“جمعة الكرامة” في ذكراها التاسعة.. دماء مسفوكة وثورة حوصرت بالرصاص والجدار الملتهب (تقرير خاص)

Editor19 مارس 2020
“جمعة الكرامة” في ذكراها التاسعة.. دماء مسفوكة وثورة حوصرت بالرصاص والجدار الملتهب (تقرير خاص)

يقول عنها اليمنيون إنها أهم حدث وقع في تاريخ البلاد في العقد الأخير، ويرى معظم المحللين أنها شكّلت البداية الفعلية لسقوط نظام علي عبدالله صالح، رئيس الجمهورية آنذاك.

هو يوم الثامن عشر من مارس أو ما تعرف بـ “جمعة الكرامة” ، والتي يصادف اليوم الأربعاء ذكراها التاسعة وقد تغيّرت البلاد وحدثت فيها أحداث جسام خلال السنوات اللاحقة من عمر الثورة اليمنية التي اندلعت في 2011م.

وتكمن أهمية جمعة الكرامة في كونها شكّلت حدثاً مفصلياً في تاريخ الثورة الشبابية الشعبية التي فجّرها ثوار اليمن ضد النظام الحاكم آنذاك (نظام علي عبدالله صالح)، إذ تغيّرت معها قواعد الصراع بين الثورة والنظام لصالح الأولى، فيما يرى مراقبون أنها أحدثت أكبر هزة تعّرض لها نظام صالح، إذ تسارعت خسائر النظام في أعقابها بشكل غير مسبوق، ليضطر رئيسه في نهاية العام إلى الإذعان للثورة وإعلان تنحيه عن السلطة التي أمسك بها طوال 33 عاماً.

ويحيى ثوار اليمن اليوم ذكرى هذه الجمعة التي يصفونها بالخالدة في ظل واقع بالغ التعقيد، إذ تتزامن مع انكسارات غير مسبوقة للجيش الوطني الذي يصطف الثوار حوله، أمام جماعة الحوثيين الإنقلابية المدعومة من إيران، والتي بدورها تمكنت من إحداث التوغّل الأخطر في الحرب منذ اندلاعها قبل خمسة أعوام، وصارت على أعتاب مدينة مارب، آخر معاقل الحكومة اليمنية في شمال البلاد.

وتعيد هذه الذكرى الكثير من الأحداث المؤلمة بالنسبة للثوار، حيث اقترفت قوات النظام القائم آنذاك مجزرة دموية بحق جموع الثائرين الذي كانوا يؤدون صلاة الجمعة في ساحة التغيير شمال العاصمة صنعاء.

 

وعلى الرغم من أن “جمعة الكرامة” كانت أكبر مجزرة يقترفها النظام الحاكم حينها، إلا أن الثورة اكتسبت في أعقابها مباشرة زخماً غير مسبوق ودفعة هائلة، على المستوى الشعبي والسياسي والعسكري، لتصبح معها هذه الذكرى يوماً خالداً في تاريخ النضال اليمني، وأيقونة للثورة الشبابية، ووصمة عار لكل من كان له يد فيها.

* إرهاصات أولية

اندلعت الثورة الشبابية الشعبية في اليمن في 11 فبراير 2011م، وهو تاريخ نصب أول خيمة اعتصام للثائرين في مدينة تعز ضد نظام صالح. وعمّت التظاهرات في الأيام والأسابيع اللاحقة مختلف المدن اليمنية وأسست العديد من ميادين الاعتصام، كان أهمها ساحة التغيير أمام بوابة جامعة صنعاء شمال العاصمة.

ومع تأسيس ساحة اعتصام دائم في صنعاء أدرك النظام الحاكم أنه يواجه أخطر تهديد له، فشرع في مجابهة الثورة ومحاولة وأدها في بداياتها. ومع توالي الأيام كانت الثورة تتسع وكانت أعداد المصلين في كل جمعة تتضاعف ومساحة الساحة تكبر، على الرغم من كل طرق المجابهة التي انتهجها النظام.

وقبل جمعة الكرامة بأيام شرع بلاطجة يتبعون النظام في بناء جدار عازل يرتفع قرابة 3 أمتار على الشارع الرئيس (الدائري) قبالة المركز الطبي الإيراني (جنوب ساحة التغيير). كما أقاموا الحواجز في كل الشوارع الفرعية المؤدية إلى الساحة، ونشروا المئات من المسلحين في الشوارع لمنع أي يمني من الوصول للساحة.

وإضافة إلى ذلك وضعوا عشرات الإطارات خلف الجدار وصبوا البنزين عليه.

عاد الآلاف يومها لبيوتهم فيما كان المنفذ الوحيد لمن أصر على الوصول هو القدوم من جولة الرباط. أقيمت صلاة الجمعة وبعد انتهائها بدأ المصلون بالهتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”.

يصف أحد الثائرين تلك اللحظات قائلاً: “كنت حينها أمام الجدار العازل مباشرة. أشاهد مسلحين يصبون بنزيناً فوق الجدار ولا أعرف ما الذي يمكن أن يحصل تاليا، فيما اعتلى مسلحون ملثمون الأسطح المجاورة”.

يضيف: “رددنا الشعارات والهتافات ضد النظام.. لكن ولأكون دقيقاً فوالله أنني كنت مذهولاً حين ترديد الهتافات.. كان الصوت مدوياً قوياً لم أسمع بمثله قط، لتبدأ بعدها فصول المجرزة”.

* الجدار يشتعل

بعد انتهاء الصلاة بلحظات أشعل المسلحون التابعون للنظام الجدار وأحرقوا الإطارات. شوهد اللهب يرتفع فيما كان الدخان الكثيف يعلو يملأ السماء ويحجب النظر عن الملثمين المتمترسين في الأسطح المجاورة، وأبرزها سطح منزل محافظ المحويت.

وبعد أن حامت مروحية قيل إن صالح كان على متنها وشاهد جموع الثائرين، بدأت فصول المجزرة، حيث أطلق المسلحون العنان لأسلحتهم النارية وبدأوا بصب الرصاص بكثافة متواصلة وغير مسبوقة على المعتصمين.

يستذكر الثائر نزار غالب تلك اللحظات قائلاً: “كان الضرب كثيف للغاية ولحسن الحظ كنت بجوار الجدار فاحتميت به مبدئياً من الرصاص، ثم بدأت بالتحرك صوب جانب الطريق محاولاً التوغل باتجاه الشمال. شاهدت وأنا أبتعد تدريجياً مشاهد مرعبة. سقط من كتف أبيه بجانبي بعد إصابته برصاصة في الرأس.. مسعفون يهرعون إلى مواقعنا ومصابون يحملون على بطانيات”.

الهجوم الفجائي أحدث ارتباكاً أولياً في الساحة، حيث ظن المعتصمون في الطرف الآخر من الساحة أن النيران المشتعلة هي لخيام المعتصمين وأن المسلحي اقتحموا الساحة وبدأوا بإحراق خيامهم، فهب عدد كبير منهم للتصدي للاقتحام المفترض، وهكذا تجمع الكثيرون أمام الجدار وتعرضوا للقنص والقتل من قبل المسلحين فوق الأسطح.

* ساعات مريرة يتبعها نصر كبير

عاش المعتصمون الذين كانوا بالقرب من الجدار أو الذين كانوا في الجهة الأخرى وقتاً مريراً، وهم يشاهدون رفاقهم يتساقطون واحداً بعد الآخر. مرت ثلاث ساعات كاملة من القتل المستمر وبلا هوادة للمعتصمين، قبل أن يتمكن الثوار من قلب المعادلة وتحطيم الجدار بأيديهم.

كانت تلك لحظة حاسمة، إذ هب بعدها جميع الثائرين خارج أسوار الساحة باتجاه المباني التي كان المسلحون يعتلونها. أثار الطوفان فزعهم وبدأوا بإطلاق الرصاص باتجاه الثائرين في محاولة لإرجاعهم أو إيقافهم لكن طوفان الثورة وهجم شباب الثورة على المسلحين في متارسهم.

يصف ثائر ذلك المشهد قائلاً: “كانت أعظم لحظة عشتها في حياتي.. شباب عزل لا يحملون سلاحاً يندفعون للموت دون أن يرف لهم جفن. وقفوا على أعتاب البيوت فيما يعتلي المسلحون أسطحها. كانوا يصبون الرصاص عليهم من فوق رؤوسهم ويمعنون في القتل دون جدوى. اقتحمنا جميع المنازل واعتقلنا القتلة الذي انتهت ذخيرتهم بعد أن أمعنوا فينا القتل”.

 

* بعد انقشاع المذبحة

شكلت تلك المجزرة لحظة فارقة في عمر الثورة اليمنية، حيث اتسعت رقعة الساحة وامتدت مئات المترات جنوباً حتى وصلت أسوار جامعة صنعاء القديمة.

تعرّض النظام الحاكم لضربة قاتلة لم يتعافّ بعدها، حيث أعلن المئات من أهم وأبرز القيادات السياسية والعسكرية، وعلى رأسهم الجنرال علي محسن الأحمر، انضمامهم لصفوف الثورة.

بملامح رثة ووجه شاحب ومنكسر ظهر صالح للإعلام مساء ذلك اليوم. أنكر مسئوليته عن الحادثة وأعلن حالة الطوارئ وإقالة الحكومة.

أشارت هيومن رايتس ووتش إلى وجود مؤشرات على أن عددا من كبار المسؤولين في نظام صالح لعبوا دوراً في المذبحة ثم لم يتم اتهامهم بشيء. بدأت محاكمة ضد القتلة المزعومين في سبتمبر 2012 لكن توقفت بعد أن طلب محامو الضحايا اتهام بعض كبار المسؤولين. هذا فضلاً عن قيام الرئيس السابق صالح بإنهاء عمل النائب العام حينها عبد الله العلفي بعد ستة أسابيع من أعمال القتل، عندما طلب العلفي إحالة المشتبه بهم الأساسيين إلى الاستجواب.

سقط في المجزرة أكثر من ستين شهيداً وتعرض نحو 200 لإصابات متفاوتة، كانت معظمها في الرأس والبطن.

لغزارة الدماء التي سفكت قبالة الجدار تكونت بركة كبيرة من الدم هناك، حوّطها المتظاهرون بالأحجار وأنشأوا جوارها نصباً تذكارياً مكللاً بالورود ولوحة كبيرة حوت صورة لشهداء يوم الكرامة.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام الموقع ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، ولتحليل حركة الزيارات لدينا.. المزيد
Accept