وثقت كوادر طبية سودانية، أحد المشاهد التي شهدتها أكبر المستشفيات الخاصة بالعاصمة الخرطوم، عقب عملية فض اعتصام المحتجين أمام مقر القيادة العامة للجيش.
وقال نائب مدير المستشفى الخاص محمد عبد الرحمن إن “بعض رجال المليشيات الذين داهموا الاعتصام المؤيد للديمقراطية، حاصروا مستشفى رويال كير في الخرطوم لملاحقة المحتجين الذين لجأوا إلى المبنى”، مضيفا أن “الناس كانوا يبكون ويصرخون (..) وكانوا يتوسلون للمغادرة”.
وتابع عبد الرحمن في حديثه لـ”رويترز”: “بينما كنا نحاول التعامل مع مئات يصلون في حالة خطيرة”.
وكانت لجنة أطباء السودان أكدت أن 113 شخصا قتلوا خلال اجتياح مخيم الاعتصام الاثنين الماضي، بينما تقول الحكومة إن عدد القتلى 61 بينهم ثلاثة من قوات الأمن.
وبعد اندلاع أعمال العنف، سرعان ما أعلن المستشفى الذي يضم 100 سرير، العمل بكامل طاقته لكن لم تكن هناك خيارات متاحة أمام الأطباء.
وكان هناك 300 شخص، إما أصيبوا بطلقات رصاص أو تعرضوا للضرب بالهراوات أو بعصي خشبية طويلة، في حاجة ماسة للعلاج، وكان المستشفى غير قادر على التعامل مع هذا الوضع الصعب.
عمل الأطباء المنهكون وأطقم العمل الأخرى على مدار الساعة دون أي فرصة لالتقاط الأنفاس، لأن زملاءهم لا يستطيعون الوصول إلى أكبر مستشفى خاص في السودان.
لا يوجد في المستشفى سوى 20 طبيبا، وفضلا عن مهمتهم الأساسية المتمثلة في علاج المرضى، فقد تولوا مهام التمريض والمهام الإدارية حتى إنهم قاموا بتنظيف الأرضيات نظرا لعدم وجود أي شخص آخر للقيام بهذه المهمة.
وقال رماح رحمة وهو مسؤول إداري كبير في المستشفى: “شعرت بالضيق الشديد لوجودي في المنزل لكن لم يكن بوسعي القيام بأي شيء (..)، إما أن الطرق مغلقة أو أضطر للعودة إلى المنزل بسبب إطلاق النار”.
وتوفي ستة أشخاص متأثرين بجراحهم جراء طلقات الرصاص، ولفظ اثنان منهم أنفاسهما الأخيرة قبل الوصول إلى المستشفى، لكن غالبية الأشخاص يعانون من كسور العظام وإصابات الجلد بالسياط التي تترك ندبات طويلة على ظهورهم.
وقال عبد الرحمن: “تم ضربهم بالهراوات في الغالب على أعلى الذراعين والكتفين وأسفل الساقين لا سيما عند الكاحل”، مشيرا إلى أن مستويات التوتر وصلت إلى ذروتها، بعد وصول قوات الدعم السريع بالمئات في شاحنات صغيرة، وشكلت طوقا حول المستشفى للبحث عن المحتجين.
وقوات الدعم السريع متهمة بارتكاب إبادة جماعية في الحرب على المتمردين في دارفور، في حين نفت حكومة البشير آنذاك ارتكاب إبادة جماعية.
ولم يتسن الاتصال بقوات الدعم السريع للتعليق.
وقال المجلس العسكري الانتقالي إن القوات لديها سجل قوي في مكافحة الإرهاب، وإن هناك حملة ملفقة على وسائل التواصل الاجتماعي تهدف إلى تشويه صورتها.
عظام مهشمة
والجمعة، لم تكن هناك قوات تابعة لقوات الدعم السريع في محيط المستشفى، كان البعض في حالة استرخاء يحتسي الشاي على جوانب الطرق خارج وزارة الدفاع، حيث كان مئات آلاف المحتجين يحتشدون للمطالبة بالديمقراطية.
وكان قلة منهم، ممن كانوا يوما يلوحون بقبضات أيديهم في الهواء مطالبين بتغيير جذري، يجمعون القمامة من موقع مخيم الاحتجاج السابق، حيث تجمع الناس من جميع مناحي الحياة من النساء والمراهقين والأطباء والمحاسبين والبائعين.
ولم تكن هناك أي حركة تذكر في المستشفى، ووقفت بعض الممرضات بهدوء في مواقعهن، وكانت غرفة الطوارئ فارغة، وكانت المختبرات خالية.
وفي ذروة الأزمة، عندما كان المرضى في حاجة ماسة إلى الدواء والإمدادات الأخرى، كانت سيارة الإسعاف الوحيدة المستخدمة في المستشفى هي السيارة الوحيدة المتاحة، لأن الأطباء يخشون من استهداف السيارات الأخرى.
وقال عبد الرحمن: “لم أمر قط بتجربة مماثلة (..)، اعتدت على العمل في مستشفى الجيش وكان الأمر بسيطا”، ومضى يقول: “تعالج جنديا ويقول لك إنه سيذهب إلى المنزل، وهنا يريد كل مريض أن يروي لك حكايته لكن عليك الانتقال لمريض آخر بجانبك”.
وفي أحد أجنحة المستشفى، استلقى الضحايا على الأسرة بينما تم تثبيت دعامات معدنية في سيقانهم وأذرعهم بعد أن هشمها الرصاص.
وقضى البعض أوقاتهم في منطقة الاعتصام وهم يستمعون إلى قادة المعارضة يتحدثون أو يطالعون صور ضباط الجيش الذين أُعدموا بناء على أوامر من البشير، كانت تحدوهم آمال كبرى في مستقبل أكثر إشراقا، حتى بدأ إطلاق النار الاثنين.
وقال مريض آخر يدعى محمد عبد الباقي إنه “غير مهتم بالسياسة ولم يشارك في الاعتصام، وكان في السوق لشراء الملابس للاحتفال بعيد الفطر”.
وأضاف التاجر البالغ من العمر 22 عاما: “ظهرت قوات الأمن وبدأت بإطلاق النار”، لافتا إلى أنه يتطلع للانتقال للعيش في السعودية، من أجل حياة أفضل وإن قراره لا علاقة له بالسياسة.
ولا يزال بعض السودانيين يتطلعون إلى مستقبل أفضل للسودان، رغم الثمن الباهظ الذي يدفعونه من أجل المطالبة بحكم مدني.
وفي نهاية جناح المستشفى، قال طالب جامعي إنه كان يأمل في أن تقف قوات الأمن إلى جانب الشعب السوداني، وبذل جهدا مضنيا كي يلوح بعلامة النصر، بينما تكاد يده تلمس دعامة معدنية مثبتة في ساقه.