بقلم - ثابت الأحمدي
في عالم الناس كما في عوالم الطبيعة.. تأتي الأحداث من نقائضها، وتتفجر الصراعات من أوثق عرى التحالفات.. مثلما يأتي الليل من النهار، ومثلما تنسل النبوات من دياجير الجاهليات.. هذه سنة أزلية وحتمية كونية لا فكاك منها. والجاهل من لا يعتبر بحقائق التاريخ وسنن الكون. وبحسب البردوني: “بدء الصرع يستدعي الصراعا..”.
ثورة 26 سبتمبر 1962م كانت نتيجية لا سببا. نتيجية قرون طويلة من الظلم والكهنوت الذي قضى على معالم حضارة هي من أولى حضارات الإنسانية قاطبة، وأحال شعبا ينتمي لحضارة راقية إلى قطيع جاهل وتابع..
ونتناول هنا الممهدات الموضوعية ومعالم النضال الوطني التي أتت منها روافد سبتتمبر وفجرته حمما غاضبة، فاقتلعت جذور الشر وسحقت بذور الإفك، وهي:
1ـ مجلة الحكمة
لعبت مجلة الحكمة ـ التي رأسها الوريث فالمطاع ـ دورا أساسيا في تشكيل البذور الأولى للوعي الإصلاحي، وصولا إلى الوعي الثوري، فكسرت هاجس الخوف، وإن جزئيا، وأحدثت جدلا قويا في أروقة دواوين صنعاء ومجالس النخبة المستنيرة يومها، وبعثت العديد من التساؤلات بعد أن فتح كتابها نوافذ الضوء على معالم التحضر والتمدن في العالم الخارجي، ومن بين أروقتها انطلقت أولى شرارات النضال الأربعيني، خاصة وأنها المجلة الوحيدة في البلاد، ولم يكن إلى جانبها إلا صحيفة “الإيمان” الرسمية التي كانت تقتصر على نشر أخبار الإمام وتوجيهاته وأنشطته فقط، خلافا لمجلة الحكمة التي كانت مقالاتها هادفة تتغيا الإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي، في الوقت الذي تحمل بذور الروح الثورية الأولى، لأن الأصوات الأولى والحالة الثورية الأولى بدأت بالتذمر أولا من الإمام وحكمه “الثيوقراطي” قبل أن تفكر بالثورة عليه، فخلقت مجلة الحكمة هذه الحالة التي استدعت باستبطان روح الثورية عن بعد.
2ـ عودة الطلاب من الخارج
في مطلع الأربعينيات تمت عودة المبتعثين والدارسين في الخارج الذين تم ابتعاثهم من قبل الإمام في منتصف الثلاثينيات، للدراسة إلى العراق، ومن ثم العودة لخدمة المقام الإمامي، ومن بين هؤلاء اثنان من أبرز الرموز الوطنية التي ناوءت الإمامة وزلزلت أركانها، وهما السلال قائد ثورة 62م، والثلايا قائد انقلاب 55م. إضافة إلى من عادوا من الشباب من القاهرة كالزبيري والنعمان، وغيرهم. وكان قد أسس كتيبة “الشباب اليمني” مطلع الأربعينيات قبل عودته إلى اليمن، فشكل هؤلاء مجتمعين إضافة إلى المستنيرين من المثقفين الشباب في صنعاء النواة الأولى للثورة، وعلى الفور بدأت معالمها بقصيدة شهيرة للزبيري في العام 1941م هي الأجرأ والأكثر ثورية؛ بل إنها البذرة الأولى للتفكير بصوت عال من قبل هؤلاء الشباب، وفيها يقول:
خرجنا من السجن شمّ الأنوف كما تخرج الأٌسد من غابها
نمر على شفرات السيوف ونأتي المنية من بابــــها
ستعلم أمتنا أننا ركبنا المـنايا حناناً بـــــها
فإن نحن عشنا فيا طالما تذل الصعاب لركابـــــها
وإن نحن متنا فيا حبذا المنايا تجيء لخطّابهــــا
من هنا تلاقح النضال بالنضال، وتواصلت الفكرة بالفكرة، وبدأ الجدل يستحر همسا فجهرا، حتى تكلل نضال هذه المرحلة بمصرع الإمام في حزيز 17 فبراير 1948م. وقد لعب الإخوان المسلمون فيها دورا بارزا وكبيرا، فصل الحديث عنه حميد شحرة في “مصرع الابتسامة”.
3ـ ثورة 1948م
تعتبر ثورة فبراير/ شباط 1948م من الممهدات الرئيسية لثورة 1962م، فهي التي كسرت هيبة الصنم المقدس في ذهنية العامة من الناس؛ حيث كان العامة من الناس يعتقدون أن الإمام “مصرَّف” من الرصاص، أي أن الرصاص لا يخترق جسده بفعل حماية الجن له الذين سخرتهم السماء له؛ كونه سليل رسول الله..!! فكسر الحادث هذه الخرافة في الذهنية العامة للناس. كما أن الحدث ذاته أخذ جدلا كبيرا وواسعا ليس على مستوى اليمن فحسب؛ بل على مستوى المنطقة العربية كاملة، باعتبار ثورة 1948م في اليمن أول ثورة شعبية في القرن العشرين في المنطقة العربية كلها، قبل مصر والجزائر والعراق وليبيا، ومن هنا بدأت حالة التثاقف ومعها أيضا موجة الغضب العارم بسبب ما أعقبها من مجازر وحشية، ونهب لمدينة صنعاء، صاحب ذلك كله زيادة موجة الاتصال والتواصل بالعالم الخارجي.
المهم.. فتحت ثورة 1948م كوة من الضوء وبابا من التساؤلات، وصنعت نوافذ جديدة للمعرفة والتثاقف الذي ازداد، إذ لم يعد شعب الخمسينيات هو نفسه شعب الأربعينيات، فثمة فارق كبير بمقياس ذلك الزمن يسير في اتجاه صنع الحدث الأكبر تزيده الأيام والشهور قوة ووضوحا، وهو ما كان فعلا بعد ذلك.
4ـ ثورة يوليو المصرية
لا يخفى على البعض أهمية ثورة يوليو المصرية 1952م، ليس على مستوى اليمن فحسب؛ بل على مستوى المنطقة العربية كلها، فثورة يوليو 52م بقدر ما كانت مصرية الشأن كانت أيضا عربية التوجه والاهتمام، ومثلت الثورة الأم لكل ما جاء بعدها من الثورات العربية الأخرى في الجزائر والعراق واليمن وليبيا. دعمها المعسكر الشرقي، في إطار صراعات الحرب الباردة يومها بين القطبين العالميين أمريكا والاتحاد السوفيتي. وكانت هذه الثورة بأدبياتها السياسية وروحها الشبابية هي الملهم الأساس للشباب اليمني خاصة ممن عرفوا مصر عبدالناصر وتأثروا بها وبأجواء القاهرة يومها التي كانت أجمل من بعض العواصم الأوربية مدنية وثقافة. هذا على سبيل الإجمال، أما تفصيلا، فلم تحظ ثورة عربية باهتمام مصر كما حظيت اليمن، وكادت أن تكون القضية الثانية لمصر حتى سنة المصالحة عام 70م. فمن أول يوم لها احتظنت القاهرة الثوار المناوئين للإمامة داعمة إياهم ماديا ومعنويا، فمثلا استطاع الزبيري العودة من باكستان التي فر إليها عقب فشل ثورة الدستور والاستقرار في القاهرة، وفيها جمع حوله ثلة من الشباب المستنيرين وأسس الاتحاد اليمني؛ كما ساهم في تأسيس إذاعة صوت العرب في يوليو 53م ومنها بث خطبه الثورية وقصائدة الشعرية الملتهبة، بل لقد شكلت إذاعة صوت العرب من القاهرة مدرسة نضالية إلهامية لثوار الداخل، وكان صوت الزبيري يقض مضاجع الإمام في صنعاء أو تعز. وكان المعارضون هناك موضع اهتمام عبدالناصر ورعايته حتى قامت الثورة.
5ـ انقلاب 1955م
منذ مصرع الكاهن الأكبر يحيى في حزيز عام 48م حاول وريث عريشه نجله أحمد الظهور بمظهر المتقدم المجدد، فنقل العاصمة إلى تعز، واستسفر عن بلاده السفراء، كما فتح البلاد اليمن لتأسيس سفارات فيها. لكن لم تكن العاصمة تعز أو حتى صنعاء تبدو خلال تلك الفترة إلا كقرى كبيرة فقط قياسا إلى بقية العواصم العربية الأخرى، فلا تجديد ولا تحديث، لأن نفسية الإمامة وعقلها مفطورة على العبث والتدمير وصناعة التخلف لا صناعة التحديث، ومن الطبيعي إذن أن تستمر جذوة الغضب مستعرة تحت رماد الولاء والمصانعة حتى تحين ساعة الحسم؛ لأن الطغيان والاستبداد لا يمنع الانتقام وإنما يؤجله، ولهذا تنتهي حياة الطغاة نهايات سوداء، لأن شهوة التسلط والطغيان تفقدهم حاسة الاستبصار والتفكير.
وكما كسرت ثورة 48م هيبة القداسة المزعومة على الإمام، كسر انقلاب 55م هيبة القوة المنسوبة كذبا إلى الإمام، وإن انتصر في نهاية الانقلاب على الثلايا فأعدمه، لكن هذا الانقلاب كان مسمارا جديدا في النعش الإمامي الذي يتداعى يوما بعد يوم، ولا يقل تأثيره عن تأثير 48م.
من ناحية ثانية.. فجر الانتقام الإمامي “الأحمدي” سُعرة من الغضب العسكري بين أوساط الجنود والمتعاطفين مع الثلايا الذي مثلت شجاعته وموقفه مصدر إلهام جديد ورصيدا يضاف إلى القوة الصاعدة، وإن تبنى بعض المثقفين موقفا غير إيجابي تجاه الحادثة هذه المرة، وهو موقف ناتج عن عدم التنسيق المشترك بين الطرفين، لا عن تغاير الموقف بين الطرفين.
6ـ المعارضة الداخلية في البيت الإمامي
من المعروف أن البيوتات الإمامية على الدوام في صراعات داخلية فيما بينها، كون كل بيت يرى أحقيته بالإمامة، ووفقا لابن خلدون، فكل إنسان يرى أنه صالحا لها، مضيفا: وذلك ممكن مع قوة الشوكة ومواتاة الحال. ولا تجتمع في الغالب إلا إذا طرأ على أسرة الحكم طارئ من خارجها، إن لم تشارك هي أحيانا في صناعة هذا الطارئ.!
ومن المعلوم أن كثيرا من الأسر لم تكن راضية عن حكم بيت حميد من وقت مبكر، وترى نفسها أهلا لها دونهم، وقد تورط الإمام يحيى نفسه في مقتل أحد المناوئين الكبار له وهو القاضي جغمان لاستيفائه شروط الإمامة دون الإمام يحيى نفسه الذي كان بخيلا، والبخل أحد معايب شروط النظرية الهادوية، فأثار حالة من السخط لدى البعض، أما أحمد فقد أضيف إليه إلى جانب المعارضة السابقة معارضة إخوانه وأقاربه من الداخل، أضف إلى ذلك بيت الويز، إحدى البيوتات التي شاطرت أباه الحكم، وظلت ترى أحقيتها بالحكم، معتبرين الإمام أحمد مغتصبا للحكم، وغير شرعي؛ لأنه انقلب على الإمام الدستوري في 48م.
أضف إلى ذلك سعي الإمام أحمد لتوريث الحكم نجله محمد المقرب منه، والأثير إلى نفسه، في الوقت الذي يعتبر إخوته أنفسهم في الطابور منتظرين “نفوقه” وقد أثيرت مسألة ولاية العهد وتوريث الحكم لأول مرة عام 1954م كما ذكر الشامي في “رياح التغيير في اليمن” وأنه كان أحد مثيريها، لقربه من البدر، الشاب المدلل والكريم الذي يعطي بسخاء، خلافا لعمه الحسن أبرز المناوئين لفكرة التوريث؛ لأن الفكرة لا توجد أصلا في مذهبهم كما يقولون وذلك صحيح من الناحية النظرية، أما عمليا فالأمر غير ذلك. وقد نظم الشامي قصيدة تدعو إلى مبايعة الأمير البدر نجل الإمام وليا للعهد، قال فيها:
إذالم تكن أنتَ الخليفة بعـــده وفاءًوشُكرًابل قضاءً محتَّمــا
فلانبضتْ للشَّعب روحٌ ولاعَلتْ له رايةٌ حتى يُكبَّ جهنمــــا
ولهذا الصراع نشأ فيما عرف لاحقا نهاية الخمسينيات حتى قامت الثورة جناح البدريين، مقابل جناح الحسنيين، والأول نسبة إلى الشاب ذات اليد السخية محمد البدر نجل الإمام، فيما الآخر إلى الحسن أخي الإمام المعروف ببخله وشحه، فتصدع البيت الإمامي من الداخل وضعف، وإن كانت ثورة 26 سبتمبر 1962م قد جمعتهم كلهم، كما جمعت كل بيوتات الإمامة تقريبا في بوتقة واحدة ضد الجمهورية. وهي عادتهم التاريخية، ممثلة في الحفاظ على المنصب الأول “الإمامة” من أي خطر خارجي.
7ـ اكتمال الظروف الذاتية والموضوعية
ثورة سبتمبر 62م إفراز طبيعي كان لابد منه وقد بلغت الإمامة ذروة توحشها الكاملة لقرون من الزمن، ساهمت الظروف الذاتية والموضوعية لتفجرها، كجزء من أحداث المنطقة العربية التي تفجرت تلك الفترة، مستفيدة من تحولات المرحلة وظهور الصحف والإذاعات والمجلات التي أسهمت في خلق ثقافة الثورة وكسر رتابة الجمود والتقليد والانفتاح على العالم الخارجي، وتخلق جيل جديد ينتمي إلى المستقبل أكثر من ارتباطه بالماضي، فخلق الحدث المستقبلي الذي قوض الفكرة القديمة.. فكرة خرافة الحق الإلهي المزعوم، وتلك سنة الله في الكون؛ لكن ما أكثر العبر! وما أقل المعتبرين؟!!