في كامبالا تطالعنا الإعلانات على شاشات التلفاز وصفحات الإنترنت: شركات عديدة بعضها ترتبط أسماؤها بدلالات جغرافية حول أماكن نشاطاتها مثل “ميدل إيست كونسالتانت”، أما في شوارع العاصمة ومقاهيها فسوف يكون بإمكاننا اليوم بسهولة أن نميز الوجوه المألوفة لمندوبي شركات المقاولات العسكرية، يتجولون لالتقاط الشباب الأصحاء من ذوي البنية الجسدية القوية من أجل إرسالهم للعمل برواتب ضخمة على سواحل الخليج في دبي وأبوظبي.
أثناء حرب العراق، صنع مقاتلو البلاد لأنفسهم سمعة كبيرة ما جعلهم محط أنظار الزبائن العرب الأثرياء -الذين لا يحبون الظهور بأنفسهم على كل حال-، بيد أن ديفيد تومويسيغي على وجه التحديد كان أسوأ حظا من الكثير من رفاقه(1)، فرغم خبرته الطويلة كجندي أجير عمل في العراق لفترتين ما بين عامي 2008 و2013، ورغم أنه يتمتع بشهادة من مركز الملك عبد الله الثاني في الأردن للتدريب على العمليات الخاصة ضمن دورة تدريبية حصل عليها حين كان يعمل لصالح شركة “ساراسن إنترناشونال” عام 2011 فإنه كان مضطرا للركض من جديد في شوارع كامبالا بحثا عن وظيفة مطلع العام الماضي 2016، حيث تلقفته شركة “روند أوف إنترناشيونال”، ومنحته وظيفة ضمن قوة قوامها 300 أوغندي يعملون في مهمة غير معتادة لصالح دولة الإمارات العربية المتحدة، ليس في دبي أو أبوظبي كما هو متوقع، ولكن في الصومالحيث يتولون مهمة حراسة سفارة البلاد في العاصمة مقديشيو، وحيث يبدأ أول فصول حكاية جديدة من الحكايا المظلمة للإمارات، “إسبرطة الصغيرة” على ضفاف الخليج.
حين نتحدث عن عوالم المرتزقة ينبغي علينا أن نتكيف مع الطباع الخاصة لعالم يعد الغموض قاعدته الأساسية، حيث الكثير من الإشارات المتناثرة وأقل القليل من السياقات المكتملة، ولكن جميع الخيوط في حكاية اليوم تلتقي عند نقطة واحدة: شركة ذات أصول جنوب أفريقية تدعى “ساراسن إنترناشونال”(2)، تعمل في مجال تزويد الخدمات الأمنية، وتأسست على يد لافراس لواتينغ الضابط السابق في مكتب التعاون المدني(3)، وهي وحدة سيئة السمعة يعود تاريخها إلى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكان يتم توظيفها من قبل حكومة الأقلية البيضاء لتعقب المعارضين، وعندما تم تسريح وكلائه بعد التخلص من النظام العنصري فإن أغلبهم سارعوا للعمل كمرتزقة أمنيين مدفوعي الأجر.
تتشارك “ساراسن” سمت الغموض المألوف لعالم المرتزقة، ويعتقد أن الشركة المجهولة نشأت على أنقاض شركة “إكسيكوتيف أوتكمس” (Executive outcomes)، وهي أول شركة مرتزقة في العالم أسسها إيبين بارلو(4)، جنرال بريطاني الأصل كان يعمل بدوره لدى مكتب التعاون المدني في جنوب أفريقيا.
منذ مطلع التسعينيات، لعبت “إكسكوتيف أوتكمس” العديد من الأدوار المشبوهة في مساندة الأنظمة القمعية إبان الحروب الأهلية في أنغولا وسيراليون، كما تورطت في فضائح سياسية أشهرها فضيحة ساند لاين في غينيا بابوا والمتسببة في حل الشركة عام 1997، حل لم يمنع وكلاءها لاحقا من المشاركة في العديد من العمليات، أبرزها عام 2004 حين قادوا محاولة فاشلة للإطاحة برئيس غينيا الاستوائية تيودورو أومبيانع، قبل أن تعاود الشركة هيكلة نفسها من جديد في ثوب “ساراسن إنترناشونال” أواخر العقد الماضي. وللمفارقة -غير العبثية على الأغلب- فإن أكثر فروع “ساراسن” نشاطا يقع اليوم في كامبالا، وهو الفرع المدار اليوم من قبل الجنرال المتقاعد سليم صالح، الأخ غير الشقيق لرئيس أوغندا يوري موسيفيني، والذي قام بصحبة غيره من الضباط الأوغنديين بتدريب المتمردين به عسكريا في الكونغو، واستغلال العلاقة معهم من أجل نهب كميات ضخمة من الماس والذهب والأخشاب.
تمتلك “ساراسن” اليوم فرعا اسميا في دولة الإمارات العربية المتحدة(5)، وفي حين لا يُعرف بالتحديد كيف بدأت العلاقة بين الطرفين فإن ما يعرفه الجميع اليوم هو هوية العراب الذي لعب دور الوسيط في هذه العلاقة، ففي الوقت نفسه الذي كانت “ساراسن” تخرج فيه من جديد إلى دائرة الضوء، كان إريك برنس -الاسم الأبرز في عالم المرتزقة- قد استقر به المقام في أبوظبي حيث أقام علاقات وثيقة مع الحكومة الإماراتية، بعد أن اضطر لتصفية أعماله القديمة في شركة “بلاك ووتر” في ظل الدعوات القضائية التي لاحقته بعد الكشف عن الأنشطة الإجرامية التي قامت بها الشركة إبان الغزو الأميركي للعراق.
كان برنس يبحث عن تجديد أنشطته بعد فترة من البطالة خلال حقبة ما بعد العراق، وكذا كان المرتزقة العائدون الذين باتوا يجوبون شوارع أفريقيا في ظل فترة من الكساد النسبي لسوق المرتزقة مدفوعي الأجر. في تلك الأجواء، برز العميل الجديد للساحة لتكتمل أضلاع المثلث الغامض، وبحلول نهاية عام 2010 كان برنس قد ظهر فجأة في الصومال، حيث أبرم عقدا غامضا مع “ساراسن إنترناشيونال” تقوم بموجبه بتدريب 2000 من القوات الصومالية الموالية للحكومة في البلاد، بينما يتم دفع الفاتورة كاملة من قبل العميل الثري الجديد أبوظبي.
لا يعد العمل في الصومال أمرا سهلا، حتى بمعايير المرتزقة الذين اعتادوا العمل في أسوأ الأجواء في قندهار والبصرةوبغداد(6)، وهنا بالتحديد تقع المنطقة التي تهربت أعتى جيوش العالم من العمل فيها منذ الانسحاب الأميركي المهين من مقديشيو في أوائل التسعينيات، حيث حكومة تعمل بالكاد، وفصائل معادية للجيوش الأجنبية، ومجموعة على علاقةبتنظيم القاعدة تواصل فرض حصارها على الحكومة الضعيفة.
لكن العقد كان مغريا للعمل في تلك الأجواء القاسية: 50 مليون دولار كما تشير التقديرات(7)، دفعتها أبوظبي كاملة تحت بند “تمويل جهود الحكومة الصومالية في مكافحة القرصنة قبالة سواحلها”، مع برنامج خاص مشابه لجمهورية بونتلاند شبه المستقلة شمال الصومال، لتدريب قوة بحرية قوامها 1000 مقاتل تتمركز في ميناء بوساسو للغرض ذاته(8). في ذلك التوقيت كان ميناء عدن اليمني المقابل يجري تشغيله من قبل شركة “موانئ دبي العالمية”، وهو عقد التشغيل المنهي بعد أشهر من الإطاحة بالرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح. ومع استخدام الإمارات لعدن كمحطة رئيسة في سلسة الشحن والتوريد الخاصة بها، كان نشاط القراصنة على سواحل الصومال يمثل تهديدا مباشرا لمصالحها التجارية، بيد أن قوة المرتزقة الإماراتية سرعان ما تحولت في غضون عامين إلى قوة كاملة المهام لمكافحة “تمرد الإسلاميين” بقيادة محمد سعيد أتوم في تلال غالغالا جنوب غرب بوساسو بتوجيه من الولايات المتحدة على الأرجح، ولم يكن أتوم على علاقة بحركة الشباب أو تنظيم القاعدة حتى ذلك الحين، ولكن الحملة ضد الشباب في مقديشيو اضطرت الحركة لتوسيع نشاطها نحو الشمال من أجل الحفاظ على خطوط إمدادات مفتوحة مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب المتمركز على الضفة المقابلة في جنوب اليمن.
على غير المتوقع، جاءت تجربة الإمارات الأولى في عالم المرتزقة مدفوعي الأجر على بُعد أكثر من ثمانية آلاف كيلومتر من العاصمة أبوظبي، وفي وقت لم تكن “إسبرطة الصغيرة” كشرت فيه عن أنيابها بعد، وهي محاولة بالغة الدلالة من عدة أوجه: من ناحية فإنها تشير إلى أن أبوظبي وضعت أقدامها في هذا الفضاء قبل زلزال الربيع العربي الذي ينظر إليه معظم المحللين كنقطة تحول في مسار الإمارات من دولة مسالمة إلى قوة عدوانية بميزانية هائلة ومفتوحة، ومن ناحية أخرى أنها جاءت في إحدى أكثر المناطق التي تشهد تواجدا عسكريا للإمارات اليوم، وهي منطقة القرن الأفريقي، ما يؤكد وجود طموحات قديمة، ولكن الأكثر جدارة بالذكر في هذا الموطن بالتحديد أن التجربة الصومالية كانت أشبه بعرض تجريبي للفلسفة الأمنية الجديدة، الفلسفة التي يعتنقها ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد والتي لا تثق بالمرة في جيش بلده نفسه، ومن المؤكد أنها لم تكن تجربة طارئة أو وليدة الصدفة أو الأمر الواقع، وتلك حكاية أخرى تتطلب منا العودة بضع سنوات أخرى إلى الوراء.
كانت أبوظبي مكانا مثاليا للاستقرار بالنسبة إلى إريك برنس حين قرر الانتقال إليها في النصف الثاني(9) من عام 2010، فمن ناحية كان برنس يأمل في التركيز على تقديم الخدمات الأمنية للحكومات في أفريقيا ودول الشرق الأوسط -كما أشار مستشاروه في ذلك التوقيت-، كما أن قوانين الأعمال في الدولة الخليجية من شأنها أن تمنح برنس قدرا أكبر من المرونة، في الوقت الذي يواجه فيه خمسة من كبار المسؤولين التنفيذيين في شركته السابقة اتهامات أمام القضاء الأميركي. لكن السؤال الأكثر أهمية هنا هو السؤال العكسي: لماذا قبلت الإمارات استضافة برنس في الوقت الذي كان فيه مدير “بلاك ووتر” على رأس قائمة المغضوب عليهم من قبل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما؟
من أجل الإجابة علينا أن نعود بعجلة الزمان للوراء قليلا، وتحديدا إلى (يناير/كانون الثاني) عام 2007، حيث لقاء جمع محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي ووزير خارجيته عبد الله بن زايد مع نيكولاس بيرنز مساعد وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كوندوليزا رايس، والسفير جيمس جيفري بحضور ميشيل ساسون السفيرة الأميركية لدى أبوظبي في ذلك التوقيت. كان اللقاء ثريا إلى الحد الذي أفردت له ساسون تغطية دبلوماسية كاملة كشفت عنها وثائق ويكيليكس فيما بعد(10)، وفي هذا اللقاء أعرب محمد بن زايد صراحة عن أكثر آرائه إثارة للجدل، بما في ذلك تحفظه على فكرة إجراء انتخابات حرة بحجة أن “المزيد من الديمقراطية في المنطقة ستؤدي على المدى القصير إلى تمكين الإخوان المسلمين وحماس وحزب الله”.
انتقد ابن زايد خلال اللقاء ما وصفه بأنه “دعم الولايات المتحدة للانتخابات في الشرق الأوسط” بالنظر إلى النتائج التي أفرزتها بفوز حركة حماس في فلسطين، مؤكدا أنه لا يؤيد مبدأ الترويج للانتخابات لأن “الشرق الأوسط ليس كاليفورنيا” كما قال، وأن الانتخابات الحرة في الشرق الأوسط تعني في نهاية المطاف أن الولايات المتحدة ستضطر للعثور على مكان آخر للحصول على 17 مليون برميل من النفط يوميا، كما أبدى ابن زايد خلال الاجتماع لا مبالاته تجاه إعدام الولايات المتحدة للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في يوم العيد، مؤكدا أنه “لا يهم إن كان أعدم يوم العيد أو يوم الجمعة فهو مجرم على كل حال”.
مع هذه التعليقات الجديرة بالاهتمام، لم يكن كل ذلك ما يثير الجدل، وإنما كان الجزء الأكثر إثارة في حديث ابن زايد متعلقا ببلاده هو، وعلى وجه التحديد قواته المسلحة، قال ابن زايد -بغرابة- أنه من بين 60 ألف جندي من القوات المسلحة الإماراتية فإن 80% منهم “يدينون بالولاء لرجال الدين في مكة المكرمة”، وأشار صراحة إلى أنه يمكن أن “يُرجم” من قبل مواطنيه إذا أفصح علنا عن بعض ما يعتقد.
لا ينظر محمد بن زايد بكثير من الثقة لجيشه الذي يراه أكثر ولاء لرجال الدين السعوديين الذين يزدريهم ولي عهد أبوظبي بشدة كما تظهر العديد من التسريبات، بيد أن مخاوف ابن زايد حول جيشه تتجاوز التأثير المحتمل لخصومه السعوديين، حيث ترصد وثيقة أخرى يعود تاريخها إلى عام 2004 مخاوف ابن زايد حول تأثير الإخوان المسلمين على الجيش(11).
في لقاء لابن زايد مع نائب وزير الخارجية ريتشارد أرميتاج قال الأول إن قوات الأمن الإماراتية حددت ما بين 50 إلى 60 من الإخوان المسلمين الإماراتيين في القوات المسلحة، إضافة إلى أكثر من 700 متعاطف مع الجماعة في البلاد، وأكد لريتشارد أنه تم القبض عليهم وتعرضوا لنوع من “غسيل الدماغ العكسي” قبل أن يتم إطلاق سراحهم جميعا فيما بعد باستثناء واحد فقط.
تتسق مخاوف حاكم أبوظبي الفعلي مع المخاوف التقليدية للملكيات الخليجية تجاه جيوشها المحلية، في ظل سيطرة أشباح عصر نهاية الملكيات العربية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية عبر انقلابات عسكرية على يد جيوشها(12)، كما حدث في مصر عندما أطاح الجيش بالملك فاروق الأول عام 1952 قبل أن يتم إسقاط الحكم الهاشمي في العراق عام 1958، ثم سقوط ملكية اليمن مطلع الستينيات رغم تدخل السعودية لمنع سقوط حكم الإمامة الزيدية، وأخيرا ما حدث في ليبيا حين سقطت الدولة السنوسية على يد معمر القذافي عام 1969.
ربما يكون هذا هو السبب الرئيس الذي يفسر إصرار الفيلد مارشال محمد بن زايد على أن يبدأ مسيرة صعوده السياسي من الجيش بعد أن أتم دراسته في أكاديمية “ساندهيرست” العسكرية الملكية البريطانية. فرغم أن بلاده ليس لها أي ماض مع محاولات الانقلاب من داخل الجيش -مقارنة بتاريخها الحافل بدسائس ومؤامرات القصر- فإن الجيوش لا يؤمن لها في كل الأحوال، وهو الدرس الذي تعلمه الجميع في دول الخليج من محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة على الملك سعود بن عبد العزيز وولي عهده الأمير فيصل بن عبد العزيز، التي قادها ضابط طيار يدعى عبد الرحمن الشمراني المنتمي لمجموعة عرفت آنذاك باسم “الضباط الأحرار السعوديين”.
ولكن جيشا محدود القوة، ومع كونه أقل خطرا على قبضة ولي عهد أبوظبي السياسية إلا أنه لا يلبي طموحاته الأوسع في ممارسة النفوذ كجنرال عسكري. كانت المعضلة هنا تكمن في إيجاد طريقة للجمع بين نقيضين عمليين: كيف يمكنك أن تصنع جيشا قويا قادرا على إبراز القوة العسكرية في الخارج، وعلى فرض سلطة الانضباط والقمع إذا لزم الأمر في الداخل، دون المخاطرة بتطوير هذا الجيش لإرادة سياسية مستقلة، أو لنفوذ شعبي مدعوم بقوة عسكرية يشكل خطرا على نظام الحكم القائم في البلاد؟ من هنا لم تكن الاستضافة الإماراتية لبرنس -الأب الروحي لحروب دونالد رامسفيلد الرأسمالية مدفوعة الأجر- محض صدفة، وإنما كانت إيذانا بدخول العسكرية الإماراتية تحت إشراف محمد بن زايد إلى عصر “المرتزقة” من أوسع أبوابه.
لا شيء في الجيش الإماراتي اليوم يشبه الحرس الرئاسي، وحدة عسكرية تعمل خارج الإطار التقليدي للقوات المسلحة التقليدية: القوات البرية والبحرية والجوية، مع تفوق جوهري لها عليهم في التنظيم والتسليح والتدريب، وتخضع بشكل فعلي لسلطة محمد بن زايد وحده. كان الحرس هو مشروع طموح تبناه ابن زايد بشكل شخصي، بهدف تشكيل وحدة خاصة تكون بمنزلة جيش داخل الجيش في الإمارات، وتجمع بين مهام الحرس الرئاسي وقوات النخبة، أي تقوم بدور حماية النظام ورموزه والقيام بالقمع الداخلي بلا أسئلة أو تردد، وكذا بعمليات التدخل والانتشار العسكري السريع خارجيا إذا لزم الأمر.
بدأت الفكرة تختمر في رأس ابن زايد منذ أن تولى منصب ولي العهد عام 2003، أو ربما حتى قبل ذلك، لكن ما نعرفه حقا أنه في عام 2007 -وللمفارقة فإنه نفس العام الذي أفصح فيه الفيلد مارشال عن شكوكه حول جيشه- كان محمد بن زايد يحاول إقناع برايان براون(13) -الذي كان يتولى آنذاك مسؤولية قيادة العمليات الخاصة الأميركية “سوكوم”- بالتوسط لمنحه حق الحصول على طراز خاص معدل من مروحيات “بلاك هوك” التي تنتجها شركة “سيكورسكي” لتحل محل طائرات “بوماس” الفرنسية القديمة، بعد أن تعثرت جهود الحصول عليها عبر وساطة صديق أبوظبي المفضل إريك برنس. كانت “بلاك هوك” مثالية تماما للمهام الجديدة للحرس الرئاسي المنتظر، كما أنها مثالية بنفس القدر لقراءة أفكار ابن زايد أيضا: قطعة عسكرية مرنة يمكن استخدامها لكل شيء تقريبا، بداية من النقل، وليس انتهاء بمطاردة سفن التهريب على السواحل ودوريات تأمين الحدود، وتأمين عمليات الانتشار السريع. غير أن “بلاك هوك” لم تكن أكثر من بداية طموحة، حيث كان المستقبل القريب يحمل ما هو أكثر إثارة بكثير.
بعد ذلك بعام واحد تقريبا، كان ابن زايد على موعد مع بطل جديد من أبطال حكايته الخاصة مدفوعة الأجر: جنرال أسترالي مرموق تم تعيينه لتولي مهمة قيادة القوات الأسترالية في الشرق الأوسط عام 2008، وللمفارقة فقد كانت إحدى أولى مهامه هي نقل -هندس له الجنرال شخصيا- للقاعدة الإقليمية للقوات الأسترالية من بغداد إلى أبوظبي، ما وضعه سريعا في دائرة اهتمام ولي العهد. وبحكم علاقة العمل تلك نشأت صداقة عابرة بين الرجلين سرعان ما تحولت إلى ما هو أكثر من ذلك، فبعد أقل من ستة أشهر على تولي مايك هندمارش مهمة قيادة تدريبات الجيش الأسترالي في (يناير/كانون الثاني) عام 2009 -وهي وظيفة شديدة المثالية لجنرال في مثل عمره- فإنه سرعان ما قدم استقالته مضحيا براتب يناهز ربع مليون دولار سنويا، وكان على الجميع أن ينتظروا ستة أشهر أخرى لمعرفة السبب الحقيقي وراء هذه الاستقالة الغريبة.
كانت نصف مليون دولار سنويا -خالصة الضرائب والاستقطاعات- بصحبة امتيازات أخرى عديدة كفيلة بوضع اللمسات الأخيرة على عام ونصف من المفاوضات الماراثونية، انتقل بموجبها هندمارش إلى أبوظبي تحت مسمى وظيفي غامض هو “مستشار ولي العهد للشؤون الأمنية”(14)، أما المهمة الحقيقية فهي استكمال عملية تشكيل الحرس الرئاسي الذي ارتبط بعقد تدريب ضخم مع الجيش الأميركي لصالح وحدة العمليات الخاصة التابعة للحرس الرئاسي “soc”، وبقيمة بلغت آنذاك 150 مليون دولار(15).
كان كل شيء مكتملا ومجهزا بشكل مثالي، حملات دعاية ضخمة لجلب المقاتلين من داخل البلاد إلى الحرس(16)، تجمع بين الإغراء المادي والمداعبة الوطنية في ظل نظام إماراتي لم يكن فرض بعد حصة للتجنيد الإجباري، وعقد تدريبي مع البحرية الأميركية يضمن زيارات تدريبية متبادلة وتنفيذ تدريبات ومهام مشتركة، ومركز دعم لوجيستي تقوده “يوروكوبيتر” أو “إيرباص” حاليا لتقديم خدمات الدعم الفني والصيانة وقطع الغيار للمعدات، وأخيرا جنرال أجنبي يتمتع بعلاقات واسعة قادرة على سد الفراغ القيادي بمرتزقة مهنيين مأجورين، بما يضمن الاحترافية العالية للقوات الجديدة، ويعالج مخاوف ابن زايد بشأن خضوع الوحدة الجديدة لقيادات محلية لا يضمن ولاءها.
كان هندمارش عند حسن ظن صديقه الإماراتي الجديد تماما، وسرعان ما أغرق الصفوف القيادية في الحرس الرئاسي بعشرات الجنود والجنرالات الأجانب ذوي الخبرة من الأستراليين على وجه الخصوص(17). أحد هؤلاء هو بيتر باتسون، ضابط مخابرات أسترالي سابق يعمل كمستشار للحرس الرئاسي الإماراتي منذ مطلع عام 2014، وتشمل القائمة أيضا كيفن دولان، وهو ضابط سابق في الجيشين البريطاني والأسترالي ويعمل في تقييم الحرس الرئاسي، وستيف نيكولز، وهو قائد سابق في الجيش الأسترالي يعمل كمستشار للحرس، وهناك أيضا سكوت كوريجان، قائد العمليات الخاصة السابق في الجيش الأسترالي. ورغم هيمنة الأستراليين -بحكم علاقات هندمارش- فإن هناك حضورا لافتا أيضا لجنرالات سابقين مدفوعي الأجر من البريطانيين والفرنسيين، من أمثال بالدوار داوسون، وهو ضابط سابق في البحرية الملكية البريطانية يعمل كمستشار في الحرس الرئاسي، وروبرت كروس، وهو أميركي يشرف على معهد تدريب الحرس الرئاسي الإماراتي الذي يعد جزءا من برنامج التدريب التابع للبحرية الأميركية.
لم يكن ولع ولي عهد أبوظبي بالمرتزقة مقتصرا على نخبة العسكريين القياديين من أمثال هندمارش وجنرالاته، كان ذلك واضحا منذ اللحظة الأولى التي استقر فيها إريك برنس في أبوظبي ليؤسس أعماله الجديدة من هناك: شركة غامضة جديدة تسمى “ريفلكس ريسبونس”، يقودها برنس، ويمتلك الإماراتيون 51% من أسهمها، تم ترخيصها في (مارس/آذار) من عام 2010، قبل أن تقوم بتجنيد المئات من الأفارقة والكولومبيين والأوروبيين. ومع نهاية العام نفسه، كان المئات من هؤلاء يتدفقون في جنح الليل إلى قلب الصحراء(18)، يصحبهم ضباط الاستخبارات الإماراتيون بعد أن دخلوا البلاد بوصفهم عمال بناء، قبل أن يستقروا خلف الجدران الخرسانية والأسلاك الشائكة لمدينة الشيخ زايد العسكرية في أبوظبي.
كان الاتفاق ينص على أن يقوم برنس بتدريب جيش سري من المرتزقة مدفوعي الأجر، يعمل لحساب الإمارات مقابل مبلغ من المال يتجاوز نصف مليار دولار، بهدف الدفاع عن منشآت النفط وناطحات السحاب، وإخماد الاضطرابات العمالية أو حتى الثورات الشعبية حال حدوثها إذا لزم الأمر. تكلفت الإمارات بكل متطلبات القوة الجديدة، بداية من الأسلحة ووصولا إلى توفير طهاة محليين من مختلف الجنسيات لضمان عمل أطعمة ملائمة للمقاتلين الذين يصل عددهم إلى ثلاثة آلاف مقاتل نخبة على أكثر التقديرات منطقية، وهو عدد كفيل بالسيطرة على دولة صغيرة كاملة. وبعد سنوات، كان من الواضح أن مهام هذه القوة وحجم الاعتماد عليها قد توسعا بشكل كبير بعد أن تدفق مئات من أفرادها إلى اليمن للمشاركة في المهام القتالية هناك ضمن صفوف القوات الإماراتية المشاركة في عملية عاصفة الحزم(19)، وقيل إنهم مسؤولون عن جرائم حرب أثبتت منظمة العفو الدولية وجودها لكنها لم تثبت صلة قوات الإمارات المرتزقة بها.
لا تشعر أبوظبي بأي غضاضة تجاه فكرة الاستعانة بالأجانب في المهام الأمنية والقتالية، فخلال حقبة التسعينيات كان قرابة ثلث الجيش الإماراتي مكونا من الأجانب(20)، لذا فإن أبوظبي لم تستشعر أدنى قدر من الحرج في الاعتراف بوجود هذا الجيش السري بعد الكشف عنه(21)، حيث أقرت بأنها أبرمت تعاقدات عسكرية مع شركات خاصة تقدم تدريبات عسكرية وأكاديمية هي “سبيكتر” و”هوريزون” و”ريفلكس ريسبونسز”، ووصفت الحكومة الإماراتية في بيان رسمي عام 2011 هذه القوة بأنها “ضرورية للتطوير الناجح للقدرة العسكرية القوية لأكثر من 40 ألف عنصر إماراتي”.
ولكن الأمر لم يكن يتعلق فقط بتطوير القدرات العسكرية كما ادعى البيان الإماراتي بقدر ما كان يتعلق بضمان ممارسة أكبر قدر من التحكم والسيطرة على هذه القوات من قبل جنرالات أجانب ليس لهم ولاء إلا للمال، كما أن وجود كتائب من المرتزقة كان يكفل توفير خيارات للقيام بعمليات أمنية حساسة دون إدخال الجنود المحليين في الصراعات الاجتماعية والسياسية والطائفية للدولة مع قليل من الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان(22)، وهو ما يفسر ولع أبوظبي بتجنيد المرتزقة من البنغال والنيباليين في صفوف قوات الأمن الداخلي لتولي مهام القمع داخل السجون الإماراتية.
لم يكن محمد بن زايد يحتاج إلى أكثر من تأمل قليل في التاريخ لبناء فلسفته الأمنية، فلدى دول الخليج بشكل عام تاريخ طويل من الاعتماد على المرتزقة الأمنيين لضمان الاستقرار ولو على حساب مواطنيهم، فرغم حصول مشيخات الخليج على استقلالها عن بريطانيا مطلع السبعينيات فإنها واصلت الاعتماد على ضباط الأمن البريطانيين والجنود السابقين لتشغيل العمليات، وربما يكون النموذج الأكثر شهرة في هذا الأمر هو إيان هندرسون المعروف باسم جزار البحرين(23)، والذي ترأس المديرية العامة لأمن الدولة في البلاد من عام 1966 إلى عام 1998.
بيد أن لهؤلاء المرتزقة دورا آخر بعيد المدى في التلاعب ببنية الجيوش الوطنية لصالح النخبة الحاكمة، حيث غالبا ما يتم منح هؤلاء الجنسية بعد فترة من المشاركة في العمليات العسكرية مدفوعة الأجر، مقابل امتيازات أكبر حجما، وعرضت الإمارات الجنسية على المرتزقة الكولومبيين مقابل ثلاثة أشهر فقط من القتال في حرب اليمن(24)، وهو أحد أرخص أثمان الجنسيات المتعارف عليها عالميا.
تضمن هذه الإستراتيجية تحويل الجيش إلى منتخب من المجنسين، وضمان وجود صف قيادي محترف ولكنه غير متجانس أيديولوجيا ولا يمكن أدلجته وعقيدته المال فقط، في حين تتوسع أهداف هذه الإستراتيجية في البحرين المجاورة مثلا إلى تجنيد الآلاف من المقاتلين من البلاد السنية -مثل باكستان- ومنحهم الجنسية من أجل الحفاظ على التوازن الطائفي في مواجهة الأغلبية الشيعية في البلاد.
أدرك محمد بن زايد أن بلاده -مثل سائر دول الخليج- اعتمدت على مدار تاريخها على الحماية الخارجية، ولكن في أعقاب الربيع العربي لم يعد هذا الاعتماد آمنا بما فيه الكفاية(25)، وبالنسبة إلى الجنرال الإماراتي السابق والحاكم الفعلي الحالي لها والمهووس بمحاربة الربيع العربي لم يكن من الصعب تصور هذا السيناريو التخيلي القابل للتحقق: احتجاجات منظمة لقوى مختلطة ليبرالية وإسلامية، تجذب تغطية مكثفة وعالمية من وسائل الإعلام الغربية الموجودة فعليا في الإمارات، وتطالب بتسليم سلطة الأمراء للشعب الإماراتي، مع إدارات غربية غير متحالفة مع الإمارات تقوم بالضغط على بلاده للاستجابة للاحتجاجات عبر وقف مبيعات الأسلحة الحرجة أو فرض حظر سفر على أهم مسؤولي الدولة، يصحب ذلك انشقاقات داخل الدولة نفسها مع رفع مظلة الحماية الأميركية واحتجاجات في معسكرات العمل، وشلل تام في البلاد.
لم يكن من الممكن لأبناء زايد أن يسمحوا بوقوع هذا السيناريو في أبوظبي، خاصة بعد أن شاهده الجميع حقيقة واقعة في مصر وتونس، وربما كان جيش المحترفين في أبوظبي قبل سنوات هو خطة طموحة لقائد عسكري مهووس، ولكنه في عالم اليوم، ومع خيالات ربيع عربي تحلق بقوة في خلفية المشهد، فإنه تحول إلى مسألة بقاء، حياة أو موت، دون أدنى قدر من المبالغة.
*الجزيرة نت