لمعت الإمارات في عالم الجاسوسية الكلاسيكية قبل أن تصبح سيدة التجسس الإلكتروني أيضاً في الأعوام الأخيرة، وتجعل كل هذه الظروف من الدولة الخليجية “منطقة صيد” ملائمة للمخابرات.
وعلى مدار الأعوام الستة الماضية سعى ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد إلى إيلاء الجانب الأمني والاستخباراتي أهمية واسعة، باستقدام مئات الضباط الغربيين، ومنحهم أموالاً كثيرة مقابل العمل على تأسيس جهاز استخباراتي إماراتي، وتدريب الضباط الإماراتيين على التجسس وإخفاء هوياتهم.
لا تقف مساعي ولي العهد الإماراتي عند هذا الأمر، بل امتدت لتشمل خطوات أوسع نحو عقد مزيد من الصفقات لشراء أجهزة التجسس وتقنيات المراقبة، والدفع بنجله إلى رأس المؤسسة الأمنية الأولى في بلاده، ضمن مسعاه لتأسيس مملكة من التجسس، ورفع كفاءة ضباطه، والحيلولة دون اختراق بلاده، أو نمو حركات احتجاجية داخلها.
نجل محمد بن زايد والتجسس
سعى ولي العهد الإماراتي إلى تعزيز قبضته على الجهاز الأمني المسؤول عن رصد المخاطر الأمنية، وإدارة كُل برامج التجسس، عبر تعيين نجله اللواء خالد بن محمد آل نهيان، رئيساً لجهاز أمن الدولة بدرجة وزير بدلاً من أخيه الشيخ هزاع بن زايد، في فبراير 2016.
وعلى مدار الأعوام الماضية نجح خالد بن زايد في التوسع في استخدام برامج التجسس، ورفع مهارات مئات من الضباط الإماراتيين في استخدام هذه التقنيات، وتكنيكات التجسس خارج بلدانهم.
واعتمد نجل زايد بالكامل على الأدوات التقنية في ضبط الأمن وبناء شبكات التجسس، فقد كشفت صحيفة “نيويورك تايمز”، العام الماضي، عن استخدام الإمارات برامج تجسس إسرائيلية لمراقبة عموم الشعب الإماراتي، خاصةً الناشطين السلميين، وبالتحديد نظام “عين الصقر”.
أكثر الدول رصداً لأنفاس سكانها
وتتوالى الشهادات الدولية بشأن حدة القيود التي تفرضها دولة الإمارات على الحريات العامة والتجسس على مواطنيها والوافدين إليها بما يجعلها واحدة من أكثر دول العالم قمعاً، حيث قدمت الباحثة الأمريكية أستاذة الصحافة في الجامعة الأمريكية بدبي، ياسمين بحراني، شهادة صادمة بشأن حدة المراقبة والتجسس في دولة الإمارات.
وقالت بحراني، في مقال نشرته “صحيفة واشنطن بوست” الأمريكية، في 11 سبتمبر الجاري، إن عيون حكومة الإمارات تراقب مواطنيها والأجانب المقيمين فيها عن كثب، وإن دبي وأبوظبي من بين أكثر المدن رصداً لأنفاس سكانهما في العالم.
وروت بحراني تجربتها في العيش بدولة الإمارات، وما شابها من عمليات تعقب لكل حركاتها وسكناتها، وعلقت بالقول إنها بوصفها امرأة عاشت في الخليج لا تملك إزاء ذلك سوى الضحك، إذ تزعم أن ثمة كثيراً من التجسس في الإمارات، لا سيما من قبل الإماراتيين أنفسهم.
واستطردت قائلة: “قد يبدو الأمر مستغرباً لدى الكثيرين من خارج المنطقة، إلا أن دبي وأبوظبي من أكثر المدن المراقبة في العالم”، مضيفة: “في أبوظبي وحدها هناك زهاء 20 ألف كاميرا أمنية منتشرة في المدينة لرصد 1.5 مليون شخص، بينما لدى دبي نحو 35 ألف كاميرا تراقب 2.8 مليون من سكانها”.
ومن باب المقارنة فقط فإن عدد كاميرات المراقبة الموزعة في مدينة واشنطن دي سي تبلغ أربعة آلاف فقط.
الإماراتيون يخشون هواتفهم
في مايو 2019، نشرت شركة “يوغوف” البريطانية للدراسات نتائج استطلاع أجري حديثاً، يظهر أن غالبية سكان الإمارات يظنون أن هواتفهم الذكية تتجسس عليهم.
وأظهر الاستطلاع الذي نشرته صحيفة “الخليج تايمز”، التي تصدر باللغة الإنجليزية من دبي، أن 55% من المقيمين يعتقدون أن أجهزتهم تتجسس عليهم، وخصوصاً هواتفهم الذكية.
وتأتي الحواسيب الشخصية، وخصوصاً التي تحتوي على كاميرات، في المركز الثاني من حيث الاعتقاد أنها تستخدم في التجسس ومراقبة أصحابها.
وقد وجدت الدراسة، التي أجريت في أبريل، أن العديد من المقيمين لديهم مخاوف حول خصوصيتهم على الإنترنت، ويشعر نصف المستطلعة آراؤهم بالقلق من عمليات رفع الصور والمعلومات الخاصة بهم على النظم السحابية، حيث يشعرون أنها معرضة للرقابة.
“موزيلا” تفضح الإمارات
في يوليو 2019 الجاري، قررت شركة البرمجيات وخدمات الإنترنت “موزيلا”، صاحبة متصفح “فايرفوكس”، منع حكومة الإمارات من أن تصبح واحدة من حراسها في مجال أمن الإنترنت، وذلك استناداً إلى تقارير بشأن برنامج إماراتي للتجسس الإلكتروني.
وذكرت موزيلا، في بيان لها، أنها “ترفض مسعى الإمارات لأن تصبح حارساً معترفاً بها دولياً لأمن الإنترنت، ومفوضة للتصديق على سلامة المواقع لمستخدمي “فايرفوكس”، حيث اتخذت هذا القرار لأن شركة أمن الإنترنت “دارك ماتر” كانت ستضطلع بدور الحارس، وأن تحقيقاً لـ”رويترز” وتقارير أخرى ربطت بينها وبين برنامج اختراق إلكتروني تديره الدولة”.
وأضافت الشركة أن “دارك ماتر” ومقرها أبوظبي، أعدّت وحدة لعملية اختراق إلكتروني سرية تحت اسم مشروع “ريفين” نيابة عن جهاز مخابرات إماراتي.
مبالغ “خيالية” للتجسس
في ديسمبر 2018، كشفت مؤسسة “سكاي لاين” الدولية، عن دفع الإمارات مبالغ مالية طائلة لأغراض التجسس على مواطنيها، واختراق مؤسسات إلكترونية وإقليمية ودولية.
وتحدثت عن استئجار الشركة الإماراتية 400 خبير من خارج الإمارات لتنفيذ عمليات تجسس ضخمة على مواطنيها بشكل رئيسي، ومن ثم محاولة اختراق حسابات النشطاء في الخارج.
وأشارت إلى أن تعاوناً وثيقاً يجري بين الشركة وقراصنة أمريكيين لأهداف سيبرانية عالمية؛ مثل ضرب أهداف معينة، أو بناء أنظمة تجسس عالمية لتعقّب بعض الأشخاص أو الأعمال.
وقالت: “الرواتب الخيالية التي عُرضت على المخترقين والباحثين الأمنيين كانت كافية لإسالة اللعاب، حيث وصلت الرواتب إلى أكثر من نصف مليون دولار سنوياً، وكان الهدف الرئيسي تجنيد ما لا يقل عن 250 شخصاً من العباقرة المخترقين”.
برنامج إسرائيلي
وسبق أن كشفت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، في أغسطس 2016، عن تنفيذ الإمارات عمليات تجسس سرية ضد مواطنيها من المعارضين السياسيين والحقوقيين والإنسانيين، باستعمال برنامج تجسس إسرائيلي نادر.
وقالت المجلة إن الإمارات وظفت برنامج التجسس النادر الذي يسمح لها باستغلال الثغرات في الأجهزة الإلكترونية لشخصيات معروفة، مثل الناشط الإنساني أحمد منصور، من أجل تحويلها إلى آلات قوية للتجسس حول كل تحركات المعارضين للسلطة، أو الذين يشكلون أي نوع من أنواع الخطر المحتمل عليها.
وذكرت المجلة أن الناشط الإنساني أحمد منصور تلقى رسالة هاتفية من طرف مجهول على هاتفه، وقد تضمنت رابطاً مموهاً بعنوان “أسرار جديدة لعمليات تعذيب في السجون الإماراتية”، وقد فتح منصور هذا الرابط الذي أرسلته له السلطات الإماراتية في شهر أغسطس من نفس العام، فتحول هاتفه إلى أداة للتجسس في يد السلطات الإماراتية، وعقبها اعتقل.
وأضافت المجلة أن البرنامج الذي وظفته الحكومة الإماراتية يدعى “بيجاسوس”، ويسمح لها هذا البرنامج باعتراض المكالمات الهاتفية وتسجيل الرسائل الهاتفية، حتى تلك التي يقوم بها الشخص من خلال تطبيقات مشفرة، مثل “واتس آب” و”فايبر”، أو قراءة رسائل البريد الإلكتروني، أو تعقب تحركات الشخص المستهدف، بالإضافة إلى قدرته على التحكم في الكاميرا أو مضخم الصوت.
التجسس على دول أخرى
في فبراير 2019، وفي ردٍّ لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، على سؤال حول إفادة بنيويورك عن مشروع للتجسس على الدول تعتمده الإمارات، أقر بأن بلاده لديها “قدرة إلكترونية”، لكنه نفى استهداف مواطنين أمريكيين أو دول تجمعها ببلاده “علاقات طيبة”، في تأكيد على أن الإمارات تتجسس على دول لا ترتبط معها بعلاقات جيدة، كجارتها قطر.
وأضاف قرقاش مبرراً تجسس بلاده على الدول بالقول: “نحن نعيش في جزء صعب جداً من العالم. يتعين علينا أن نحمي أنفسنا (…) نحن لا نستهدف دولاً صديقة ولا نستهدف المواطنين الأمريكيين”.
وكان تحقيق لوكالة “رويترز” نشرته في الشهر ذاته، خلص إلى أن الإمارات استخدمت مجموعة من المتعاقدين الأمريكيين؛ لاستهداف حكومات منافسة ومعارضين ونشطاء حقوقيين، وشكل المتعاقدون، وهم ضباط مخابرات سابقون، الجانب الرئيسي من برنامج تجسس يدعى “مشروع ريفين”.
وبحسب “رويترز” ذكر ضباط سابقون ووثائق للبرنامج أن المشروع استهدف أيضاً الأمريكيين وهواتف آيفون الخاصة بموظفي سفارات فرنسا وأستراليا وبريطانيا.
كما كشف التحقيق عن تجسس أبوظبي على هواتف: أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ووزير الدولة العُماني للشؤون الخارجية يوسف بن علوي، وأيضاً نائب رئيس الوزراء التركي السابق محمد شيمشك، والحاصلة على جائزة نوبل اليمنية توكل كرمان.