أمام مشهد التخبّط التونسي ورائحة الأحكام العرفية والاستئثار بالحكم الذي أعلنه الرئيس التونسي قيس سعيد، كان لا بد من بحث قانونية ممارساته الأخيرة والشطحات التي أقدم عليها من وجهة نظر باحثين ومختصين في السياسة والقانون.
في حديث لـ”وكالة أنباء تركيا”، رأى الكاتب اللبناني الدكتور وسام سعادة أنه “لا يمكن استخدام توصيف انقلاب بشكلٍ ناجز على ما قام به سعيّد، إنما هناك تجاوز خطير باستخدام مادةٍ حساسة جدًا من الدستور بشكلٍ تحويري لها، بحكم أنها لا تجيز تجميد البرلمان إنما تنصّ على اعتباره بحالة انعقادٍ دائم في ظلّ حكم الاستثناء”.
وأضاف أنها “مادةٌ تفترض تشكّل طاقم المحكمة الدستورية، التي لم تشكل ولم يقرّ قانونها بعد، وهو أكر يحتاجه الدستور التونسي ليرسو على بر بين سلطة الرئيس المنتخب والسلطة المنبثقة من الانتخابات التشريعية، وعدم تشكيلها يمثل انعكاساً لانقسامٍ مجتمعيّ حاد، أمكن تجاوزه بصياغة الدستور، ليرجع ويظهر بموضوع المحكمة الدستورية كاستعصاء مزمن”.
واستغرب سعادة أن “قيس سعيد وهو أستاذ جامعي بالقانون الدستوري والأمين العام للجمعية التونسية للقانون الدستوري قبل أن يصبح رئيساً، قد مارس تعسّفاً موصوفاً في استخدام المادة 80، فهي تجبره على التشاور مع رئيس البرلمان قبل تطبيقها، وتجعل البرلمان بحالة انعقادٍ دائم.. لكن الرجل استخدم أول جملة في المادة ونسخ بقية المقاطع فيها”.
وأردف أنه “لا يمكن شطب التروما المصرية من الذاكرة، ولكن هناك فروقات شاسعة. فنحن نرى الغنوشي غير قادر على الدخول إلى مبنى البرلمان في تونس، أما في مصر فجرى اعتقال مرسي وكل قيادات حكمه وقيادات الإخوان في ليلة واحدة”.
وقال إن “الصراع الحالي في تونس هو بين رئيسٍ منتخب بانتخاباتٍ حرة تنافسية وبرلمان منتخب بانتخابات حرة تنافسية.. إنما في الوقت نفسه يحاول سعيّد أن يجمع بين الدعم الشعبي له ومساندة أمنية وعسكرية في إطار هذا الصراع”.
وأضاف سعادة أن “هذا لا يعني عدم وجود خطر أن يتحوّل الأمر إلى وضع انقلابيّ. بالنهاية هناك أمرٌ مُبهم، وهو تجميد البرلمان.. إذ يمكن فهم ما معنى دستور مجمّد وبرلمان محلول كما فعل مولانا عبد الحميد سنة 1878، حيث حلّ مجلس المبعوثان وجمّد العمل بالمشروطة.. لكن لا يمكن فهم ما معنى دستور نافد وبرلمان مجمّد”.
واعتبر أن “هذا الشيء يمكن أن يعني فرطاً للبرلمان de facto الحالي. ويمكن أن يعني نشأة سلطتين متعاركتين، كلّ واحدة تغنّي على ليلاها”.
كما تحدث سعادة عن قيس سعيّد قائلا ً إنه “شخصيًا غير مطروح ليصبح دكتاتوراً، إنما هناك خطر أن يزيد الطين بلّة في مشكلة المؤسسات الناشئة عن دستور ما بعد الثورة”.
وأعرب عن أن “التخوّف الأساسي من أن يفرض الجيش والجهاز الأمني نفسه على سعيد والإخوان في الوقت نفسه، ويقوّض السلطتين ذات الشرعية الشعبية تباعًا”.
واستشرف أن “يتبيّن خلال الأيام المقبلة من هو زين العابدين الجديد الذي يمسك بالأجهزة ويستفيد من مناكفات المؤسسات المنتخبة لبعضها البعض، رئاسة وبرلمانًا”، مستدركا بالقول “إلا إذا ذهب سعيّد إلى مكانٍ أكثر تصميمًا، مدعومًا بدعمٍ فرنسي وعربي باتجاه مثلاً حظر النهضة /الإخوان، يعني الذهاب بالتصادم باتجاه استئصالي”.
أما المحلل السياسي الكويتي الدكتور طلال الرشيد، فقال لـ”وكالة أنباء تركيا” إنه “مرة أخرى تظهر تونس للعالم أنها النموذج العربي الوحيد الذي يقبل التفاعلات والمماحكات الديموقراطية أو التجربة التي تضع للدستور حداً معقولاً من الاحترام”.
وتابع “مع تشمير ذراع كل الأطراف التي اتخذت موقفاً من قرار الرئيس التونسيّ بتجميد البرلمان والحكومة وهي المشكّلة على أساس مكوناته، بقيت هذه الممارسة من قبل الرئيس التونسي قيس سعيد محلاً للجدل القانونيّ والسياسي ولا سيما أنها لا تخلو من الغموض وخاصة على بعض من تلك الأطراف التي ظنّت لوهلة أن ذلك هو المخاض المنتظر للثورة المضادة وميلاد جديد للدكتاتورية التي بادت بالربيع العربي في منصة انطلاقه في تونس عام 2011”.
وفي قراءته لمسار الديمقراطية الحديث في تونس، قال الرشيد “لو تتبعنا الأحداث في تونس ووضعنا نتائج التجربة الديموقراطية على ميزان الجدوى من ممارستها بعد عهد طويل من الدكتاتورية الممهورة باسم الوطنية، لوجدنا أنها لم تجنح عنها بعيداً على كثير من الأصعدة في النظام السياسي قبل قيام الثورة. فباتت وهي لم تجعل من رغد المواطن التونسي أولوية أو على الأقل أن تجعل له حماية من نتائج المعارك السياسية بين الأحزاب أو الفعاليات السياسية فيما بينها أو نتائج تحالفاتها المصلحي ورؤوس الأموال وأصحابها”.
وأضاف “أتت جائحة (كورونا) ومعها ذلك الميزان لتكشف عن مكامن الخلل في النظام السياسي في كثير من دول العالم وكانت من بينها تونس التي لم تسعفها مناعتها السياسية من حيث الممارسة الديموقراطية، بل كانت سببًا لمضاعفاتٍ أكثر حدة وذلك عندما تفشّت تلك الجائحة حقيقةً في المجتمع التونسيّ ومَجازاً في النظام السياسيّ والإداريّ الذي بادرت عناصره ومكوناته برمي التهم واللوم إلى الأطراف المقابلة لها في المنافسة السياسية وضاع (الدم بين القبائل)”.
ورأى الرشيد أن “ركنية الحوار التي تميز النظام السياسي في تونس لم تعد ذات أثر، فنجد أن كل طرف أصبح يقتنص أخطاء الطرف الآخر بدلاً من الإضافة والنصح، بل والأدهى أن الطرف المتلقّي قد يكابر في خطئه الإجرائي ظناً منه أن تلك الآراء ما كانت إلاّ لتنال من حظوته السياسية مانعةً من استمراره في سدّة السلطة”.
وتابع أن “في القرار الذي صدر من وزير الصحة فوزي المهدي خير مثال، والذي تضمّن منح من تجاوز من العمر 18 عاماً في جميع أنحاء البلاد دون ضوابط تمنع من الاكتظاظ والفوضى التي قد تشكل حاضنة لانتشار فايروس كورونا المتحوّر في وقتٍ تعاني فيه البلاد من ارتفاع كبير في نسبة الإصابات مع غياب الإمكانيات للتصدّي لها”.
وهنا علّق الرشيد على الخلافات التونسية الداخلية بالقول “أضف إلى ذلك ما كان يظهر من مهاترات وجدالات عقيمة تكرّرت باستمرار في الآونة الأخيرة في البرلمان التونسي، والذي يعتبره التونسيون مثالاً شامخاً على التجربة الديموقراطية المثالية وضمانة رصينة للحقوق والحريات العامة”.
واتهم الرشيد البرلمان أنه “أفحل في إصدار قوانين الخصخصة التي جاءت جائحة (كورونا) لتقييم نتائجها، خاصة في القطاع الطبي الحكومي الذي أظهر نقصاً شديداً في كميات الأكسجين والطواقم الطبية بل وتعدّى ذلك النقص إلى الطاقة السريرية”.
وقال إن “المراقبين يعزون ذلك إلى تهافت الفاعليات الاقتصادية التي تكالبت لتعزيز إمكانياتها الطبية استعدادًا لدورها بعد خصخصة الخدمات الحكومية بمساعدة بعض النافذين في السلطة التنفيذية”.
ورأى الرشيد أنه “يمكن فهم ما ضمنه الرئيس قيس سعيد في خطاب التجميد أن البرلمان والحكومة قد فشلاً مجتمعين ومنفردين في رصد مواطن الخلل وعلاج الأمراض التي أصابت التجربة الديموقراطية التونسية ولا سيما في هذا الوقت الحساس الذي تمرّ فيه البلاد تحت تأثير تفشّي مرض كورونا بين أفراد المجتمع التونسيّ”.
وأضاف أن “الرئيس التونسي قام بممارسة ما سكت عنه الدستور التونسي في المادة (80) والخاصة بالإجراءات الاستثنائية التي تنص على أنه يحق لرئيس الجمهورية في حالة خطرٍ داهم مهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية”.
وبحسب الرشيد “اعتبر سعيد قرار التجميد تدبيراً حتّمته الحالة الاستثنائية في البلاد كما ومارس إجراء التجميد دون حل البرلمان الذي لم يسمح به الدستور التونسي للرئيس (لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة)”.
وفي هذا المجال قال الرشيد “لم تسعف الرئيس حصيلته القانونية الدستورية كونه معلماً لها في الجامعات، حيث رافق هذا الخطاب بعض الإجراءات التعسفية التي طالت منشآت الحكومة والبرلمان وبعض المكاتب الإعلامية بغلقها دون مسوّغ قانوني معتبر”.
ورأى أن “ذلك جعله في مرمى بعض المنتقدين له خاصة بالنظر إلى دوره الذي كانت له مساهمة جلية ـ في نظر البعض ـ في تردّي الأداء الحكومي والبرلماني في الجمهورية حيث كان صامتاً في مواقف تطلّبت تدخله وغير مفهومٍ إن تدخل”.
وأضاف الرشيد “علاوة على الأمور الشكلية التي مارسهاً كثيرٌ من رؤساء وزعماء الدول في تلقّي اللقاح أمام العامّة وبحضور وسائل الإعلام أو حتى في الالتزام بارتداء الكمامة عند الظهور في المناسبات أو اللقاءات الرسمية”.
وأردف أن “المشهد السياسيّ التونسي تشوبه الضبابية التي عزّزها تدخل بعض الدول الصديقة أو الإقليمية التي يكون لها مصالح في عودة تونس لأحادية السلطة أو لها مصالح عند استكمال التعددية غير المنتجة التي تجعل منها مثالاً لفشل مخرجات الربيع العربي كما كانت يوماً مثلاً يحتذى به عند الحديث عن التقدم والنهضة”.
واستخلص الرشيد قائلا “تلك الضبابية يمكن أن تنجلي بمجرد إفصاح وتنفيذ الرئيس قيس سعيد لرؤيته الإصلاحية التي سيكون عليه أن يعرضها عند إنهاء حالة التدابير الاستثنائية هذه، والتي عزم عليها بإعفاء أكثر من وزير في الحكومة التونسية واستبدالهم بمستشارين في جهاز الرئاسة أو الأمن الرئاسي كما فعل عند إعفاء وزير الداخلية”.
وختم بالتساؤل “ماذا يدور في خلد الرئيس قيس سعيد؟ أم أنه سكت دهراً فنطق كفراً؟”.