من بين أكبر معضلات السياسة الخارجية التي واجهها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، ثمَّة واحدة لم يسبق أن نُشِرت علناً، غير أنَّها تكتسب أهميةً جديدة الآن. تتعلَّق هذه المعضلة بالحرب النووية، وكيف ستتمكَّن الحكومة الأميركية من النجاة منها. تبقى قرارات كارتر سريةً، لكنَّ وثائق رَفعت وكالةُ الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) السريةَ عنها مؤخراً، بالإضافة إلى أرشيف عدد من المكتبات الرئاسية، تُعطينا نافذةً جديدة على استعدادات البيت الأبيض لنهايةٍ وشيكةٍ للعالم.
اليوم، يمكن أن تُطلق أيٌّ من عدة دول نووية شرارةَ مثل هذه النهاية، بما في ذلك كوريا الشمالية وباكستان. أثناء مدة رئاسة كارتر، كانت تلك المخاوف تتركَّز مباشرةً على الاتحاد السوفيتي. وكانت تلك هي الحقبة التي بدأ فيها المُخطِّطون العسكريون في كلٍّ من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة التعامل مع ما كان لا يزال حتى ذلك الحين هرطقةً لا يمكن تصوُّرها: التخلّي عن استراتيجية الدمار المؤكَّد المتبادل التي حكمت النظام الدولي منذ الخمسينات والاستعداد للنجاة من حربٍ نووية شاملة، وفق مجلة فورين بوليسي.
وكان كارتر وإدارته مهتمين بأسئلةٍ أكثر تحديداً. فإذا ما تمكَّنت الرئاسة من النجاة بعد حربٍ نووية، فما الذي ستفعله تحديداً بعد ذلك؟ وكيف يمكن التثبُّت من نجاة القائد العام للجيش (الرئيس)؟ ومَن الذي سيتعرَّف عليه؟ وكيف سنفي بالمهام الرئيسية الثلاث لمؤسسة الرئاسة: أن يكون أعلى سلطة تنفيذية في الحكومة، ورأس الدولة، والقائد العام لقواتها المسلحة؟
خطة بتوجيه رئاسي
جاءت إجابات كارتر في صورة التوجيه الرئاسي 58، الذي أُصدِر في الأشهر الأخيرة لرئاسته، وعدَّل رونالد ريغان تلك الخُطط بتوجيهه الرئاسي عام 1983. وتشير محتوياتها إلى استمرار الخطط الحكومية التي لا تزال سارية على إدارة ترامب. وكانت تلك الخطط هدفاً لبرامج محاكاة بمليارات الدولارات، وعامل جذبٍ لمُنظِّري المؤامرة من مختلف أنحاء العالم.
وفيما يلي لمحة عن الكيفية التي طوَّرت بها الحكومة الأميركية بعضاً من أكثر أسرار الأمن القومي التي اجتهدت في إبقائها سراً، وكيف يمكن لإدارة ترامب، أو أيٍّ من خلفائها الاعتماد عليها للنجاة من نهاية العالم كما نعرفه.
حينما تولّى كارتر الرئاسة، كان للاتحاد السوفيتي السبق في التحضير للحرب النووية. فكان لديه برنامج عالي التكلفة للتأهُّب المدني؛ ومئات، أو ربما الآلاف، من المخابئ تحت الأرض، إلى جانب استمرارية واسعة النطاق للبرامج الحكومية.
من جانبها، كان لدى الولايات المتحدة راي ديربي. أصبح ديربي، المولود عام 1935 في ولاية أيوا، أحد الخبراء البارزين في الاستعداد للطوارئ والاستجابة للكوارث بوزارة الدفاع. قاد ديربي تدريبات إجلاء المدنيين في أوروبا في دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ودرَّب المُدرِّبين الذين قيَّموا قدرة كل وحدةٍ على امتصاص الهجوم وتحمُّله.
في الولايات المتحدة، قاد العديد من فرق العمل الحكومية المختصة بالدفاع المدني أثناء الحوادث الكيميائية والبيولوجية والنووية. ووضع كذلك الخطة المعيارية التي ستتّبعها القواعد النووية الأميركية عند وقوع كارثة. وبحلول وقت تنصيب كارتر عام 1977، كان ديربي مسؤولاً عن التدريب والعمليات في مكتب عمليات ويست فرجينيا في وكالة التأهُّب الفيدرالية التابعة لإدارة الخدمات العامة (التي أصبحت الآن جزءاً من الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ).
المخابئ المحصنة تحت الأرض
في ذلك الوقت، دعت الخطة الفيدرالية الرئيسية للكوارث الكبرى، مثل الحرب النووية– خطة الطوارئ الفيدرالية D- كافة الوكالات الفيدرالية لتصميم مرافقها الخاصة المُحصَّنة تحت الأرض، وتطويرها، وبنائها. وفي حالة الطوارئ، ستُدار الحكومة من المخابئ. ولم تأخذ معظم الوكالات هذه المسؤولية على محمل الجد.
وكلَّفت وكالة التأهُّب الفيدرالية ديربي بتقييم تنفيذ الخطة D. وكان أول شيء لاحظه هو أنَّ الوكالات كانت نادراً ما تدرس خططها، في حال درستها من الأساس. ولم تضع سوى قِلّةٍ فقط من تلك الوكالات شروطاً لتحافظ على السجلات فائقة الأهمية، وحتى القوانين، والتشريعات، والتوجيهات التي استخدمتها الوكالات في أعمالها اليومية. ولم يعرف الكثير من مُوظَّفي الوكالة حتى ما إذا كانوا جزءاً من الفرق التي كان يُفتَرَض أن يجري إجلاؤها حال وقوع كارثة.
كانت تلك الإخفاقات نتاج التجاهل المنهجي منذ بزوغ فجر العصر النووي. وباستثناء الازدهار القصير بعد أزمة الصواريخ الكوبية، التي بُنيت فيها ستة مراكز انتقال حكومية في أنحاء البلاد، لم تتعامل الولايات المتحدة مع مسألة الدفاع المدني كجزءٍ من استراتيجيتها في الردع. وأثبتت الحكومة الفيدرالية حرصها على إنفاق المال على تطوير الأسلحة، وليس لحماية السكان أو مساعدتهم على النجاة من هجومٍ نووي. وفي السبعينات تخلَّت العديد من الوكالات الفيدرالية عن التخطيط لعمليات ما بعد الكوارث، مُفترِضةً أنَّ المؤسسات الفيدرالية المختلفة التي حملت لفظ “التأهُّب” أو “التعبئة” في تسمياتها كانت تهتم بتلك المسألة.
كان ديربي يعتقد أنَّ المشكلة كانت أكبر من مجرد التمويل. وقال الأميركيون في استطلاعاتٍ للرأي إنَّهم يريدون برنامج دفاعٍ مدنياً. لكنَّهم عاشوا في سلامٍ ولم يهتموا بتطوير البرنامج. وربما افترضوا أنَّ برنامجاً كبيراً كان موجوداً في مكانٍ ما وجاهزاً للاستخدام حال وقع هجومٍ سوفييتي. وبحلول السبعينات، أفسحت سنوات “الانحناء والاختباء” المجالَ أمام نغمات الانفراج السائغة. ولم تكن هناك حاجة مُلحّة. ولم يكن الرؤساء يُصرّون على تطوير أي برنامجٍ للدفاع المدني.
كان هناك تعقيدٌ آخر: فمن أجل إنقاذ البلاد بفاعلية خلال حربٍ نووية، كان على الجيش أن يتجاوز أحد خطوطه الحمراء عن طريق المشاركة في الأمن الداخلي. وبعد الحرب النووية سيكون في حكم المؤكَّد تقريباً إعلان الأحكام العُرفية، وسيُمنَح الجيش سلطاتٍ استثنائية لإدارة عملية توزيع الموارد. لكنَّ الحكومة تفترض كذلك أنَّه ستكون هناك حاجة إلى نوعٍ ما من الأحكام العُرفية قبل البدء الفعلي للحرب. وبمجرد أن اعتقدت الحكومة أنَّ الحرب قد تكون وشيكة، خطَّطت لنقل أجزاء كبيرة من السكان، لا سيَّما أولئك الذين يعيشون بالقرب من أهداف عسكرية استراتيجية مهمة، وعرف صانعو السياسات أنَّ هذا قد يتطلَّب درجةً من الإجبار، أو حتى القوة. ولم يرغب الجيش في الحديث عن هذا السيناريو، وكذلك الساسة. ولذلك وُضِعَت الخُطط سراً وحُظِر إطلاع الجمهور عليها، ما كفل درجةً أقل من الشفافية والمساءلة الشعبية.
أين يختفي كبار المسؤولين
وماذا عن أعضاء الحكومة أنفسهم؟ عند وجود حالةٍ طارئة، أو تغيير في حالة الاستعداد الدفاعي، ستأمر هيئة الأركان المشتركة بنقل 60 مسؤولاً إلى مواقع انتقال رئيسية.
وشغَّلت الحكومة ما يُسمَّى بمنشأةٍ خاصة أعلى جبل ماونت ويذر في بلدة بيريفيل بولاية فرجينيا، حيث سينجو كادر من كبار مسؤولي السلطة التنفيذية من أي حربٍ نووية محتملة. وكانت هناك مواقع انتقال احتياطية أخرى بالقرب من بلدة هاغرستاون بولاية ميريلاند، ومدينة مارتنسبرغ بولاية ويست فرجينيا، وبلدة فرونت رويال بولاية فرجينيا، بالقرب من منشأةٍ يُفتَرَض أن تتشكَّل فيها وزارة الدفاع من جديد. وسيُخبَّأ آخرون في الكليات داخل أو قرب حزام العاصمة واشنطن.
غير أنَّ الجيش وسلاح الجو يمتلكان مروحياتٍ تكفي فقط لنقل نحو ثلث المسؤولين الذين ستكون هناك حاجة لنقلهم، هذا بافتراض أنَّ النقل فوق سطح الأرض سيكون ممكناً. (ودعتهم التعليمات إلى شَق طريقهم إلى هناك بطريقةٍ أخرى غير مُحدَّدة في حال كانت المروحيات غير مُتاحة). أمَّا فيما يتعلَّق بأي قادةٍ أميركيين كبار قد يتمكَّنون من الوصول إلى ماونت ويذر، فإنَّ قدرتهم على التواصل مع الوكالات الفيدرالية، والحكومات الأخرى، والشعب الأميركي ستكون موضع شك، في أحسن الأحوال، لأسبابٍ ليس أقلها أنَّ المواقع عموماً ستكون مُزوَّدة بالحد الأدنى من المُوظَّفين.
واستنكر العديد من السياسيين الإشارات إلى أنَّهم يُحضرون للحرب أو فكرة أنَّهم سيُخفون أنفسهم طوعاً في مخابئ سرية بعيداً عن الشعب وعن عائلاتهم. (كان دك تشيني، عضو الكونغرس في السبعينات، أحد هؤلاء المُشكِّكين). وكان الافتراض داخل الحكومة الأميركية هو أنَّ السوفييت يعرفون كل شيء على أي حال. حتى إنَّهم قد اشتروا أراضي في قاعدة ماونت ويذر فقط لمراقبة مُوظَّفي الطوارئ المُقبلين والذاهبين. فإذا كانت نهاية العالم مُقبِلة، فستكون محاولة الاحتماء منها مهمةً حمقاء.
معدل الإنفاق العسكري في عهد كارتر
بحلول الوقت الذي أصبح جيمي كارتر فيه رئيساً، كانت البلاد تنفق أقل من 100 مليون دولار سنوياً على الدفاع المدني، مقارنةً بأكثر من 30 مليار دولار سنوياً لتحديث أسلحتها النووية. وحدَّد الكونغرس قيمة برنامج مُوحَّد للدفاع المدني، لكنَّه لم يفعل الكثير ليُموِّله.
وأصبح كارتر هو أول رئيسٍ منذ جون كينيدي يولي اهتماماً كبيراً لهذه المسألة. ففي سبتمبر/أيلول 1978، أعلن أنَّ الدفاع المدني كان جزءاً من الردع الاستراتيجي للبلاد، لأنَّ السكان، أو الحكومة المُعرَّضين لهجومٍ نووي سيكونون أكثر عُرضةً للتأثُّر والخضوع للتهديدات بأي هجوم. وذكر قرارٌ توجيهي رئاسي قصير، كان سريَّاً في هذا الوقت، المضمون السابق نفسه، ولم يضف إليه سوى القليل.
وارتفعت ميزانية الدفاع المدني الأميركية بشكلٍ متواضع في البداية. لكنَّ سلسلةً من الدراسات أشارت إلى مدى الضعف الذي أصبح عليه نظام الدفاع المدني في البلاد. فكانت الملاجئ النووية التي بُنيَت في الخمسينات قد عفى عليها الزمن وكانت بحاجةٍ إلى تجديدها أو استبدالها. وجرى تجاهل القرارات التنفيذية التي تسند المهام إلى وكالات المختلفة على نطاقٍ واسع. ولم تكن هناك أية تدابير فيدرالية لإجلاء عدد كبير من السكان، وهو ما يُعَد المحور الرئيسي لأي برنامج دفاعٍ مدني. وتجاهلت التدريبات العسكرية هذا السيناريو الافتراضي. كما مهَّدت تلك الدراسات الطريق لسياسةٍ جديدة كلياً.
نجاة 80% من البلاد
وعلى إثر اعتراضات وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، وافق كارتر في النهاية على توحيد برامج الدفاع المدني والاستمرارية الحكومية في وكالةٍ واحدة، ووضع هدف طموح. فخلال حربٍ نووية شاملة، ستهدف الحكومة إلى نجاة 80% من البلاد، ويجب عليها أن تتجهَّز لفعل ذلك بميزانيةٍ أقل من 250 مليون دولار سنوياً.
وفي التاسع عشر من يونيو/حزيران 1979، خرجت الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ إلى حيز الوجود. وزاد كارتر أهمية مدير الوكالة، فأسند إلى كلٍّ من مجلس الأمن القومي والبنتاغون مهمة الإشراف على الاستعداد المدني. وأصبح الآن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومي، والسياسة النووية الاستراتيجية. فقد ذكرت إحدى المُذكِّرات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية أنَّ “التخطيط عبر الهجوم”، أي الكيفية التي يمكن للرئاسة أن تعمل بها خلال حربٍ نووية، أصبحت الآن جزءاً من استراتيجية الأمن القومي.
وكان ذلك بمثابة موسيقى جميلة بالنسبة لرأي ديربي. إذ من شأن الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ أن تتولّى مسؤولية برنامج الاستمرارية الحكومية التابع لوكالة التأهُّب الفيدرالية، وهو البرنامج الذي كان ديربي يعمل عليه، غير أنَّ الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ ستُكلّفه بتولّى الزمام في منشأة ماونت ويذر، الأمر الذي يجعل منه، وفي كافة الجوانب تقريباً، رئيساً لها. وسيزيد ذلك من سرّيتها، وكذلك ميزانيتها وبصمتها. وستكون مسؤولةً عن القائمة الرسمية لبنود النجاة، وهو مخزون الموارد اللازمة لإعادة بناء الحكومة بعد الحرب النووية.
وفي الوقت نفسه، كان البيت الأبيض يُركِّز على التحدّي الأصعب، ألا وهو توفير آليةٍ لخلفاء الرئاسة تسمح لهم بإصدار قرارت الحرب النووية خلال تبادلٍ للضربات النووية وبعد حدوثها. وفي مرحلةٍ مبكرة من رئاسة كارتر، عقد مدير المكتب العسكري للبيت الأبيض، هيو كارتر، مجموعة عملٍ صغيرة لمراجعة خطة طوارئ البيت الأبيض، الوثيقة فائقة السرية التي تُحدِّد الطريقة التي سيُجلي بها جهاز الخدمة السرية الرئيس، والكيفية التي سيُثبِّت بها المكتب العسكري للبيت الأبيض خلفاء الرئيس حال مقتله.
وورد المُخطَّط الأساسي ضمن سلسلةٍ من وثائق العمل الرئاسية الطارئة، التي راجعها ونقَّحها الكولونيل بيل أودوم، المساعد العسكري لمستشار الأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي. ووجد أودوم، كما كتب في إحدى المُذكِّرات، أنَّ التدابير المُقترحة تعاني بوضوحٍ من قصورٍ في كلٍّ من الخيال والاتصال بالواقع.
وأشارت مُذكِّرةٌ للبيت الأبيض إلى أنَّ الاتصالات اليومية بين البنتاغون ومنشآت الطوارئ الرئاسية في ماونت ويذر، وكامب ديفيد، والبيت الأبيض كانت “مُرضيةً” في ظل الظروف العادية. لكن في حالة الاضطرابات المدنية، أو “التخريب العشوائي”، كان واضحاً أنَّ هذا الرضا لن يكون كافياً. وفي حالة وقوع حربٍ تقليدية أو نووية، تقرَّر أنَّ المنشآت ستوفر “القليل من الحماية”، وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ أي ناجين سيختبئون هناك على الأرجح لن يبقوا على قيد الحياة طويلاً قبل استهدافهم.
وهذا يعني عملياً أنَّ المواقع الثابتة للقيادة لن تؤدي دورها المطلوب. وكان الموقع المُتنقِّل للقيادة أحد الخيارات النظرية. غير أنَّ البيت الأبيض لا يمكنه الاعتماد على وضع الرئيس أو خليفته في طائرة هروبٍ للطوارئ أثناء هجومٍ نوويٍ مفاجئ. وحتى لو نجحوا في القيام بذلك، كان من المستحيل معرفة ماهية الطاقم الذي سيكون حوله.
“حقائب طوارئ رئاسية”
وفي الوقت نفسه، ولأنَّ كارتر ونائبه والتر موندال كانا هما فقط من يمتلكان “حقائب طوارئ رئاسية”، وهي كرات القدم النووية الشهيرة التي تُحدِّد هُويتهما كقائدين عامين للجيش، (كرة القدم، وحقيبة الطوارئ، والزر، والصندوق الأسود تُعَد جميعها تسميات مختلفة للحقائب النووية التي تحوي ملفات مُشفَّرة تسمح للرئيس بإصدار الأوامر بإطلاق هجومٍ نووي)، سيتعرَّض نظام السيطرة والتحكُّم النووي للبلاد لخطر التوقُّف في حال أصبح كلا الرجلين غير قادرٍ على القيام بمهامه أو قُتِلا، إلا إذا كانت هناك طرق أخرى لتحديد الخلفاء الرئاسيين للجيش.
وتمثَّل الحل الأساسي الذي قدَّمه المكتب العسكري للبيت الأبيض في أسماء يعلنها من ينوب عنهما. وبالتالي إذا وجد رئيس مجلس النواب توماس أونيل الابن نفسه هو الخليفة الوحيد المُتبقّي للرئيس، فإنَّ كل ما سيحتاجه للسيطرة بصورةٍ كاملة على الحكومة وترسانتها النووية هو أن يُقدِّم إثباتاً صوتياً لهُويته باستخدام المصطلح “FLAG DAY” أو يوم العَلَم إلى ضابِط الطوارئ الناجي في مركز قيادة البنتاغون.
في الحقيقة، سيحاول ضابط الطوارئ في البنتاغون التأكُّد من أنَّ الشخص الذي نجا يقول الحقيقة فعلاً، وأنَّه هو خليفة الرئيس. لكن إذا كانت الصواريخ السوفييتية في طريقها، فإنَّ مُصمِّمي هذا النظام الهَشّ لم يكن لديهم أدنى شك في أنَّ الاختصارات ستُستخدَم، وذلك في ظل وجود مخاطر لا تُحصى تُحيط بكفاءة الاستجابة العسكرية للبلاد وأمنها الأساسي.
وعلى ضوء هذه التحديات، حاولت فرقة العمل التابعة للبيت الأبيض التوصُّل إلى فكرةٍ أكثر مرونةً وأقل مركزية تهدف إلى نجاة الحكومة. وفي تعريف الاستمرارية الرئاسية، وجدت فرقة العمل نفسها تعود إلى ثلاثة مصطلحات مركزية، إن لم تكن بالتأكيد بيروقراطية: القدرة على النجاة (فكان على الرئيس وفريق الدعم الأساسي له أن يبتعدوا عن الحرب)، والقدرة على الاتصال (فكان عليهم أن يتواصلوا مع بعضهم البعض، ومع بلدهم، ومع رؤساء البلدان الأخرى)، والقدرة على تقديم الدعم (فالناس بحاجةٍ إلى أناسٍ آخرين في مكانٍ آخر من البلاد لمساعدتهم).
وقاد ذلك إلى توصيةٍ رئيسية: ستوضع خمسة “أُطُر مشتركة بين الوكالات” يضم كلٌّ منها 50 شخصاً، أو يتم نشرها بصورةٍ مسبقة أثناء حالات الطوارئ لدعم الخلفاء الرئاسيين المُحتملين. وستنتشر “فرق دعم الخلفاء الرئاسيين” تلك، التي يُطلِق عليها البنتاغون اسم أُطر تريتوب، بصورةٍ عشوائية في أيِّ موقعٍ من “البضع مئاتٍ من المواقع، ألفين أو ثلاثة ربما، التي سيجري اختيارها مسبقاً”، ما يسمح بإعادة توطين المعرفة المؤسسية التي كانت “مرنة ومُتكيِّفة للغاية”.
وقد وضع فريق أودوم قائمةً باحتياجات تلك الفرق. وكان أول ما سيقوم به فريقٌ منتشر هو تحديد وتثبيت الرئيس الفعلي– أي الرئيس الذي حانت خلافته وفق ترتيب الخلافة. ولا تزال تفاصيل النظام الذي وضعوه سريةً للغاية، لكن كما قيِل لي، فقد احتوت على ما قد يكون أول مثالٍ على “رقائق التتبُّع” المُثبَّتة في بطاقات الخلفاء الرئاسيين، التي يمكن تقويتها بمُكرِّرات التردُّدات الراديوية.
وستُلتَقَط الإشارات بواسطة الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ ومركز القيادة العسكرية الوطنية. كما سيجري وضع وتعقُّب تكنولوجيا حسَّاسة أخرى ستُوزَّع لمساعدة الرؤساء المُحتملين، وهو ما قد يُوفِّر طبقةً من الحماية ضد الانتحال. (ومع ذلك، تعثَّرت الخطة بسبب عدم توفُّر التكنولوجيا اللازمة لإنجاحها. وحتَّى مدة حكم جورج بوش الابن، لم تكُن الحكومة تستطيع تتبُّع بعض الخلفاء الرئاسيين إلكترونياً (عبر الأقمار الصناعية وأنظمة الهواتف الخلوية) وبطريقة تتبُّع المواقع سلبياً (Passive tracking – أي بتخزين بيانات الموقع ثم إرسالها بصورة دورية).
وثانياً: سيكون على كل فريقٍ، بمفرده، أن يساعد خليفة الرئيس على القيام بثلاث مهام رئاسية رئيسية: القائد الأعلى للجيش، وقيادة الدولة، وقيادة السلطة التنفيذية. وسيكون على الفريق أن يتواصل مع الفرق الأخرى المُنتشِرة التي نجت وتُعرِّف عن نفسها بطريقةٍ آمنة. وسيكون عليه أن يتلقّى معلوماتٍ استخباراتية وتقييماتٍ بالأضرار. وسيتعين عليه كذلك أن يبدأ في التواصل مع حكومات الولايات والحكومات المحلية الأخرى. وفوق ذلك، سيكون على الـ50 شخصاً في كل فريقٍ أن يستعدوا للعمل كسلطةٍ تنفيذية قائمة بذاتها دون مساعدةٍ خارجية لمدة 6 أشهر على الأقل.
تقدَّمت مراجعة أدوميم ببطء. وطُلِب من الوكالات أن تبحث ما إذا كان بإمكانها تنفيذ سلسلةٍ من القرارات التنفيذية السرية. تبقى تلك القرارات سرية حتى اليوم، غير أنَّ بعض الوثائق العامة تُقدِّم بعضاً من المعلومات. فقد أصدرت إدارة كارتر في النهاية 29 وثيقة عملٍ رئاسيةٍ طارئة. تعاملت وثيقة العمل الرئاسية الطارئة الثانية مع إعادة تشكيل الكونغرس، وهي المسألة المثيرة للقلق بالنسبة للسلطة التنفيذية، ناهيك عن ذكرها في المراسلات العلنية. وجاءت الوثيقة الخامسة بعنوان “التحضير لتعبئة موارد الأمة”. وتعاملت الوثيقة السادسة مع استدعاء قوة طوارئ مدنية احتياطية.
رابطة اللبلاب
كيف سيُعاد تشكيل الكونغرس؟ ما الموارد التي سيجري تعبئتها؟ من سيُجنَّد؟ ما زلنا لا نعلم.
لكنَّنا نعلم ذلك. حينما دخل توجيه كارتر بتشفير تلك التغييرات حيز التنفيذ في أواخر الثمانينيات، أقامت وكالة الاستخبارات المركزية وكالتها السرية، مكتب الاستخبارات الوطنية لدعم الطوارئ، الذي سيكون مقره في فرجينيا، ويتلقّى المعلومات من كافة مديري وكالة الاستخبارات المركزية، وينشر فرق دعمٍ للخلفاء الرئاسيين يتكون كلٌّ منها من 3 أفراد يكونون في مواقع فرق دعم الخلفاء الرئاسيين في أية لحظة.
ونعلم أيضاً، من وثائق الموازنة، أنَّ الوكالات قد بدأت في طلب المزيد من الأموال لتمويل فرق دعم الخلفاء الرئاسيين. ونعلم أنَّ البنتاغون قد بدأ في اختبار مراكز قيادة متنقِّلة حصينة. ونعلم أنَّ القوات الجوية قد وضعت خططاً لإضافة عرض نطاقٍ تردُّدي كهرومغناطيسي مُخصَّصٍ لاستمرارية الحكومة إلى أقمارها الاصطناعية الحديثة. ونعلم أنَّ خليفةً رئاسياً معيناً سيبدأ إحضاره إلى ماونت ويذر خلال فعاليات تجمع كافة أفرع الحكومة معاً، مثل خطاب حالة الاتحاد.
ونعلم كذلك أنَّ ريغان وجد أنَّ النظام غير كافٍ. وقد أُطلِع عليه قبل رئاسته، غير أنَّ مشاركته في التدريبات العسكرية التي حملت اسم رابطة اللبلاب (Ivy League) في عام 1982 قد أقنعته بأنَّ رئاسةً ناجية لن يمكن الدفاع عنها، وأنَّ هذا يُمثِّل فجوةً كبيرة في دفاعات البلاد. وأُقنِع ريغان من قِبَل توماس ريد، أحد كبار مساعديه، رفقة أوليفر نورث، أحد ضُبَّاط مشاة البحرية الذي أُضيف إلى مجلس الأمن القومي، بالسماح بإدخال بعض التعديلات على نظام كارتر، بدلاً من التخلّي عنه.
وبالتقدُّم بالزمن إلى الأمام 35 سنة. ضمَّت روسيا القرم بالقوة، ويشعر حلف الناتو الذي يعاني نقصاً في الموارد بالقلق من إمكانية أن يدفع غزوٌ من جانب روسيا لدول البلطيق الحلف إلى حافة الحرب. وتشعر الولايات المتحدة بالقلق من أن تكون كوريا الشمالية على وشك إضافة الرؤوس النووية إلى الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، التي بإمكانها الوصول إلى مناطق داخل الولايات المتحدة.
ولا يزال بالإمكان استدراج الرئيس ترامب بالتغريدات، فقد لجأ إلى القوة العسكرية ضد دولة ذات سيادة مدعومة من روسيا، بعد مشاهدته صوراً مُتلفزة لأطفال يموتون جرَّاء التعرُّض لغاز السارين، وتحدَّث عن بناء ترسانةٍ نووية أكبر (وليس مجرد ترسانةٍ أفضل)، ولم يُظهِر إلى الآن الحالة المزاجية التي تجعله يتعامل مع أزمةٍ بكياسة.
لقد تطوَّرت خطط النجاة في حالات الطوارئ منذ حقبة جيمي كارتر. ويمكننا أن نفترض بحذرٍ أنَّ الخلفاء الرئاسيين سيتم التوثُّق من هويتهم بشيءٍ أكبر من مجرد اسمٍ رمزي يُنطَق به بصوتٍ خافت. غير أنَّ التهديدات التي قد تدفع إلى استخدامها لا تزال أقرب مما كُنّا نأمل جميعاً.