لم تعد ظاهرة التراجع القرائي في العالم العربي تخفى على أحد بل أصبحت من أهم مسلّمات الانتكاسة الفكرية في هذا الوطن المثخن بالانتكاسات وقد صدرت في هذا الشأن تقارير صادمة مخيفة أشارت بعضها إلى أن ما يقرأه الإنسان العربي على مدار العام لا يتجاوز في متوسطة الحسابي عشر دقائق فقط، وهذه الدقائق الفقيرة تتوزع ما بين قراءة عناوين الصحف وفواتير المياه والكهرباء والخدمات المختلفة، وأشارت تقارير أخرى إلى أن ما يتم قراءته من كتب في بلجيكا باعتبارها أصغر دول الاتحاد الأوربي يساوي أكثر من عشرة أضعاف مما تقرأه دول العالم العربي مجتمعة.
ولعل أظرف ما قيل في هذا الشأن تصنيف الروائية الجزائرية المعروفة أحلام مستغانمي العرب بأنهم أعداء للبيئة، فغابات الأشجار التي تصنّع منها أوراق الطباعة تذهب هدرا لأن العرب أصبحوا لا يقتنون الكتاب، وإذا اقتنوه فإنهم لا يقرؤونه، وفي هذا الإحجام إهدارٌ دون طائل للشجرة التي تعد أهم مفردات البيئة الطبيعية.
يتجلّى هذا الأمر بشكل ملموسٍ في معارض الكتاب العربية التي تقام بين الفينة والفينة في عدد من العواصم العربية، حيث يجد المتفحّص لطبيعة هذه المعارض أنَّ الشكوى هي الشعور السائد في هذه المعارض: شكوى من الكل ضد الكل، فالجهات المنظِّمة تشكو دور النشر المشاركة بسبب إهمالها بل وتعمّدها لمخالفة كثير من الإجراءات المنظمة، مما ينعكس سلبيا على إدارة المعرض وفاعليته، ودور النشر تشكو كثرة العراقيل التي تضعها الجهات المنظمة أمامها، ابتداء من الوصاية على عناوين الكتب المشاركة، وانتهاء بالرسوم المالية الباهظة التي تدفعها هذه الدور لقاء مساحة ضئيلة في المعرض، وليس هذا كلُّ ما في الأمر، فهناك رسوم شحن للكتاب مرتفعة، كما أنَّ طباعة الكتاب أصبحت صناعة واسعة وتكلّف أرقاما فلكية، ثم يأتي بعد ذلك القارئ ليشكو ارتفاع أسعار الكتب، ولينحو باللائمة على الجميع دور نشر ومعارض كتب، والنتيجة الحتمية ليس إعراضا عن الكتاب فقط، بل وانصراف كلّي عنه.
على أنَّ هذه الأمور ليست وحدها السبب في القطيعة القائمة بين الإنسان العربي وبين الكتاب الذي كان رفيقه في حلّه وترحاله، وأنيسه الذي لا تُملَّ مجالسته، فثمّة أسباب جوهرية أسهمت في تعميق هذه الهوة، وفي تسييد التصحّر الثقافي والمعرفي، بعضها سياسية وأخرى اجتماعية، لكنَّ الأهم من ذلك كله هو حالة تسطيح الوعي التي أفرزتها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وجاءت وسائط الميديا في السنوات الأخيرة لتكمل ما تبقى من هذه المهمة المشئومة، التي أفرزت قارئا نزقًا، وعجولا، بل ومتبلّدا ذهنيا، ليصبح الكتاب بالنسبة له أشغالا شاقة بعد أن كان خير جليس في الزمان.
بعد هذا كله تأتي معارض الكتاب كتقليد سنوي في كل بلد، لتعوّض المشهد الثقافي عن خساراته المتلاحقة المتمثلة في إغلاق كثير من دور النشر الفاعلة لأسباب يطول شرحها، غير أنَّ هذه المعارض ما لم تعزّز بسن قوانين تجعل منها إعادة اعتبار حقيقية للكتاب فإنها لا شك ستؤول إلى أروقة موحشة، تشكو قلّة السالكين، فسيهجرها الزوار.. حين لم يعد فيها ثمّة مقصد