نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا لمديرة مكتبها في بغداد، أليسا روبين، تقول فيه إن الأمر بدأ هادئا قبل شهر باحتجاجات متفرقة، وتوسعت تلك الاحتجاجات بانتظام حتى تظاهر الأسبوع الماضي أكثر من 200 ألف عراقي في بغداد، غاضبين من الحكومة العراقية والمحتل الأجنبي، لكن ليست أمريكا هذه المرة، بل إيران.
ويشير التقرير، الذي ترجمته “عربي21″، إلى أنه في الوقت الذي يختبئ فيه قيادات العراق الحاليون في المنطقة الخضراء، حيث كان يختبئ المسؤولون الذين أداروا الاحتلال الأمريكي للعراق سابقا، فإن المتظاهرين في الخارج يقومون بتوجيه غضبهم ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، التي يرون أنها تملك الكثير من النفوذ، ويهتفون: “العراق حرة حرة.. إيران برا برا”.
وتقول روبين إن “هناك نضالا كبيرا في الشوارع والميادين في العاصمة العراقية، وفي الأزقة وأروقة الجامعة في مدينة كربلاء، حيث المقدسات الشيعية، وحيث ألقى المتظاهرون يوم الأحد القنابل البترولية على القنصلية، لتشكيل مستقبل العراق”.
وتلفت الصحيفة إلى أن لبنان، الذي يشكل فيه الشيعة ثقلا أيضا، يغلي بالاحتجاجات، التي هي جزء من ثورة ضد جهود إيران ذات الغالبية الشيعية لمد نفوذها عبر الشرق الأوسط.
وينقل التقرير عن الرئيس السابق للأرشيف الوطني العراقي، سعد إسكندر، قوله: “الثورة ليست ضد أمريكا، لكنها ضد إيران وضد الدين، ضد الدين في السياسة، وليس الدين ذاته”، وأضاف أن المتظاهرين المستائين من الفساد والمليشيات الشيعية، التي تطور بعضها إلى مافيات تدير عمليات ابتزاز، مشيرا إلى أن الأهم من ذلك أن هذه هي “ثورة ذات بعد اجتماعي، لقد كانت الوطنية في العراق دائما سياسية، لكن الآن أصبح فيها عنصر العدالة الاجتماعية”.
وتجد الكاتبة أن إيران وإن كانت هي الهدف المباشر لغضب المتظاهرين، لكن المعركة أوسع من ذلك، فهي صراع بين جيل جديد من الشعب العراقي وجيل أكبر وأكثر تحفظا، بين نخبة سياسية وجماعة منتفضة ترفض قيادتها.
وترى الصحيفة أن أهم من ذلك كله هو صراع بين أولئك الذين أثروا كثيرا منذ أن أطاح الغزو الأمريكي بصدام حسين، ومن يعيشون على الكفاف وينظرون بعين الغضب إلى الأحزاب السياسية، وبعضها مرتبط بإيران، وتوزع الأموال على الأشخاص الذين لهم ارتباطات جيدة.
ويورد التقرير نقلا عن المستشار لدى الحكومة، ليث كبة، قوله: “قبل 99 عاما بالضبط قامت الثورة العراقية الكبرى، وكانت عراقية تماما”.
وتعلق روبين قائلة إنه مع الثورة عام 1920 هزمت، إلا أن المشاعر التي كانت خلفها، وهي رفض التدخل الأجنبي، تبقى حية في النفوس العراقية، فقبل قرن كان الهدف هم البريطانيون، وفي أوائل هذا القرن كان الهدف هم الأمريكيون، والآن إيران.
وتنوه الصحيفة إلى أن النظام أصبح بعد غزو عام 2003 قائما على المحاصصة الطائفية، الذي وضعه العراقيون بأنفسهم، لكن بتمكين أمريكي لهم، لافتة إلى أن إيران استغلت ذلك الإطار لتقحم نفسها في السياسة العراقية.
ويبين التقرير أنه مع تراجع أمريكا من العراق عام 2009، قامت الأحزاب المرتبطة بإيران بمد شبكاتها إلى داخل الحكومة، وفي عام 2014 عندما غزا تنظيم الدولة، كانت إيران هي من سارع إلى إنقاذ العراق، وساعدت على تشكيل مليشيات لمحاربة التنظيم، ومع حلول 2018 أصبحت تلك المليشيات قوية لدرجة أن الأحزاب السياسية المرتبطة بإيران أصبحت هي المسيطرة في الحكومة، مشيرا إلى أن قائد الحرس الثوري، الجنرال قاسم سليماني، كان هو الوسيط في تشكيل الحكومة الحالية.
وتستدرك الكاتبة بأنه على المستوى الشعبي، وبين الشباب تجديدا، فإن هناك شعورا بأن إيران هي المستفيدة على حساب العراق، مشيرة إلى أنه مع أن هذا أمر مبالغ فيه عادة، إلا أن الشكاوى أصبحت تشكل جزءا من خلفية هذه الاحتجاجات.
وتنقل الصحيفة عن عامل البناء، علي جاسم، قوله إنه في الوقت الذي كان يغسل فيه وجهه من الغازات المسيلة للدموع تحت جسر الجمهورية، حيث تركزت المظاهرات: “كل ميزانيتنا تذهب لإيران ولدعم الحرس الثوري”، وأضاف: “الوزارات والمرافق المدنية في العراق كلها تديرها إيران.. ومع ذلك فإن جوازات سفرنا لا تصلح للذهاب إلى أي بلد، ونريد التخلص من هذه الحكومة.. نريد أن نستعيد بلدنا ونريد رئيسا مستقلا”.
ويورد التقرير نقلا عن محمد الأمين، وهو طالب في كلية الطب في السنة الثانية، الذي كان يعمل في إحدى محطات الإسعاف الأولي لعلاج المتظاهرين من آثار الغاز المسيل للدموع والرش برذاذ الفلفل، قوله: “عندما كنا صغارا كان أبناؤنا يقولون لنا (اصمتوا.. إن للجدران آذانا).. لكن لدينا الآن إنترنت، وسافرنا، ونستطيع أن نرى كيف أصبح العالم ونريد حياة أخرى، ونريد أن نكون مثل غيرنا من البلدان، نريد حقوقنا”.
وتقول روبين إن “مطالب المحتجين -للتخلص من الفساد وإنهاء الأحزاب السياسية وإقامة نظام رئاسي بدلا من برلماني- تبدو حلولا غير معقولة ومستحيلة التحقيق تقريبا، على الأقل دون سفك دماء، لكن ما يجعل من الأصعب تحقيقها أن المتظاهرين يطالبون بنتائج مباشرة، وكأنهم يريدون أن يروا الوزراء والنواب يحزمون حقائبهم ويتخلصون من فللهم الفاخرة في المنطقة الخضراء ويختفون”.
وتفيد الصحيفة بأن أولئك السياسيين الذين يرغبون في العمل مع المحتجين يدركون أن التغييرات الجوهرية التي يطالبون بها -قوانين انتخابات جديدة وانتخابات جديدة ودستور جديد- هي أمور لا يمكن تحقيقها في يوم وليلة، مشيرة إلى أن مقاربتهم المنهجية تحبط المحتجين الذين لا يستطيعون الصبر لرؤية التحولات.
ويشير التقرير إلى أن الرئيس العراقي، برهم صالح، يحاول اتخاذ خطوات في ذلك الاتجاه من خلال سن قوانين تلغي نظام القوائم الحزبية الحالي في الانتخابات، ويسمح للناخب بانتخاب مرشح بعينه، لكن ما يطلبه من البرلمان هو الموافقة على نظام سيكلف أعضاءه مقاعدهم.
وتذكر الكاتبة أن أكبر أعداد في تاريخ العراق الحديث تجمعت ليلة الجمعة للتظاهر السلمي ضد الحكومة، وعلقوا الأعلام على البنايات، فيما كان مقر ضيافة الحكومة داخل المنطقة الخضراء هادئا كأنه مكتبة بأرضيته اللامعة، وتجمع عدد قليل من الرجال على مقاعد واسعة يشربون الشاي والقهوة، ويتجادلون في وضع البلد.. ولم يبد أن هناك أمورا تحتاج العجلة.
وتلفت الصحيفة إلى أن المكانين لا يفصلهما عن بعضهما أكثر من ميل، لكنهما عالمان مختلفان، مشيرة إلى أنه من الصعب رؤية كيف يمكن للعراقيين التوفيق بين مشاعر المعادية للنخبة والمعادية لإيران والمعادية للأحزاب في الشارع مع توجهات أولئك الذين استفادوا من النظام.
وينقل التقرير عن المحللة في الشأن العراقي في مجموعة الأزمات الدولية، ماريا فانتابي، قولها: “هناك مستوى سياسي، والشارع والمؤسسة الأمنية وكل واحدة من تلك المجموعات مهتمة بنفسها.. فالمتظاهرون مثلا يحتفلون بشعورهم بالحرية، ويشعرون بالتمكين من خلال المزاج العام الذي صنعوه، لا يقتصر الأمر على الشباب الذكور فقط، بل هناك شابات أيضا لأول مرة، وفصائل مجتمعية أخرى.. (لكن المتظاهرين) لا ينظرون إلى الهدف النهائي.. إنهم يحتفلون بأنهم صنعوا هذا الحراك”.
وتنوه روبين إلى أن أعضاء الطبقة السياسية يتحدثون معا وليس مع المتظاهرين، وغالبا يلومون بعضهم على هذا الوضع، مشيرة إلى أن البرلمان التقى مرة أو مرتين لمناقشة القانون الذي يمكن أن يفي بمطالب المحتجين.
وتورد الصحيفة نقلا عن الرئيس السابق للأرشيف الوطني، إسكندر، قوله: “إنهم يشترون الوقت”، مشيرا إلى أن معظم السياسيين لا يزالون يأملون بأن المظاهرات ستمر.
وبحسب التقرير، فإن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي انتقد لسماحه لقوات الأمن بمحاولة قمع المظاهرات بالقوة، فخلال الأسبوع الأول من تشرين الأول/ أكتوبر قتل حوالي 150 متظاهرا، معظمهم بالرصاص، وجرح حوالي 5500، منهم حوالي 1000 من قوات الأمن، بحسب تحقيقات الحكومة.
وترى الكاتبة أن ذلك الخطأ في الحسابات جذب عشرات آلاف الناس للاحتجاج، وانفجرت التجمعات لتصبح أعدادها 20 ألفا إلى 25 ألفا في المدن في عرض البلاد، وقريب من 200 ألف في العاصمة، فيما اندلع العنف ثانية يوم الاثنين عندما قامت قوات الأمن بإطلاق النار على المتظاهرين عندما سعوا لعبور جسر الأحرار في بغداد، وقتل خمسة أشخاص على الأقل.
وتستدرك الصحيفة بأنه بالرغم من الكثير من الانتقادات، فإن رئيس الوزراء قام بخطوات لتحسين حياة العراقيين، من خلال توسيع إمدادات الكهرباء، وتحسين العلاقات مع أكراد العراق، وإزالة الجدران التي قسمت بغداد، مستدركة بأنه يبقى زعيما ضعيفا وصل إلى منصبه بصفقة صنعتها إيران بشكل كبير، لكنها مقبولة من واشنطن.
ويجد التقرير أنه لذلك فإنه في الوقت الذي استطاع فيه مهدي أن يعين أشخاصا من ذوي الكفاءات في وزارتي الكهرباء والنفط، إلا أن الأحزاب المرتبطة بإيران تسيطر على خمس وزارات أخرى، بما في ذلك الداخلية والاتصالات والعمل والشؤون الاجتماعية، وهو ما يوفر لها آلاف الوظائف لرعاية أنصارها، إضافة إلى العقود والمنح، وهو ما يولد الفساد الذي يحتج المتظاهرون ضده، لافتا إلى أن الفساد أصبح الآن مرضا مستشريا وموجودا حتى في الوزارات التي تعد بأنها مدارة بشكل جيد.
وتنقل روبين عن مهيمن فاضل، البالغ من العمر 30 عاما، قوله: “تخرجت في كلية الهندسة، لكن عندما تقدمت لوظيفة في وزارة النفط طلبوا مني 7500 دولار.. وأعمل الآن عملا حرا في البناء”.
وتشير الصحيفة إلى أن المتظاهرين رفعوا يوم الجمعة في ميدان التحرير في بغداد لافتات بيضاء عليها صور لخامنئي وسليماني وعليها علامات (X) باللون الأحمر، لافتة إلى أن قوات الأمن نفسها منقسمة: بين كبار الضباط وصغار الضباط والتابعين لوزارة الدفاع ووزارة الداخلية والقريبين من إيران وغيرهم، بالإضافة إلى انقسامات أخرى.
ويلفت التقرير إلى أن هذه الانقسامات بين الكيانات الأمنية أدت إلى اختلافات في كيفية التعامل مع المتظاهرين، الذين احتلوا بناية غير مكتملة تعرف باسم بناية المطعم التركي، التي تشرف على جسر الجمهورية، ورفض الجيش الموافقة على خطة لإخلاء البناية، مع أنها توفر للمتظاهرين موقعا مشرفا مثاليا لإلقاء القنابل الحارقة دعما لزملائهم المتظاهرين الذين يسعون لاجتياز جسر الجمهورية للوصول إلى المنطقة الخضراء، مشيرا إلى أن ضباط الجيش يخشون أن أي سفك إضافي للدماء قد يشعل مظاهرات أكبر.
وتختم “نيويورك تايمز” تقريرها بالإشارة إلى أن قنوات الأخبار العراقية أعلنت منتصف ليلة الاثنين بأن الحكومة أغلقت الإنترنت، ولم يكن هناك أي توضيح، وكان المسؤولون قد أغلقوها في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر عندما شعروا أن المظاهرات خرجت عن السيطرة.