ادخل أي بقالةٍ في العراق وستجد البضائع الإيرانية مُتكدِّسَة فوق الأرفف؛ حليب، وزبادي، ودجاج. افتح التلفاز وسترى قناةً تلو الأخرى تبث برامج متعاطفة مع إيران.
مبنى جديد انتهى بناؤه؟ غالباً جاء الطوب والإسمنت من إيران. وعندما يرغب الشباب العراقيون في الانتشاء، سينتشون على مخدِّراتٍ محظورةٍ هُرِّبَت عبر الحدود الإيرانية.
وهذا بالكاد جزءٌ بسيطٌ مما يحدث.
تعمل الميليشيات المدعومة من إيران عبر البلاد بجِدٍّ على تشييد مَمَر يُنقَل عبره الجنود والأسلحة لقوات وكلائها في سوريا ولبنان. أما في أروقة السلطة في بغداد، فحتى أعلى مسؤولي الحكومة العراقية مرتبةً إما اختير بمباركة إيرانية، أو طُرِدَ بقرار إيراني، وفقاً لما ورد في تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
وكان البرلمان العراقي صوَّت، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي 2016، لصالح مشروع قانون يلحق قوات الحشد الشعبي بالقوات العراقية، لكن عدداً من النواب الممثلين للمكون السني في العراق قاطعوا تلك الجلسة، معتبرين أن من شأن ذلك أن “يعزز دور إيران في العراق ويزيد من سيطرة الشيعة على الحكم” حسب قولهم.
صدقت إيران
عندما غَزَت الولايات المتحدة العراق منذ 14 عاماً للإطاحة بصدام حسين، رأت في العراق حجر أساس لشرق أوسط ديمقراطي مقابل للغرب، وبُذِلَ من أجل ذلك الغالي والنفيس، إذ فقد 4500 أميركي حياتهم، وأُنفق أكثر من تريليون دولار أميركي لهذا الهدف.
أما إيران، فرأت من اليوم الأول شيئاً آخر: فرصة لصنع عراقٍ تابع، عدوها السابق الذي حاربت ضده بضراوة في الثمانينات بالأسلحة الكيماوية وحرب الخنادق التي شبهها المؤرخون بالحرب العالمية الأولى. وإذا نجحت إيران في مسعاها؛ لن يُشكِّل العراق أي تهديدٍ، وسيكون نقطة انطلاق يتوسع عبرها النفوذ الإيراني في المنطقة.
في ذلك الصراع، انتصرت إيران، وخسرت الولايات المتحدة.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ركز الأميركيون انتباههم على الحرب ضد تنظيم (داعش) في العراق، إذ أعادوا نشر خمسة آلاف جندي فيه، وساهموا في طرد الميليشيات من ثاني أكبر مدينة فيه؛ الموصل.
لكن مهمة إيران لم تغب عن ناظريها أبداً، أن تهيمن على جارتها بشكلٍ كاملٍ إلى درجةٍ يعجز فيها العراق عن تهديدها عسكرياً، وأن تستغل البلد لتتحكم بشكل عمليٍّ في ممر يصل طهران بالبحر المتوسط.
يقول هوشيار زيباري: “النفوذ الإيراني متفشٍّ”، ويضيف زيباري الذي خُلِعَ من منصب وزير المالية العام الماضي، 2016، بعد أن شكَّكَت إيران -على حد قوله- في علاقاته بالولايات المتحدة: “لإيران السلطة العليا”.
والزيباري الذي شغل سابقاً منصب وزير الخارجية، اختبر عن قرب قوة السيادة الإيرانية على الدولة العراقية.
يقول الزيباري إن الإطاحة به من وزارة المالية العام الماضي 2016 كانت لأن إيران اعتبرته مقرباً جداً من الولايات المتحدة. وصدَّق على هذه الرواية عضو برلماني شارك في الإطاحة بالزيباري، تحدث بشرط عدم ذكر اسمه تفادياً للغضبة الإيرانية.
وقال الزيباري، مستعيداً الأحداث في حوارٍ معه من قصره الجبلي بشمالي العراق، إن الرئيس باراك أوباما حين التقى بالعبادي، في أواخر سبتمبر/أيلول بالأمم المتحدة، ضغط شخصياً من أجل إنقاذ الزيباري. وحتى هذا لم يكن كافياً.
العبادي الآن في موقفٍ صعب. إن اتخذ أي خطوة يُمكن اعتبارها تصادمية مع إيران، أو من شأنها أن تُقرِّبه من الولايات المتحدة، فإن هذا كفيلٌ بتهديد مستقبله السياسي.
وقال عزت شهبندر، القيادي العراقي الشيعي البارز الذي عاش في المنفى بإيران في عصر صدام حسين: “كان أمامه خياران: الانحياز إلى الأميركان أو إلى الإيرانيين. واختار الأميركان”.
وضاعفت الهيمنة الإيرانية على العراق التوترات الطائفية في المنطقة، إذ استُنفِرَت دولٌ سُنيَّة حليفة لأميركا، كالمملكة السعودية، لمواجهة التوسع الإيراني.
لكن العراق ليس إلا جزءاً من مشروع إيران التوسعي، فقد استخدمت إيران قوتيها الناعمة والخشنة لمد نفوذها في لبنان، وسوريا، واليمن، وأفغانستان، وعبر المنطقة.
وأشارت الصحيفة إلى أن إيران دولة شيعية، والعراق ذو الغالبية الشيعية كانت تحكمه نخبةٌ من الأقلية السنية قبل الغزو الأميركي.
ونفوذُ إيران في العراق ليس في ازدياد فحسب، لكنه مُتنوِّعٌ أيضاً، ويبرز في الشؤون العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية.
لا سيادة للعراق
وفي بعض المراكز الحدودية في الجنوب، لا وجود لسيادة عراقية. إذ تمر حافلاتٌ مليئةٌ بجنود الميليشيات عبرها إلى إيران بمجرد فحص أوراقهم. يتلقون تدريباً عسكرياً ثم يذهبون إلى سوريا، حيث يقاتلون تحت قيادة الضباط الإيرانيين دفاعاً عن الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي الاتجاه المعاكس، تعبر شاحناتٌ تضخ المنتجات الإيرانية (طعام، وبضائع منزلية، ومخدرات محظورة) فيما أصبح سوقاً حيوياً.
وتقلب إيران الموازين لصالحها في كل جوانب التجارة. لدرجة أنها تجمع القمامة في مدينة النجف بعد اتفاق مجلس المحافظة مع شركةٍ إيرانية خاصة.
ولجأ أحد أعضاء المجلس، زهير الجبوري، في رده، إلى جملة عراقية شائعة الآن: “نستورد التفاح من إيران لنبيعه لاحقاً للحجاج الإيرانيين”.
وعلى المستوى السياسي، تملك إيران عدداً كبيراً من الحلفاء في البرلمان العراقي يُمَكِّنها من تأمين مصالحها. كما منحها نفوذها في اختيار وزير الداخلية، عبر ميليشيا وجماعة سياسية أسستهما إيران في الثمانينات لمواجهة صدام حسين، سيطرةً حقيقية على تلك الوزارة وعلى الشرطة الاتحادية.
والآن، مع اقتراب الانتخابات البرلمانية الجديدة، بدأت الميليشيات الشيعية في تنظيم نفسها سياسياً لصراعٍ قد يؤدي لزيادة الهيمنة الإيرانية على النظام السياسي في العراق.
ومن أجل تفوُّقٍ أكبر عبر موجات الأثير، تبث قنواتٌ تلفزيونية جديدة تُموِّلها إيران وتربطها علاقات بالميليشيات الشيعية تغطيةً إخبارية تظهر إيران بمظهر حامي العراق، وأميركا بمظهر الدخيل المخادع.
وسعياً منها لكبح إيران، أشارت الولايات المتحدة إلى أنها ستترك جزءاً من قواتها في العراق بعد انتهاء المعركة مع داعش. ويُذكَر أن دبلوماسيين أميركيين قد عملوا على تعزيز دور قوات الأمن الحكومية في القتال، ودعم رئيس الوزراء، حيدر العبادي، الذي بدا أكثر انفتاحاً تجاه الولايات المتحدة أكثر من إيران.
لكن بعد انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ في عام 2011، لا يزال الاستمرار الأميركي موضع تساؤل، خاصة مع الفشل الكبير في السياسة الخارجية الأميركية في ظلِّ ثلاث إدارات.
أما إيران فكانت تلعب لعبةً أكثر عمقاً؛ إذ استغلت العلاقات الدينية الواسعة مع أغلبية العراق الشيعية والشبكة الأكثر اتساعاً من حلفائها المحليين، كما تُروِّج لنفسها على أنها حامي العراق الوحيد الجدير بالثقة.
طريقٌ إلى البحر
قد لا يبدو المشروع الإيراني الهائل شرقي العراق كبيراً: مجرد طريق ترابي طوله 24 كيلومتراً، يملؤه الحصى، ويمر بالصحراء قرب الحدود في محافظة ديالى، شرقي العاصمة بغداد.
لكنه موطئ قدم جديدة ومهمة لطريق إيران من العراق إلى سوريا، وما يعبره – ميليشيات شيعية، وفود إيرانية، إمدادات عسكرية وتجارية- هو أهم ميزة فيه.
وهو جزءٌ مما يصفه المُحلِّلون والمسؤولون الإيرانيون بأنه طموح إيران الأكثر إلحاحاً: استثمار فوضى المنطقة لفرض نفوذها على العراق وغيره.
وفي النهاية، يقول المُحلِّلون، يمكن لإيران أن تستخدم الممر المُشيَّد على الأرض عن طريق ميليشيات تحت قيادتها، لشحن الأسلحة والإمدادات لوكلائها في سوريا، حيث تعتبر إيران داعماً رئيسياً للأسد، وفي لبنان لحليفها حزب الله.
وعند الحدود الشرقية يوجد معبرٌ شيَّدته إيران مؤخراً وهي المسؤولة عن تأمينه. ويمكن القول إن هذا المعبر غير متوازن، تماماً كالعلاقة بين البلدين. وتتضمَّن حركة مرور الحاجز اليومية حوالي 200 شاحنة إيرانية، تحمل الفواكه والزبادي، والإسمنت والطوب إلى العراق. وفي مكاتب حرس الحدود العراقيين، تُقَدَّم للضيوف حلويات ومشروبات غازية إيرانية.
ولا تعبر شاحناتٌ مُحَمَّلة إلى الناحية الأخرى، إذ يقول وحيد غاتشي، المسؤول الإيراني عن المعبر في حوار معه: “ليس لدى العراق ما يقدمه لإيران”، ويضيف بينما هو جالسٌ في مكتبه والمقطورات تدخل العراق: “يعتمد العراق في كل شيء على إيران، إلا النفط”.
وبالإضافة إلى ذلك، تعد النقطة الحدودية معبراً في غاية الأهمية لقيادة الجيش الإيراني، إذ يرسلون عبره السلاح والإمدادات الأخرى لوكلائهم الذين يحاربون داعش في العراق.
تغيير هوية ديالى
وبعد اجتياح داعش لمحافظة ديالى والمناطق المجاورة في 2014، جعلت إيران تصفية المحافظة، المتنوعة بسكانها السنة والشيعة، أولويةً.
إذ جهَّزت قوة ضخمة من الميليشيات الشيعية، معظمهم تدرب في إيران ويتلقون الاستشارات على الأرض من مسؤولين إيرانيين. وبعد تحقيق انتصارٍ سريع، شرع الإيرانيون وحلفاؤهم في تأمين مصالحهم القادمة في المنطقة، وهي تهميش الأقلية السنية بالمحافظة وتأمين ممر لسوريا.
وقاتلت إيران بضراوة لتُبقي على حليفها الأسد في السلطة، لتبقى على اتصالٍ جغرافي مع أهم مشاريعها في المنطقة، حزب الله، القوة العسكرية والسياسية التي تهيمن على لبنان وتهدد إسرائيل.
كلمة واحدة من اللواء قاسم سليماني، القائد العسكري الأقوى في إيران، أرسلت جيشاً متدافعاً من المقاولين العراقيين ليُجهِّزوا الشاحنات والجرافات لتبدأ في بناء الطريق، مجاناً. وأُمر جنود الميليشيات الموالية لإيران بتأمين الموقع.
عدي الخدران، شيعي يترأس بلدية خالص في ديالى، عضوٌ في منظمة بدر، وهي ميليشيا وحزب سياسي عراقي أُسِّسَ في طهران في الثمانينات لمحاربة صدام حسين أثناء الحرب الإيرانية العراقية.
في ظهيرة أحد الأيام مطلع هذا العام، 2017، بسَطَ خريطةً فوق مكتبه وتحدث متفاخراً عن جهوده في بناء هذا الطريق، الذي قال إنه نُفِّذَ بأمرٍ من اللواء سليماني قائد فيلق القدس، أحد أفرع قوات الحرس الثوري والمسؤول عن العمليات الخارجية.
وكان سليماني قد وجَّه سراً السياسة الإيرانية في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وتسبَّبَ في مقتل مئات الجنود الأميركيين في هجماتٍ شنَّتها ميليشيات تحت قيادته.
يقول الخدران: “أحب قاسم سليماني أكثر من أولادي”.
وكذلك ذكر الخدران أن الطريق الجديد سيكون مختصراً للحجاج القادمين من إيران إلى سامراء، حيث ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري.
لكنه اعترف أيضاً بالأهمية الاستراتيجية الأكبر للطريق، باعتباره ممراً لتأمين وكلاء إيران الممتدين لما بعد وسط وشمالي العراق.
وتحاذي سلسلة الطرق المتصلة غربي الموصل وتمتد لمدينة تلعفر، حيث شيَّدَ المستشارون الإيرانيون والميليشيات قاعدةً في مهبط الطائرات على ضواحيها.
يرى علي الدايني، الرئيس السني لمجلس البلدية هناك، أن “ديالى ممر لسوريا ولبنان، وهذا مهم جداً بالنسبة لإيران”.
يقول الدايني إنه كان عاجزاً عن إيقاف ما وصفه بالهيمنة الإيرانية في ديالى.
وعندما يذهب الدايني إلى العمل، فإنه يمر، على حد قوله، بملصقات لقائد الثورة الإيرانية، آية الله الخميني، أمام مبنى البلدية.
هل إيران أذكى من أميركا؟
ووجّهت للميليشيات التابعة لإيران اتهامات بالإبادة الطائفية الواسعة، وطرد السنة من بيوتهم ليُرسِّخوا الهيمنة الشيعية ويُشكِّلوا منطقةً عازلة على الحدود. ورغم هزيمة داعش في ديالى منذ عامين، لا تزال عائلات السنة التي تملأ المُخيَّمات البائسة عاجزة عن العودة لبيوتها.
وصارت ديالى الآن نموذجاً للطريقة التي ترى بها إيران السيادة الشيعية ضرورية لمصالحها الجيوسياسية.
وترى نجاة الطائي، العضوة السُّنيَّة بمجلس المحافظة، أن “إيران أذكى من أميركا”، وتضيف الناقدة الصريحة لإيران، التي تزعم أن طهران دبَّرَت محاولات اغتيال عديدة ضدها: “حقَّقَت إيران أهدافها على الأرض. أما أميركا فلم تحمِ العراق. فقط أطاحوا بالنظام ثم سلَّموا البلاد لإيران”.
وتحرَّكت الميليشيات الموالية لإيران غرباً بالقرب من سوريا، إذ اشتدت الحرب ضد داعش هناك في الشهور الأخيرة. وسيطرت الميليشيات على مدينة البعاج، ثم تقدَّمت نحو الحدود السورية، ما يضع إيران على شفا إتمام الممر.
الطريق إلى سوريا
وكان مراسل صحيفة الغارديان البريطانية قد شهد، في منتصف يونيو/حزيران 2017، من مدينة البعاج العراقية المحاذية للحدود السورية وصول قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، بحسب ما نقلت عنها “بي بي سي”، كما حاور أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، الذي قدم إلى البعاج لتحية مقاتليه والإشادة بانتصاراتهم ضد التنظيم المسمى الدولة الإسلامية.
ووصف تشولوف الدمار شبه الكامل الذي وجده في محيط مدينة البعاج، وهو ما فسره أبو مهدي المهندس بقوله “هزمت القاعدة لكنها ما لبثت أن عادت باسم الدولة الإسلامية، وإن لم ندمر كل هذه المنطقة لعاد تنظيم الدولة مجدداً باسم جديد”.
وبالموازاة مع تقدم قوات الحشد الشعبي في العراق نحو الحدود السورية، تقدمت قوات أخرى موالية لإيران في سوريا نحو الحدود العراقية إلى أن التقت القوتان، على الحدود بين مدينتي الميادين العراقية ودير الزور السورية، وهو ما اعتبر لحظة فارقة في الحرب السورية وفي المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
لماذا هذه الرغبة في السيطرة؟
شكَّلَت الحرب طويلة الأمد مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي حياة الجنرال سليماني، علاوة على قيادات أخرى رفيعة المستوى في طهران. وخلَّف النزاع مئات الآلاف من القتلى من الجانبين، وأمضى الجنرال سليماني معظم الحرب على الجبهة، صاعداً في المراتب في حين كان الكثير من الضباط يُقتَلون.
يقول علي فايز، مُحلِّل الشأن الإيراني بمجموعة الأزمات الدولية المختصة بحل النزاعات: “كانت الحرب الإيرانية العراقية هي التجربة التأسيسية لكل القادة الإيرانيين؛ من سليماني نزولاً إلى المراتب الدنيا. كانت لحظة عزموا على ألا تتكرَّر أبداً”.
ولم يُحلّ بعدُ النزاع الحدودي على ممر شط العرب المائي، الذي كان عاملاً في نشوء العداوات بين البلدين. وقد أثَّرَت تركة الحرب الوحشية على الحكومة الإيرانية منذ ذلك الحين، من سعيها إلى امتلاك الأسلحة النووية إلى سياساتها في العراق.
وقال موفق الرباعي، وهو مُشرِّعٌ ومُستشارٌ سابق للأمن الوطني: “هذه ندبةٌ لا تزول من عقولهم. هم مهووسون بالبعثية وصدام والحرب الإيرانية العراقية”.
ويقول مُحلِّلون إن تركة تلك الحرب والندوب التي خلَّفَتها هي ما يُحرِّك الطموحات الإيرانية في السيطرة على العراق أكثر من أي شيءٍ آخر.
وتتواجد علامات النفوذ الإيراني في كل مكانٍ من جنوبي العراق، حيث غالبية السكان من الشيعة.
والميليشيات المدعومة من إيران هي الجهات المُدافعة عن مُقدَّسات الشيعة في مدن النجف وكربلاء التي تُحرِّك التجارة والسياحة. وتحصد الأحزاب السياسية المدعومة من إيران الأغلبية في المجالس المحلية، وتُركِّز مواد الحملات الدعائية على علاقات المرشحين بأولياء الشيعة والشيوخ الإيرانيين.
ويقول مشتاق العبادي، وهو رجلُ أعمالٍ من منطقةٍ قريبة من النجف، إنه لو كانت الحكومة العراقية أقوى “لربما استطعنا افتتاح مصانعنا الخاصة بدلاً من اللجوء إلى إيران”. وقال إن مخازنه مُكدَّسة بالواردات الإيرانية لأن حكومته لم تفعل شيئاً لتشجيع القطاع الخاص أو حراسة الحدود أو فرض الجمارك.
يدمرون اقتصاد العراق
ويستورد رعد فاضل العلواني، وهو تاجرٌ من مدينة الحلة الجنوبية، اللوازم وبلاط الأرضيات من إيران. ويلصق رعد مُلصقات “صُنِعَ في العراق” بالعربية على زجاجات المنظفات، لكنه في الواقع يملك مصنعاً في إيران لأن العمالة رخيصة هناك.
قال: “أشعر بأنني أُدمِّر اقتصاد العراق”. لكنه أصرَّ على أن الساسة العراقيين، بانصياعهم للضغوط الإيرانية ورفضهم دعم الصناعة المحلية، قد صعَّبوا فعل أي شيء آخر.
وتستقبل النجف ملايين الحجاج الإيرانيين كل عام لزيارة ضريح الإمام علي، إمام الشيعة الأول، وقبته الذهبية. وأيضاً يتوافد عمال البناء الإيرانيون -والمسؤولون العراقيون يعتبرون كثيراً منهم جواسيس- إلى المدينة من أجل ترميم الضريح وبناء الفنادق.
وفي محافظة بابل، تولَّى قادة الميليشيات مشروعاً حكومياً لتركيب كاميرات مراقبة بطول الطرق الاستراتيجية، وفقاً لمسؤولين محليين. ويقول مقداد عمران، وهو نقيبٌ في قوات الجيش المُتمَركِزَة في المنطقة، إن المشروع كان قد مُنِحَ لشركةٍ صينية قبل تدخل الميليشيات، والآن أُبعِدَ الجيش والشرطة المحلية عنه.
متمسكون بهويتهم
ولم يأتِ التفوُّق الإيراني في الجنوب العراقي دون إثارة مشاعر البغضاء. فالشيعة العراقيون يربطهم دينٌ واحد بإيران، لكنهم مُتمسِّكون أيضاً بهوياتهم الأخرى العراقية والعربية.
ويقول الشيخ فاضل البديري، وهو إمامٌ بالحوزة العلمية في النجف: “ينتمي العراق إلى جامعة الدول العربية، لا إلى إيران. الشيعة أغلبية في العراق، لكنهم أقلية في العالم. وطالما تُسيطر الحكومة الإيرانية على حكومة العراق، فما من فرصةٍ أمامنا”.
وفي منطقةٍ لم يُهدِّدها داعش قط، تتعامل إيران مع مخاوفها الأمنية عن طريق التلاعب الاقتصادي، وفقاً لمسؤولين عراقيين. إذ تُموِّل إيران التجارة في الجنوب بالدفع الآجل، وتُقدِّم الحوافز للتجار العراقيين لكي يضعوا نقودهم في البنوك الإيرانية.
ويقول انتفاض قنبر، المساعد السابق للسياسي العراقي أحمد شلبي الذي توفي في عام 2015، إن بنوك بغداد تلعب دور الركائز المالية للشركات العراقية الوهمية التي تستغلها إيران للحصول على دولارات تمول بها الأهداف الإيرانية الجيوسياسية الأوسع نطاقاً.
وأضاف: “من المهم جداً للإيرانيين استمرار الفساد في العراق”.
قتلة الحسين
لعقودٍ طويلة هرَّبت إيران الأسلحة النارية ولوازم صناعة القنابل، عبر المستنقعات الشاسعة جنوبي العراق. وانتقل الشباب ذهاباً وإياباً عابرين الحدود، من منزلٍ آمن إلى آخر، مجندون يتجهون إلى إيران لتلقي التدريبات، ثم العودة إلى العراق من أجل القتال. في البدء كان العدو صدام حسين، بعدها صار الأميركان.
واليوم، تُجنِّد عناصر الحرس الثوري الإيراني علناً مقاتلين من مدن العراق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. وتعبر حافلاتٌ مملوءةٌ بالمجندين بسهولةٍ عبر نقاط المراقبة الحدودية التي يقول مسؤولون إنها تحت سيطرة إيران، عن طريق الجماعات الموالية لها على الجانب العراقي وجنود حرس الحدود الإيرانيين على الجانب الآخر.
وبينما شكَّلَت إيران ميليشياتٍ للقتال ضد داعش في العراق، فإنها حشدت أيضاً جيشاً من شباب الشيعة العراقيين الساخطين من أجل القتال نيابةً عنها في سوريا.
أما محمد خادم، 31 عاماً، وهو واحدٌ من جنود المُشاة التابعين لإيران، وخدم في ثلاث جولاتٍ في سوريا، فيقول إن نبرة التجنيد تستنِد في أغلب الأحيان إلى العقيدة، والدفاع عن مُقدَّسات الشيعة في سوريا. لكن ما دفع خادم وأصدقاءه لتسجيل أسمائهم كان الحاجة الملحة إلى وظيفة.
يقول: “كنت فقط أبحث عن المال. أغلب الشباب الذين قابلتهم ممن يقاتلون في سوريا يفعلون ذلك من أجل المال”.
وسجَّل خادم اسمه مع مسؤولٍ عن التجنيد في النجف، ثم استقلَّ حافلة مرت بجنوبي العراق ومنه إلى إيران، حيث تلقى تدريباتٍ عسكرية بالقرب من طهران.
ثمَّ ألقى الضباط الإيرانيون خطاباتٍ تستحضر شهادة الإمام الحسين، الذي أصبح مقتله على يد جيش قوي من السنة، حسب وصف الصحيفة (جيش الأمويين) حدثاً يلتف حوله الشيعة روحياً. وقال الضباط إن أعداء الشيعة قتلة الإمام عادوا الآن إلى سوريا والعراق.
وبعد سفره إلى إيران، عاد خادم إلى الوطن من أجل نيل فترةٍ من الراحة ثم نُقِل إلى سوريا، حيث درَّبه رجالُ حزب الله على تكتيكات القنص.
هل ينجح الحكم الديني بالعراق؟
وأدَّى التركيز الإيراني على الدفاع عن العقيدة الشيعية بالبعض إلى استنتاج أن هدفها النهائي هو التأسيس لحكمٍ ديني على الطراز الإيراني في العراق. لكن هناك إحساساً عاماً مقيماً بأن هذا لن ينجح في العراق، الذي يتميَّز بكتلةٍ أكبر بكثير من السكان الأصليين السنة وتقاليدهم، علاوة على أن عُلماء العراق في النجف يُعارضون النظام الإيراني، ومن ضمنهم السيد آية الله علي السيستاني، المرجع الديني الأكبر للشيعة في العالم.
لكن إيران تتخذ خطواتٍ تجاه تحويل قوتها المسلحة إلى نفوذٍ سياسي، كما فعلت مع حزب الله في لبنان، وبدأ قادة الميليشيات تنظيم صفوفهم السياسية قبل الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها العام المقبل، 2018.
في أبريل/نيسان 2017، ألقى قيس الخزعلي، قائد إحدى الميليشيات الشيعية، خطاباً أمام جمهورٍ من طلبة الجامعة العراقيين، مهاجماً الولايات المتحدة والمُخطَّطات التركية والسعودية الشريرة. بعدها وقف شاعر من عصبة الخزعلي وبدأ يُكيل المديح للجنرال سليماني.
وكانت هذه القشة التي قسمت ظهر البعير عند الطلاب الذين بدأوا بالهتاف “فلترحل إيران! فلترحل إيران!”، واندلعت المشادات بين الطلبة والحراس الشخصيين للخزعلي، الذين أطلقوا نيران البنادق في الهواء خارج أسوار المبنى.
وقال مصطفى كمال، طالبٌ بجامعة القادسية في مدينة الديوانية جنوبي العراق، وأحد المشاركين في التظاهرات: “ما استفزنا حقاً كان الشاعر”.
وسُرعان ما تعلَّم كمال وزملاؤه خطورة الوقوف في وجه إيران هذه الأيام.
أولاً بدأ رجال الميليشيات في التهديد باختطافهم، ثم هاجمتهم وسائل الإعلام المرتبطة بالميليشيات، ونشرت صورهم ونعتتهم بالبعثيين وأعداء الشيعة. وحين ظهرت سيارةٌ مُريبةٌ خارج منزل كمال، فزعت الأم مُعتقِدَةً أن رجال الميليشيات قد جاؤوا من أجل ابنها.
وفي النهاية تلقَّى كمال طالب القانون وثلاثة من أصدقائه إخطاراتٍ من الجامعة بفصلهم عاماً.
يقول: “ظننا أن هناك أملاً واحداً باقياً: الجامعة. ثم تدخلت إيران فيها أيضاً”.
ويُجري الخزعلي، قائد منظمة عصائب أهل الحق السياسية المسلحة وثيقة الثقة بإيران، الآن جولةً خطابية بالجامعات العراقية، كجزءٍ من جهودٍ تستهدف حشد الدعم السياسي في الانتخابات الوطنية العام المقبل. وأثار هذا مخاوف من أن إيران لا تحاول فقط تعميق نفوذها في المؤسسة التعليمية الإيرانية، بل تسعى أيضاً إلى تحويل ميليشياتها إلى منظمات سياسية اجتماعية صريحة، كما فعلت مع حزب الله في لبنان.
تقول بيروان خيلاني، المُشرِّعة وعضوة لجنة التعليم العالي بالبرلمان العراقي: “إنه نوعٌ جديد من الاختراق الإيراني وتوسع نفوذ إيران. تُريد إيران السيطرة على الشباب وتلقينهم المعتقدات الإيرانية عبر العراقيين الموالين لإيران”.
السيادة السياسية
ويبدو العبادي، الذي تولى منصبه في 2014 بدعمٍ من الولايات المتحدة وإيران، أكثر جرأةً على مواجهة الضغوط الإيرانية منذ تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة.
شجَّع العبادي مشروعاً طموحاً بالتعاون مع شركة أميركية لتأمين الطريق السريع بين بغداد وعمَّان الأردنية، وهو مشروعٌ عارضته إيران. وبدأ العبادي أيضاً في مناقشة بنود اتفاقية مع الولايات المتحدة تبقى بموجبها القوات الأميركية في العراق بعد هزيمة داعش.
وقال ريان كروكر، السفير الأميركي إلى العراق بين عامي 2007 و2009، إن الولايات المتحدة إن غادرت مرة أخرى بعد هزيمة الدولة الإسلامية فإنها “فعلياً ستسلم مقاليد الحكم للإيرانيين دون مقابل”.
لكن كثيراً من العراقيين يرون أن الإيرانيين بالفعل يمسكون بمقاليد الحكم دون مقابل. وفي حين تُلمح إدارة ترامب إلى أنها ستولي اهتماماً أكبر للعراق كأداة لمواجهة إيران، يبقى التساؤل حول ما إذا كان الوقت قد فات.
وقال سامي العسكري، السياسي الشيعي البارز وثيق الصلة بالإيرانيين والأميركيين في آنٍ: “لن تجلس إيران صامتةً مكتوفة اليدين. إن لديها من الوسائل الكثير. وبصراحةٍ، لا يقدر الأميركيون على فعل شيء”.
*هاف بوست عربي