كلما ضاق الخناق على مقاتلي داعش في الأحياء القليلة من الموصل، زادت جثث قتلاهم في أزقة المدينة القديمة وعلى ضفاف دجلة.
لندن: عثر الجنود العراقيون في ملابس قتيل من داعش على بعض النقود وهي حفنة من الليرات السورية تكاد ألا تساوي شيئاً. ولكنه كان يحفظ في جيبه الآخر شيئاً صغيراً أثمن بكثير هو بطاقة ذاكرة من هاتف ذكي.
الصور المخزونة في البطاقة تكشف عن نتف من حياة القتلى والعلاقة الحميمة بينهم ووحشيتهم ورحلتهم عبر معركة الموصل. وهي تلقي ضوءًا على حياة المقاتل الميت. مَنْ كان هذا الشاب وأي أسرار خلفها وراءه عن داعش؟
تبدأ الصور الفوتوغرافية بلقطات عائلية لكنها سرعان ما تزداد شؤماً. يظهر الشاب جالساً وأثر ابتسامة على محياه وبجانبه طفلة صغيرة ، ربما شقيقته.
شعره أجعد، طويل ومفروق في الوسط. ولكنه يتحول من شاب في اجواء عائلية الى مقاتل ببزة عسكرية يحمل الكلاشنكوف على كتفه وجهازا لاسلكيا صغيرا في جيبه. ويظهر في صورة أخرى نائماً، وهي وضعية متعمدة بكل تأكيد هدفها الايحاء باستراحة المقاتل.
لم تعد الصور البوماً عائلياً بل هي الآن سجل شاب قرر التضحية بنفسه من أجل قضية داعش في عملية انتحارية.
صورة لافتة
تحوي بطاقة الذاكرة التي عُثر عليها في ملابس القتيل صوراً اخرى بينها لقطة جماعية لرجال وصبيان. وقال كونتن سومرفيل مراسل بي بي سي انه علم لاحقا ان غالبيتهم من الموصل وكانوا ينتمون الى مجموعة نينوى للاسناد الناري وهي وحدة تعمل في الخطوط الخلفية. وتكفل الوقت الذي قضوه في صفوف داعش بإقامة اواصر عميقة بين افرادها.
هناك صورة لافتة اخرى لرفيق الشاب القتيل في السلاح على ما يبدو. هذا الرجل اكبر سناً يخفي تحت قميصه حزاما ناسفا ويرتدي قفازات لإخفاء المفتاح الذي يفجر الحزام بحيث لا يدرك الهدف فداحة الخطر الذي يمثله الرجل المبتسم امامه إلا بعد فوات الأوان.
الصور المحفوظة في بطاقة الذاكرة تكشف سراً آخر في حياة مقاتلي داعش. فالذين يخوضون معركتهم الأخيرة في الموصل يتنقلون بين حالتين، هما اليقظة العالية في ارض المعركة والارهاق الذي بالكاد تخفف من وطأته بضع ساعات من النوم في الليل.
ويقول سومرفيل مراسل بي بي سي انه اقتفى الحياة اليومية للجندي العراقي العراقي فكان يستيقظ قبل الفجر ويتوجه الى الجبهة حيث يراقب الجنود العراقيين وهم يحاولون تفادي قذائف الهاون والصواريخ وتجنب العبوات الناسفة المزروعة في الطرق وطائرات داعش المسيرة، وكان يلطأ للاحتماء بما حوله حين يطلق قناصة داعش ومقاتلوه النار.
عثر المراسل في بيت ضيعة ريفية مدمر على بلاغات من داعش تبين استنزاف موارده البشرية والمادية. وفي احدى الغرف بين اكوام من المواد ترك احد المقاتلين وراءه صفحات كُتبت بخط اليد عليها ملاحظات ورسوم بيانية. كان اسم صاحبها مكتوباً في زاوية من الورقة وبحروف انكليزية بارزة كتب اسمه: أبو علي المصلاوي.
كان ابو علي يتعلم استخدام مدافع الهاون ويبدو انه كان تلميذاً ممتازاً ومجتهداً يفتخر بعمله. وهو يسجل في ملاحظاته تمارين عملية في تحويل الاحداثيات من خرائط غوغل الى احداثيات تهديفية في الواقع. ويرسم الزوايا المقروءة من بوصلة والمسار المنحني لقذائف الهاون.
ومما له أهمية ان ابو علي يدرج في قسم الأعتدة من ملاحظاته وبخط يده “الذخيرة الكيماوية” بوصفها سلاحاً.
يقتل بلا رحمة
وكان نقاش واسع دار حول ما إذا كان داعش استخدم اسلحة كيماوية في الموصل. ومن ملاحظات ابو علي نعرف الآن ان مقاتلي داعش مدرَّبون ومستعدون لاستخدامها.
استخدم ابو علي المصلاوي اوراقا امتحانية من مديرية التربية دفتراً لملاحظاته. ويبدو انه كان يجد متعة في ذلك. فهو يسجل السنة الدراسية: 2016 – 2017. الموضوع: هاون، ويعطي درجة لنفسه كاتباً: الدرجة النهائية: تهانينا بالنجاح. المجموع: 100 درجة.
كما عُثر في البيت الريفي على دفتر ملاحظات كتبها شخص يُدعى ابو هاشم كان يقود ثمانية مقاتلين وعربتين بك آب احداهما نُصب في حوضها مدفع ذو ماسورتين مضاد للطائرات والأخرى مجهزة بمدفع رشاش من عيار أقل. والعربتان مطليتان باللون الأبيض الذي يقال انه لون داعش المفضل لأن من السهل تمويه العربة بالتراب واكتسابها لون التضاريس.
كان القائد العسكري ابو هاشم دقيقاً يسجل تفاصيل الهجمات وانواع الأسلحة المستخدمة ورقم شاسيه كل عربة وعدد الطلقات لدى مجموعته ونوعها وكم استُخدم منها بل وحتى الفاسدة منها.
وتبين الأوراق كيف حاول ابو هاشم اقامة اواصر بين رجاله وتقويتها. وحرص على ربط المقاتلين الذين يعملون في عربة واحدة بأن يتناولوا وجباتهم معاً. ويبدو ان ابو هاشم كان قائداً حازماً لا يتردد في معاقبة المقصرين من رجاله.
التقى مراسل بي بي سي عنصرًا في القوات الأمنية العراقية دسّته في صفوف داعش منذ عامين وقدمه الى المراسل ضابط برتبة رائد في الاستخبارات العراقية. وحين عُرضت الصور على ابراهيم، كما سماه مراسل بي بي سي، تعرف على الأشخاص الذين يظهرون فيها قائلا انهم مقاتلون في وحدة خالد بن الوليد وكانوا وحدة اسناد للمقاتلين على الجبهة. وكانوا يهبون للعمل فور نشوء الحاجة اليهم.
وأكد ابراهيم مع ضابط الاستخبارات ان غالبية المقاتلين في هذه الصور هم من الموصل.
ويروي ابراهيم ما فعله انتماؤه الى داعش به وبالرجال والصبيان الموجودين في الصور ايضاً.
قال ابراهيم انه تعلم كيف يكون قاسياً، كيف يضرب ويقتل بلا رحمة وخاصة مع الأسرى.
ولاحظ ابراهيم ان رجال وحدة نينوى للاسناد الناري كانوا يعيشون حياة متقشفة مشيرا الى “ان المقاتل لا يحتاج الى الكثير للعيش”.
أسماء حركية
واصبح واضحاً مما قاله ابراهيم وآخرون ان غالبية الرجال والصبيان في الصور قُتلوا. وكان التعرف على هويات الجميع متعذراً. فان داعش يستخدم اسماء حركية وهناك عامل آخر ايضاً لفت اليه عنصر في القوات الخاصة العراقية في الموصل قائلا “حين جاء داعش كان هؤلاء اطفالا”.
من بين الوثائق والأوراق التي عثر عليها مراسل بي بي سي في البيت الريفي كتب دينية عليها ختم مسجد المؤمنين على الجانب الشرقي من الموصل قرب معمل كان داعش يستخدمه لتصنيع قذاف الهاون. وكان احد الكتب يحمل اسم إمام اهدى الكتاب الى الشباب.
الامام الذي وقع الكتاب هرب منذ فترة مع داعش. وجاء الامام الجديد فارس فاضل ابراهيم الذي عُرضت عليه الصور. وكان الامام الشاب متوتراً طلب عدم تصويره وهو ينظر الى الصور، الأمر الذي يثير تساؤلات عن سبب خوفه من هؤلاء الشباب.
قال الملا فارس ان مقاتلي داعش انتقلوا الى الحي مع عائلاتهم. وكان غالبيتهم عراقيين ولكن كان هناك أجانب ايضاً من سوريا والمغرب وبلدان اخرى. عاشوا بينهم اكثر من عام وهربوا في نوفمبر عندما اقتربت القوات العراقية من المنطقة. وأوضح الملا فارس انه إمام موقت الى ان تعين دائرة الأوقاف إماماً بصورة دائمة.
وقال الملا فارس ان مقاتلي داعش اعدموا الامام السابق وعينوا واعظاً منهم وهو الذي اهدى الكتاب الى المقاتلين الشباب.
حافة الهزيمة
روى الملا فارس قصة داعش في الموصل وفي الحي الذي يسكنه قائلا انهم أفسدوا المدينة والأسوأ من ذلك انه افسدوا نظرة العالم الى الاسلام. واضاف انهم في البداية أحسنوا معاملة الناس حيث “جاؤوا باحترام وتقدير ثم ظهرت نياتهم الحقيقية”. وخُير الملا فارس بين الانضمام الى داعش أو البقاء في بيته ولا يعود الى المسجد إلا للصلاة فقرر البقاء في بيته.
اتهم داعش أئمة آخرين بأنهم “سلفيون معطلون” وسجنهم لمدة شهر أو أطول وحين أُطلق سراحهم أقسموا ألا يؤموا صلاة بعد اليوم. ولكن أئمة آخرين مثل امام مسجد المؤمنين أعدمهم داعش.
اللافت في الصور ان جميع افراد مجموعة نينوى للاسناد الناري من الشباب. وهذا فاجأ كل من قابله مراسل بي بي سي. فالمقاتل عند داعش هو أي شخص فوق سن الخامسة عشرة ولكن بعض الذين جندهم كانوا أصغر سناً.
كان داعش يتمتع ببعض التأييد في الموصل ولكنه ضخَّم هذا التأييد بتجنيد اطفال مستدرجاً الشباب والبسطاء ومضحياً بهم من أجل قضيته الحاقدة، بحسب مراسل بي بي سي.
اليوم يقف داعش على حافة الهزيمة في الموصل وجثث مقاتليه التي تناثرت على ضفاف دجلة اختفت، بعدما نهشتها الكلاب وحيوانات أخرى. ولم يعد هناك أي أثر لهؤلاء الشباب. ولكن تركتهم الثقيلة من العذاب والتدمير باقية وهي تمتد أبعد من الموصل وأبعد من مجرى دجلة.
*إيلاف