بين محافظتي لحج وعدن كان شيخ سلفي يجمع حوله من طلاب العلم، ما يصل عددهم ببعض الأحيان إلى ألفي طالب، بينهم أكثر من ٣٠٠ طالب من إندونيسيا والصومال والجزائر والمغرب وفرنسا وغيرها.
بين محافظتي لحج وعدن جنوبي اليمن، وتحديدا في بلدة الفيوش الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف، كان الشيخ السلفي الشهير “عبد الرحمن بن عمر العدني” يجمع حوله من طلاب العلم، في دار الحديث في الفيوش، ما يصل عدده ببعض الأحيان إلى ألفي طالب وطالبة، أي ما يوازي عدد سكان البلدة كلها، بينهم أكثر من ٣٠٠ طالب أجنبي من إندونيسيا والصومال والجزائر والمغرب وفرنسا وغيرها، قدموا تحديدا ليستمعوا للشيخ العدني.
أسس الشيخ العدني دار الحديث بعد رحلة علمية طويلة بدأها شابا صغيرا وهو في عامه السادس عشر، عام ١٩٨٦، من عدن القريبة، ثم إلى دماج حيث كان التلميذ النجيب للشيخ “مقبل بن هادي الوادعي”، المعروف بـ “مجدد السلفية” في اليمن، ومن كان منطلقًا له إلى أئمة السلفية في العالم، وعلى رأسهم المشايخ السعوديين “ابن عثيمين” و”ابن باز” في القصيم، و”الجامي” و”المدخلي” في المدينة، وغيرهم من كبار مشايخ السلفية، ليعود بعدها بين يدي “الوادعي” إلى أن توفيّ الأخير، لينتقل العدني إلى الفيوش التي أسس بها دار الحديث.
بنظرة سريعة على الأسماء التي مر عليها العدني، يمكننا أن نتصور طبيعة الأعلام الواردة في دروسه، ما بين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وابن عبد البر، فهو الذي يورد عنه، بجانب مودته ورقته، الكلمة المأثورة لدى السلفيين: «لو أنفقنا كل أوقاتنا من الصباح إلى الليل ما عملنا ما عمله السلف».
كما يمكن تخيل المنهج السياسي الذي يتبعه بوضوح معبرًا عنه بقوله: «من أصول أهل السنة السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين في المعروف»، كما لن يكون من المستغرب أن يكون وصفه لما يجري في اليمن ككل، وفي عدن تحديدا، بأنها «فتنة»، وفي الوقت نفسه وقوفه لجانب ما يسمى بـ “التحالف”، رغم أخطاءه ومثالبه، بحسب ما يروي في خطبة شهيرة.
بنهاية عام ٢٠١٤؛ أتى اتصال للشيخ العدني من مسؤول حكومي يبلغه بأن بعض الطلاب الأجانب يكثرون الذهاب لـ «محاضرات تحث على الجهاد»، ويحضهم على عصيان العلماء الذين يمنعونهم من ذلك، فمنع أي طالب أجنبي من الخروج إلا بإذنه ليتفاجأ بأن هؤلاء الطلاب لم يستجيبوا له واستأجروا حافلتين للذهاب لعدن للاستماع لهذا الشيخ، فهرع إلى موقف الحافلات وأنزلهم جميعا وطرد صاحب الحافلة من الدار.
كما حدّث النقطة الأمنية القريبة لتوقف بعض الطلاب الذين ذهبوا بشكل فردي، ليُصعد الأمر بمراقبة مداخل ومخارج دار الحديث بالفيوش، وصولا إلى أمر مباشر من رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي، ووزير دفاعه محمود الصبيحي ووزير داخليته جلال رويشان، من أصدروا قرارا يفيد بترحيل كل الطلاب الأجانب لبلدانهم، ليستجيب الشيخ العدني بطبيعة الحال «لأمر ولي الأمر».
في تمام الساعة الثانية عشر والربع من اليوم الأخير من شباط/فبراير ٢٠١٦؛ كان الشيخ العدني خارجا من منزله في وقته المعتاد متوجها لصلاة الظهر، ليجد بانتظاره على باب منزله سيارة قرمزية طراز “برادو” عام ٢٠٠٦، لم يستطع الشيخ تمييزها بأكثر من ذلك تحت وابل رصاص أطلق عليه من راكبيها، قبل أن يتمكن من التوجه لباب المسجد رغم إصابته بقدمه، دون أن يحميه ذلك من أكثر من عشرين طلقة أخرى لحقته وأردته قتيلا بين منزله والمسجد الذي كان يرتاده.
استطاع المنفذون المجهولون الفرار، لكن كتائب المقاومة الشعبية المتواجدة هناك استطاعت تحديد مواصفات السيارة بعد البلاغ عنها، واشتبكت معها في منطقة “صبر” التابعة جغرافيًا لمنطقة “لحج”، ما أدى لانقلاب السيارة ومقتل سائقها، وإلقاء القبض على منفذ عملية الاغتيال.
تروي أخبار متناثرة أنه، وقبل اغتيال العدني بشهر واحد، كان مركز دار الحديث الذي يديره الشيخ قد شهد أعمال فوضى وشغب وصدام مع أهالي المنطقة، بسبب اعتزام الأهالي بناء مسجد آخر لا يخضع لإدارة المركز، في قصة لم تكن إلا غطاءً على الأرجح للتمهيد للتخلص من “العدني” نهائيًا، كان كشف عنها بتسجيل صوتي حصل عليه موقع “العربي” اليمني المحلي[5]، تحدث فيه عن زيارة محافظ عدن حينها “عيدروس الزبيدي” ومدير الأمن “شلال شايع”، المقربين من الإمارات، ومحافظ لحج “ناصر الخبجي”، ومدير أمن لحج “عادل الحالمي”، معتبرا أنهم يقفون إلى جانب الدار، ومؤكدا أن هناك من «يمرر مؤامرات لدار الحديث، ممن يناوئنا ويعادينا أشد العداوة، وفشلوا في الوصول إلى ما يريدون من إسقاط المركز، وحين فشلوا لجأوا إلى زرع الفتن والفوضى في صفوفه».
بعد قرابة عامين من مقتل “العدني”، كشفت مصادر موثوقة بأن الحاكم العسكري الإماراتي الذي كان متواجدا في عدن حينها تسلم فريق الاغتيال، وقام بإرساله مباشرة في اليوم نفسه إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي عبر طائرة حربية خاصة بشكل سري، مضيفة أنه «من تلك اللحظة تم إخفاء ملف القضية بشكل نهائي حتى اليوم».
في ذلك الوقت، كان “الزبيدي”، محافظ عدن السابق، والذي يمكن وصفه بأنه رجل الإمارات في اليمن، هو الحاكم الإماراتي العسكري الفعلي للجنوب، قبل أن يعلن في وقت لاحق من تلك الحادثة عن تشكيل “المجلس الانتقالي الجنوبي”، مشروع الإمارات في اليمن والداعي لانفصال جنوبي الدولة، برئاسة الزبيدي ونائبه الشيخ السلفي الذي بات معروفًا للجميع “هاني بن بريك”، والذي أصبح يقود عسكريا ما يعرف بمليشيا “الحزام الأمني” المدعومة إماراتيا في الجنوب.
كانت كلفة الرفض المتكرر من الشيخ العدني لـ “هاني بن بريك” غالية كما يبدو، كما كانت كلفة رفض الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي للمشروع الإماراتي في اليمن ورهانه على السعودية ضمن “التحالف”، إذ كلفته حريته كرئيس دولة، ليوقف مع الأمراء السعوديين الآخرين في حادثة الريتز كارلتون الشهيرة إثر إقالته للزبيدي من منصبه كمحافظ عدن، وإقالته لهاني بن بريك من منصبه كوزير للدولة.
كما كلفته مشروع دولته إثر قيادة الزبيدي للمشروع الانفصالي الذي أعلن عنه بعد أيام من إقالته، كلفة راح على هامشها الكثير من الضحايا الجانبيين لتهيئة مناخ مناسب للمشروع الجديد، على يد المدير التنفيذي له ونائب الزبيدي في مجلسه الانتقالي، مجددا، هاني بن بريك.
التحييد
كان اغتيال الشيخ العدني هو الضربة الأكبر للتيار السلفي اليمني المتمركز في الجنوب، كما كان لأبرز المواقف الرافضة لتدخل رجل الإمارات وقائد قوات الحزام الأمني ابن بريك وتحركاته في الجنوب، لكنها لم تكن الوحيدة، وإن كانت قد اختلفت بنوعها وحجمها، إلا أنها اتفقت تماما بالنتيجة والمآل: الموت على يد مجهولين.
في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي؛ وصلت قافلة الاغتيالات المجهولة لإمام مسجد الشيخ زايد، “ياسين الحوشبي العدني”، على شكل عبوة ناسفة مزقت سيارته. كان الشيخ الحوشبي، كما يبدو من اسم المسجد الذي يأمه، مقربا من الإمارات ومن ميليشيا “الحزام الأمني” ومن ابن بريك بالتبعية، ولعب دورا في استقطاب الشباب السلفيين للانخراط ضمن هذه القوات، كما تروي مصادر محلية.
إلا أن هذا التقارب تحول مؤخرا لخلاف بين الشيخين السلفيين، دفع العدني لإرسال رسائل «مناصحة» لابن بريك يحذره بها من «الانحراف عن خط السلفية»، ضمن عدد آخر من المشايخ الذين كانوا مقربين كذلك من الحزام الأمني وقائده، معتبرين رفضه لإقالته من الوزارة «خروجا على الحاكم»، وبنفس الطريقة، كانت كلفة هذا الرفض غالية.
لم يقف قطار الموت عند الشيوخ والشخصيات السلفية المخالفة للإمارات أو حتى التي كانت مقربة منها، والتي وصل عددها إلى ١٣ شخصية تم اغتيالها منذ عام ٢٠١٦ حتى الآن، بل تعدّاها ليصل للجمعيات والمنظمات وحتى المليشيات، والتي يعدّ من أبرزها جمعيتا “الإحسان” و”الحكمة” اللتان اعتقلت قوات “الحزام الأمني” عددا من قياداتهما، بعد أن وضعتهما الإمارات والسعودية على قائمة «المنظمات الإرهابية»، بجانب الحليف السلفي الأقوى السابق للإمارات الشيخ “عادل عبده فارع”، المكنى بـ “أبو العباس”، تمهيدا لصعود نائبه “عادل العزي”، السلفي الأكثر استجابة لتنفيذ أجهزة الإمارات في تعز.
لم يقف الأمر عند الاغتيالات وحسب، إذ سعت الحملة الممنهجة كما يبدو إلى تحييد المشايخ السلفيين بأي طريقة ممكنة بعد تجميد جمعياتهم، بطريقة تشابه تحييد أبو العباس وتسليم نائبه عادل فارع؛ فلم يمر على اغتيال الشيخ “صالح حليس” الوقت الكثير حتى تم الاستيلاء على منبره من قبل أتباع ابن بريك، كما جرى مع الشيخ “فهد” إمام وخطيب مسجد الصحابة، بحسب ما يروي الناشطون الذين يؤكدون أن «مكتب الأوقاف في عدن والذي يقوده محمد الوالي، المعين من ابن بريك، لم يصدر أي بيان يستنكر فيه قتل أئمة وخطباء المساجد، باعتبار الأوقاف جهة مشرفة على المساجد، بل يسارع الوالي لفرض أئمة وخطباء كبدلاء للأئمة القتلى».
إضافة لذلك؛ تم تغيير ٢٤ خطيبا وإماما من خطباء المساجد في عدن، معظمهم من الجماعة السلفية، وتعيين بدلاء عنهم من مكتب الأوقاف بالتنسيق مع ابن بريك أيضا، واعتقال عدد من رموز التيار السلفي، وعلى رأسهم الشيخ السلفي عبد الله اليزيدي والشيخ أحمد بن رعود، بما برره ابن بريك نفسه في تغريدات على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي تويتر بـ «ضرورة أن يتم تجريد الجيش والداخلية والمساجد والقضاء من أي ولاء حزبي، فهي أساس استقرار المجتمع»، معتبراً أن «الجمعيات الخيرية، المزعومة سلفية في اليمن، استطاعت أن تفعل ما لم تفعله الجماعة الأم من نشر الفكر التكفيري، وتأهيل الانتحاريين».
اكتمل عقد من القرائن البارزة، تشير بوصلتها على الأرجح لتورط إماراتي باستخدام رجلها هاني بن بريك بكل هذه الفوضى، بانقلاب داخلي تمثل ببيان من مجموعة تسمي نفسها “أهل السنة والجماعة السلفيين”، تهاجم ابن بريك وتحمّله المسؤولية وتتهمه ضمنيا بعمليات الاغتيال، وبكشف معلومات من ملف اغتيال محافظ عدن السابق، اللواء جعفر سعد، تثبت تورط ضباط إماراتيين ومعهم ابن بريك في دفع مبالغ تصل إلى مئة ألف دولار، مقابل كل عملية اغتيال لشخصيات في “المقاومة الجنوبية” وفي الحركة السلفية التي هي على خلاف مع “الحزام الأمني” وأبو ظبي رأسا.
الغرباء
كان موقف الشيخ المغتال عبد الرحمن العدني مع الشيخ السلفي الآخر هاني بن بريك حدثا فارقا في الدوائر السلفية اليمنية، وأصبحت مكان استشهاد وجرح وتعديل تحت اسم: “قضية الغرباء”، ففي إحدى الحوادث والنقاشات المطولة، أوردها شيخ سلفي يسمى “محب الدين العدناني” ضمن مآخذ كثيرة له على ابن بريك، ووصل بها إلى نتيجة مفادها أنه، أي ابن بريك، إما «حزبي»، أي من المنتسبين للإسلام السياسي والمقصود بهم هنا حزب الإصلاح، «متلبسًا بالسلفية لكن هذه الصور أظهرته على حقيقته، وإما أنه تنازل للحزبيين لنيل شيء من حطام الدنيا، جنسية أو نحوها».
لم يكن هذا موقف الشيخ العدناني المغمور وحسب، فحين سئل الشيخ ربيع المدخلي، شيخ الطريقة المدخلية التي تحرم الخروج على ولي الأمر وأحد أكبر مشايخ السلفية المعاصرين اليوم، عن الشيخ السلفي هاني بن بريك، نفى عنه العباءة السلفية كذلك، لكنه وصفه بشكل مختلف، بأنه: «كان يدعي السلفية ولكن السياسة جرفته فانحرف انحرافا شديدا؛ فصار ديمقراطيا، واشتراكيا مع الاشتراكيين، وأدار ظهره للمنهج السلفي»، والذي جاء بعد بيان كبار المشايخ السلفيين في اليمن، ومن بينهم العدني المغتال، حذروا به مما أسموه “فتنة” هاني بن بريك، داعين به إلى الابتعاد عنه وهجره وترك مجالسه.
لا تبدو شخصية هاني بن بريك الدينية واضحة تماما، فهو شيخ سلفي يخالف جوهر السلفية بالدعوة للخروج إلى الحاكم، يحذر منه الشيوخ السلفية اليمنيون، ويقول عنه الشيوخ الكبار إنه ديمقراطي واشتراكي، ويصفه بعضهم بأنه حزبي، في حين يبدو أن الصفة الأكثر ملائمة له هي منصبه العسكري: قائد قوات الحزام الأمني، ورجل الإمارات في اليمن، الذي تستخدمه كمجرد أداة لتنفيذ سياسة إماراتية في جنوب اليمن، من خلال اختراق السلفية في البداية واستقطابهم من خلاله، ثم حرقهم في الحرب أو برصاص المجهولين.