منذ بزوغ فجر الثورات العربية من مدينة سيدي بوزيد التونسية في ديسمبر 2010، ما انفكت دولة الإمارات العربية المتحدة تسعى للتدخل في شؤون تونس الداخلية، رغبة منها في إجهاض الثورة والتحكم في مسارها، حتى لا تكون مُحفزة لباقي الشعوب، ولا يطالها لهيب نارها التي قضت على عروش الحكام، ولا يصل شعبها نسمات الحرية التي جابت ربوعها وأحيت في القلوب أملًا طال انتظاره.
نجحت في مساعيها مرة وكادت أن تجهض الثورة، وفشلت في مرات عدة في تمرير أجندتها نتيجة فشلها في اختيار المنفذين وقصر بصرها وراديكالية أفكارها، وها هي الجبهات التي أنفقت الأموال الكثيرة لتمويل نشاطها في البلاد تتهاوى الواحدة تلي الأخرى لتكشف عن قلة حيلة أولاد زايد في وجه تونس وثورة شعبها الذي يأبى التطرف.
جميع الوسائل مبررة للوصول للهدف
تدخل الإمارات في تونس اتخذ أوجه عدة، فمن رعاية رموز النظام السابق إلى خلق وجوه جديدة مرورًا بتمويل احتجاجات تهدف إلى بث الفوضى والعنف وصولًا إلى الإشراف على تحالفات سياسية بهدف تغيير المشهد السياسي وإرباك الانتقال الديمقراطي الذي تتباهى به تونس بين الدول وإن كان مساره شهد بعض الارتباك والتراجع.
ولا يهم دولة الإمارات العربية المتحدة ممن تتقرب، المهم أن تنجح في إفشال ثورة تونس ومنع وصولها إليهم مهما كلفها ذلك، وارتبط اسم دولة الإمارات بالثورة المضادة وأجندتها التخريبية ومعاداتها للتجربة الديمقراطية التونسية وسعيها إلى إفشال الانتقال الديمقراطي الذي تشهده البلاد منذ سقوط نظام ابن علي في يناير 2011، إذ تكن الإمارات حسب التونسيين لمهد الربيع العربي كل البغض والعداء.
يوم خرج شعب تونس إلى الشوارع والميادين يهتف بأعلى صوته، فاتحًا صدره للرصاص غير آبه بنظام قمعي جثم على القلوب والأرواح ردحًا من السنين، “الشعب يريد إسقاط النظام”، كان النظام الرسمي الإماراتي الذي استعبد شعبه لسنوات يسعى للإطاحة بهذا الحلم العربي بشتى الوسائل وإن كلفه ذلك حرق الأخضر واليابس.
السبسي فمرزوق.. فشل الرهان
بداية من سنة 2012، راهن صانع القرار الإماراتي بالمكشوف على حزب نداء تونس، لتهميش دور المجلس الوطني التأسيسي وإقصاء حركة النهضة الإسلامية من المشهد السياسي التونسي، فمول نشاطاته وأغدق قياداته بالهدايا، في مخالفة للقانون المنظم للأحزاب السياسية التونسي الذي ينص في فصله الـ19 على المنع التام لكل تمويل مباشر أو غير مباشر نقدي أو عيني صادر عن أي جهة أجنبية، والذي ينص أيضًا على: “يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات كل من خالف أحكام الفقرة الأولى والثانية من الفصل 19 أعلاه”.
إلا أنها فشلت في إخراج المسار التونسي عن المدنية بل أدخلته منطق التوافق الذي يزيده صلابة، فالباجي قائد السبسي الذي اختارته أبو ظبي كوكيل لمشروعها في تونس المناهض للثورات العربية، فأغدقت عليه بالمال الوثير للعمل على نجاحه في تسويق صورة الشخصية الجامعة للعلمانيين واليساريين في مواجهة الإسلاميين، كان أذكى منهم وأشد دهاءً، فأدار لهم ظهره حتى لا تشهد بلاده إعادة إنتاج المشهد المصري والليبي، فأختار التوافق مع حركة النهضة عوض إقصائها وزج قياداتها في السجون كما تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة وتنفق الأموال في سبيل تحقيقه غير مبالية بحلم الشعوب وإرادتها.
فشل الرهان على الباجي قائد السبسي أربك الإمارات وحتّم على أولاد زايد تحويل وجهتهم إلى أحد أركان حزب “النداء”، فكان أن تحالفت مع محسن مرزوق الذي انشق عن نداء تونس وأسس حزبًا جديدًا له يحمل اسم “مشروع تونس”، ودخل في تحالف مع أحزاب أخرى تحت راية “جبهة الإنقاذ” في مسعى منه لجمع أكبر عدد من الأنصار والفوز بالحكم في الانتخابات القادمة، بعد أن علم أن البقاء مع الباجي قائد السبسي لن يمكّنه من الحكم.
إلا أن مصير ورقة مرزوق كان كمصير ورقة السبسي وإن اختلف سبب ذلك، فالسبسي أخذ ولم يعط بإرادته، ومرزوق أخذ ولم يعط بغير إرادته، فنجح الأول في جمع أعداء الثورة من حوله للوصول إلى الحكم، ولم يكمل ما جاء من أجله عن طواعية خشية انزلاق البلاد إلى الفوضى، وفشل الثاني في تسويق نفسه كشخصية جامعة لخصوم النهضة وبقية الأحزاب المحسوبة على الثورة، فاحترقت ورقته.
تهاوي جبهات الإنقاذ الأولى فالثانية
فشلت جبهة الإنقاذ الأولى، التي تشكلت بدعم إماراتي علني وسري وبقيادة نداء تونس في صيف 2013 بقصد الحد من هيمنة حركة النهضة التونسية وافتكاك مقاليد حكم البلاد منها، برفض نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتهميش المجلس وأدواره ومكانته، وتهاوت بعد أن تصدع بنيانها وتراخت أعمدتها.
ها هي الجبهة السياسية الثانية، التي أُعلن تأسيسها في الثاني من أبريل 2017، من قبل مجموعة من الأحزاب المعارضة تحت اسم “جبهة الإنقاذ والتقدم”، بهدف تحقيق التوازن المفقود في المشهد السياسي والحد من هيمنة حركة النهضة عليه حسب تصريحاتهم، تشهد نفس المصير.
فبعد أن ضمت الجبهة الجديدة في البداية الهيئة التأسيسية لحركة نداء تونس وحركة مشروع تونس (20 نائبًا في البرلمان من مجموع 217) والاتحاد الوطني الحر (11 نائبًا) وحزب العمل الوطني الديمقراطي وحركة تونس المستقبل والحزب الاشتراكي وحزب الثوابت وحركة الشباب التونسي وحزب الوحدة الشعبية والحركة الوسطية الديمقراطية، بدأت في الاضمحلال بانسحاب العديد من المكونات منها على رأسها حركة مشروع تونس.
وفي الـ29 من شهر يونيو الماضي، أعلنت حركة مشروع تونس إلى جانب حزب العمل الوطني الديمقراطي تجميد مشاركتهما في أنشطة جبهة الإنقاذ في انتظار تقييم جدواها في اجتماعاتهم القادمة، وجاء هذا القرار بعد تجميد أرصدة رجل الأعمال المعروف بقربه للإمارات ودفاعه عن توجهاتها في المنطقة، رئيس “الحزب الوطني الحر” سليم الرياحي (أحد أحزاب الجبهة) على خلفية اتهامه بالضلوع في قضايا فساد وخضوعه لتحقيق قضائي.
وتأتي هذه الانسحابات من جبهة الإنقاذ التي تعول عليها عدو الثورات “الإمارات” لإرباك التجربة التونسية وإجهاضها، لتؤكد فشل المساعي الإماراتية ولو إلى حين في تونس، وفشل خططها في هذا البلد العربي الذي يأبى شعبه الاستعباد ولو كلفه ذلك رغيف خبزه ولكن هل تسقط ايضا جبهاتها في اليمن وتتراجع مشاريعها التدميرية في هذا البلد العربي ايضا.
*نون بوست