة جماعية وحرق وتدمير قرى بأكملها، ولم يرتبط ذلك بعمليات مسلحة.
وصل الأمر الآن إلى منع حكومة ميانمار محققي الأمم المتحدة والجمعيات الإغاثية التابعة لها ووسائل الإعلام من الوصول إلى القرى المنكوبة، فيما يتهم الجناح المدني المشارك في الحكم عمال الإغاثة بمساعدة من أسماهم “الإرهابيين”، واتهمت الزعيمة البورمية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام ” أونغ سان سو تشي” بشكل مباشر النساء بتلفيق قصص عن العنف الجنسي، الأمر الذي أثار استنكار حقوقيين دوليين طالبوا بسحب جائزة نوبل للسلام منها باعتبارها مشاركة فيما يحدث، رغم إنكارها المتكرر.
صراع الهويات العرقية والدينية
يقبع مسلمو ميانمار “الروهينجا” وسط تلال من الأقليات المتصارعة يسيطر عليها شعب “البامار” وهم العرقية الغالبة في البلاد بنسبة 40% تقريبًا، والذي يمارس الاضطهاد على بقية العرقيات، والمأساة الأكبر لهذه الأقليات كانت من نصيب مسلمي الروهينجا الذين يسكنون ولاية راخين الساحلية الغربية.
لا يختلف حال عرقيات “الكاشين” المسيحية، والـ”تشين” التي تسكن قرب الحدود الهندية عن حال الروهينجا كثيرًا، إذ يتعرضون لاضطهاد مزمن من قبل الجيش، حتى إن أقلية الكاشين تمتلك جبهة مسلحة تسمى “جبهة تحرير كاشين” قاتلت الحكومة حتى توصلت لاتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانبين.
وعلى نفس الصعيد تعيش أقلية “وا” صراعًا في ولاية “شان” ذات الحكم الذاتي المرتبط بعلاقات وثيقة مع الصين، ويمتلكون جيشًا مسلحًا تحت اسم جيش “دولة وا المتحدة” وهي مليشيا قوية تضم قرابة 30 ألف مقاتل بحسب إحصائيات، وقد قاتل الجيش الحكومة المركزية لوقت طويل حتى توصلوا أيضًا لوقف لإطلاق النار.
وكذلك أقلية “المون” تخوض صراعًا مسلحًا مع الجيش باستخدام مجموعات مسلحة لحزب يعرف باسم “ولاية مون الجديد”، ويعيش الحزب هو الآخر فترة تهدئة مع الحكومة المركزية.
فيما تتعرض أقلية “الكاريني” لنفس عمليات الإبادة والتهجير من قبل الجيش لكن بدافع اقتصادي للسيطرة على الموارد في المنطقة التي يعيشون فيها بولاية “كايان” المهمشة.
بالنظر في هذا الصراع يتضح أن هذه البلاد تعيش على جمر من الصراعات العرقية نمت على هامشها حروب دينية بين متطرفي الديانة البوذية ضد المسلمين والمسيحيين، مما دفع البعض من الأقليات الأخرى إلى رفع السلاح للدفاع عن أنفسهم أمام تسلط الجيش المركزي، ويُلاحظ أن أكثر من أقلية عرقية تمتلك تشكيلات مسلحة تخوض مواجهات أمام السلطة المركزية، وهو الأمر الذي يدحض فرضية خوض حربًا من نوع خاص ضد “جماعات إسلامية مسلحة” كما تحاول السلطة الترويج لذلك، إذ إن الأقليات الأخرى غير المسلمة تخوض نفس الحرب ضد المركز، وتعد أقلية الروهينجا في هذا الصدد الأضعف بين تلك العرقيات.
إذ خرج ما يُعرف بـ”جيش خلاص روهينجا أراكان”، المعروف سابقًا باسم حركة اليقين، ببيان حمل اسمه الجديد في شهر مارس/آذار 2017، قائلاً إنَّه ملزمٌ بـ”الدفاع عن مجتمع الروهينجا وإنقاذهم وحمايتهم”، وتتهم الحكومة هذا التنظيم بـ”الإرهاب”، وعلى خلفية هذا يمارس الجيش الميانماري عقابًا جماعيًا على المدنيين من مسلمي الروهينجا تحت غطاء تهمة “الإرهاب”، رغم عدم إثبات أن هذه الجماعة المسلحة لديها دعمًا شعبيًا، بل قالت منظمة “فورتيفاي رايتس” الحقوقية إنَّها وثَّقت أنَّ مقاتلين تابعين لجيش خلاص روهينغا أراكان “متهمون أيضًا بقتل مدنيين، يُشتبه في أنَّهم مخبرون حكوميون، في الأيام والأشهر الأخيرة، بالإضافة إلى منع الرجال والفتيان من الفرار من بلدة مونغداو.
هل تخلت الجغرافيا عن الروهينجا أيضًا؟
عند استعراض جغرافيا ميانمار وارتباط العرقيات والأقليات بهذه الجغرافيا التي يعيش عليها نحو 49 مليون نسمة، نجد أن ثمة ارتباطات خارجية لهذه العرقيات تساعدها أحيانًا في المواجهات أمام سلطة الجيش المركزية.
فنجد على سبيل المثال أقلية “الكاشين” مرتبطة بإقليم التبت، وأقلية “وا” في ولاية “شان” يستخدمون لغة “المندرين” الصينية كلغة ثانية، ويتصلون بعلاقات قوية مع الدولة الصينية، وأقلية “الشان” التي تعد من الأقليات الأكبر حجمًا في ميانمار موزعة على مناطق جغرافية مختلفة بـ6 ملايين نسمة، ويرتبطون عرقيًا بالتاي في جنوب غرب الصين.
وكذلك أقلية “المون” البوذية في جنوب البلاد المرتبطين عرقيًا بالخمير في كمبوديا، أما أقلية “الراخين” التي تعيش في (أراكان) غربي ميانمار، فترتبط بعرقيات في جنوب بنغلاديش، ويعيش معهم في نفس الولاية أقليات عدة مثل الروهينجا المرتبطة بعرقيات في بنغلاديش وتايلاند إلا أن هذا الارتباط لم يعد عليهم بالنفع في مأساتهم الحالية.
ويشترك الجميع في مواجهة مع السلطة المركزية بدوافع دينية وعرقية واقتصادية، وتتركز حرب الجيش حاليًا مع أقلية الروهينجا التي يبلغ عددها قرابة 1.1 مليون نسمة مهددين بالإبادة الجماعية، وسط صمت من الجغرافيا المحيطة التي ترفض حتى الآن التدخل بشكل جاد لوقف المجازر بحق أقلية الروهينجا، بل وصل الأمر إلى رفض استقبال الفارين من المجازر، وإعادة بعضهم إلى السلطات الميانمارية.
المجلس العسكري لميانمار
وبحسب وصف الأمم المتحدة لما يحدث بأنه “أسوأ اشتباكات تشهدها ميانمار”، على إثرها فر قرابة 58 ألف شخص من العنف الدائر هناك، وقد أمرت سلطات بنغلاديش حرس الحدود بمنع هؤلاء الفارين من العبور إلى بلادهم، إلا أن قوات الشرطة البنغالية لم تستطع السيطرة على الأمر، ونجح الآلاف في العبور إلى بنغلاديش.
فيما تفيد التقارير الواردة من هناك بأن أكثر من 20 ألف شخص من الروهينجا محاصرون على ضفة نهر ناف الفاصل بين ميانمار وبنغلاديش، وتضيف أيضًا بأن هناك نحو نصف مليون لاجئ من الروهينجا يعيشون في مخيمات معظمها مؤقتة في بنغلاديش، ولا تزال الأغلبية غير مُسجَّلة.
هذا وتداولت وسائل الإعلام أخبارًا عن اقترح بنغلاديش عملية عسكرية مشتركة في راخين لمساعدة حكومة ميانمار في المعركة التي تخوضها ضد من أسمتهم “المقاتلين المسلحين” في المنطقة، وأعربت على إثر ذلك وزارة الخارجية البنغالية عن مخاوفها من تسبُّب العنف المتجدد في تدفُّق لاجئين جدد عبر حدودها، وهو ما يعني محاولة بنغلاديش الهروب من المشكلة بشتى الطرق، مما دفع أطرافًا في العالم الإسلامي إلى التدخل لإقناع بنغلاديش بالعدول عن هذا الموقف، وفي مقدمتهم تركيا التي اقترحت تحمل تكاليف اللاجئين العابرين إلى بنغلاديش على خلفية الأزمة الأخيرة.
وربما يمكن قياس الموقف الماليزي على الموقف البنغالي، إذ ترفض ماليزيا تصدير المشكلة إليها بحجة ارتباطها باتفاقيات مع الجانب الميانماري، ورغم ذلك انفجار الأزمة أرغم ماليزيا على استقبال لاجئين ومهجرين من مسلمي الروهينجا، ولكن ليس بالصورة الكبيرة.
هل من حل لهذه المحرقة التي تأكل من أقلية الروهينجا منذ عقود؟
حتى الآن لا يبدو أن ضغط الرأي العام العالمي قادر على إيقاف هذه المحرقة، ولا يبدو أن هناك ضغط إقليمي حقيقي على الجيش الميانماري وحكومته لإيقاف عمليات الإبادة الممنهجة التي تتم بحق مسلمي الروهينجا.
فمنذ أسبوع استبعد المندوب البريطاني لدى الأمم المتحدة ماثيو رايكروفت أن ينجح مجلس الأمن الدولي في القيام بخطوات عملية فيما يخص الأوضاع في ميانمار بعد طلب جلسة طارئة، وقد أكد رايكوفرت أن مواقف عدد من الدول في مجلس الأمن ستمنع اتخاذ أي خطوة عملية، ربما في إشارة إلى الصين.
الصين تعد أحد أكبر الدول نفوذًا في بورما، وخاصة بعد بدء إنتاج الغاز من حقل تشوي البحري البورمي عبر شركتي “بتروتشاينا” الصينية و”داي وو” الكورية، بتكلفة 2.5 مليار دولار، عام 2013.
تبع ذلك بدء استخدام خطي أنابيب نفط وغاز من ميناء بولاية أراكان البورمية إلى ميناء بجنوب الصين، وذلك بتكلفة 3.5 مليار دولار، وقد بدأ استخدامهما في مايو 2017، وذلك ضمن خطة استثمارية صينية تبلغ قيمتها 10 مليار دولار، من ضمنها إقامة منطقة اقتصادية خاصة في ميناء أراكان، وربما تصل الصين إلى اتفاق لشراء ميناء الولاية البورمية الفقيرة.
كل هذه المصالح الصينية تجعل التفاوض مع الصين حلًا رئيسيًا لمشكلة الروهينجا، إذ إن صراع الأقليات يهدد المصالح الصينية في هذه المنطقة، لكن حتى الآن لم ترد بكين الضغط على حلفائها في السلطة المركزية الميانمارية للتفاوض مع الروهينجا مثل باقي الأقليات في البلاد، الذين أعلنوا الوصول إلى اتفاق سلام في 2015 مع الحكومة، وذلك بسبب عدم اعتراف حكومة ميانمار بالعرق الروهينجي من الأساس، وإنكار انتمائه لبورما القديمة.
تعد الصين أحد أكبر الدول نفوذًا في ميانمار وذلك في ظل عدم رغبة صينية في خسارة مزيد من النقاط في هذه المنطقة المشتعلة في الصراع مع الولايات المتحدة، إلا أنه يظل الأمل في أن تلعب قوى إقليمية إسلامية وعربية على هذه التناقضات لإيجاد مخرج لمسلمي الروهينغا، ولكن حتى الآن تكتفي الدول الإسلامية الكبرى بموقف المتفرج في هذه الحالة.وربما على طريق حل هذه المعضلة الجغرافية والتاريخية لمسلمي الروهينجا، للتخفيف من وطأة المجازر أن تضغط القوى الإقليمية على دول الجوار لاستقبال اللاجئين الفارين من المجازر، وهو ما تحاول تركيا الآن فعله باتصالات دبلوماسية مكثفة نجحت بعض الشيء في تمرير مساعدات غذائية عاجلة للمحاصرين، وقد يكون لدول مثل السعودية نفوذًا أكبر في هذه المنطقة يساعد في إيجاد متنفس للاجئين، إلا أنه لم يصدر عن السعودية أي تحرك في هذا الصدد.