في الثاني من فبراير من كل عام، تعود إلى أذهان السوريين ذكرى المجزرة التي أدخلتهم إلى حجرات الخوف والرعب لمدة 29 عاماً، وكان السوريون يتناقلون أحداث تلك المجزرة المروعة، التي صنفتها منظمة العفو الدولية على أنها كبرى مجازر القرن العشرين، بصمت وهمس حتى اندلعت الثورة السورية.
وعلى الرغم من أن هذه المجزرة ما تزال ذكراها المروعة ماثلة في أذهان أهالي المدينة حتى الآن، فإن جرائم الأسد التي يمارسها منذ عام 2011 طغت عليها، وبات السوريون والعالم يشاهدون ما جرى في حماة من خلال المذابح التي عمت سوريا كلها.
وكان للصور المرعبة والفظائع التي ارتُكبت في أثناء تلك المجزرة، الأثر الكبير على السوريين، ما جعلهم يعيشون في خوف دائم من النظام حتى اندلاع الثورة.
وتكاد لا تخلو عائلة في حماة إلا وفيها قتيل أو مفقود أو مهاجر جراء تلك المجزرة، هذا بالإضافة إلى غضب النظام على هذه المدينة وأهاليها؛ إذ قام بعد تلك المجزرة بتهميشها والتشديد على أهاليها ومعاملتهم كخونة ومنبوذين.
ويكفيك حتى تتصور هول تلك المجزرة أن تعرف أن أهالي حماة عندما يروون لك قصةً ما، سواء كانت ولادة أو وفاة أو زفافاً، أو أياً كانت القصة، فإنهم يقولون إنها وقعت قبل الأحداث أو بعدها بفترة كذا.
“الخليج أونلاين” عاد لتلك الحقبة؛ ليسمع من شهود عيان رواية حقيقة ما جرى خلال السبعة والعشرين يوماً، التي غيرت وجه حماة للأبد..
– المواجهة حتى الموت
صباح الثاني من فبراير عام 1982، شنّ جيش النظام السوري حملة عسكرية واسعة، ضد ما سماه عصيان جماعة الإخوان المسلمين في المدينة، واستمرت 27 يوماً، ارتكب خلالها مجازر عدة، فقد طوّق المدينة وقصفها بالمدفعية والدبابات والطيران، ومن ثم اجتاحها برياً؛ ليقضي على عشرات الآلاف من المدنيين من أهالي المدينة.
ورغم مضي ثلاثة عقود، فإن ما شهدته تلك المدينة، التي تتوسط الأراضي السورية ويقطنها قرابة 750 ألف نسمة، يعتبر الأكثر مرارة وقسوة قياساً إلى حملات أمنية مشابهة في ذلك الزمان، فقد استخدمت حكومة حافظ الأسد سرايا الدّفاع بقيادة شقيق الرئيس رفعت الأسد، واللواء 47/ دبابات، واللواء 21/ ميكانيك، والفوج 21/ إنزال جوي (قوات خاصة)، فضلاً عن مجموعات القمع من مخابرات وفصائل حزبية مسلّحة، كما منح النظام القوات العسكرية الصلاحيات كاملة لضرب المدينة، وفرضت السلطات تعتيماً على الأخبار؛ لتفادي الاحتجاجات الشعبية والإدانات الخارجية.
عمر القاضي (أبو زيد)، أحد أبناء مدينة حماة، وأحد الذين قاوموا الهجوم، روى لـ”الخليج أونلاين” الأحداث وكان عمره آنذاك 16 عاماً فقط، يقول: “في منتصف ليل الثاني من فبراير، خرج أئمة المساجد ينادون عبر المآذن للدفاع عن المدينة التي ينوي أن يستبيحها النظام”.
يضيف: “قاتلْنا النظام أسبوعاً كاملاً حتى نفاد الذخيرة، كبّدنا النظام خسائر وحاولنا عدم التسبب في قتل المدنيين، لكن النظام ضرب المدينة بالمدفعية والطائرات دون رحمة وعشوائياً، يبدو أنه كان يريد أن يجعل حماة عبرة لسوريا كلها”.
ويتابع قائلاً: “لم أندم على ما فعلت، كنت أجابه نظاماً مجرماً طائفياً، عزم على استباحة المدينة دون رحمة، كان هذا جلياً عندما قتل النظام وفد المدينة الذي ذهب للأسد الأب؛ لكي يحل جميع الأمور العالقة معه”.
– ذُبِحت بصمت
الصحفي البريطاني الشهير روبرت فيسك، زار المدينة المنكوبة، ودُهش حين قال له أحد ضباط الأسد ضاحكاً: لقد “بقي أقل من الذين قتلناهم”، يقول: “في حماة منذ عدة أسابيع، تم قمع الانتفاضة الشعبية بقساوة نادرة في التاريخ الحديث.. لقد غزا (حافظ ورفعت الأسد) المدينة بمثل ما استعاد السوفييت والأمريكيون برلين، ثم أجبروا من بقي من الأحياء على السير في مظاهرة تأييد للنظام”.
مها عربو، التي كان عمرها حينها 12 عاماً، والتي فرّت مع أهلها من حي الكيلانية الذي محاه نظام الأسد من الوجود، تقول في شهادتها لـ”الخليج أونلاين”: “صباح الثاني من فبراير، بدأنا نسمع أصوات الرصاص والقصف، لم نخرج من بيوتنا حتى يوم العاشر من فبراير؛ بسبب المعارك وأصوات الانفجارات التي لم تتوقف. بحثنا عن أبي وأخي اللذين ظننا أنهما مختبئان في مكان ما، فوجدناهما مقتولين عند باب عمارتنا”.
تضيف قائلة: “لا أنسى بعد كل تلك السنين، جثتهما وجثث العشرات التي مشينا عليها حتى استطعنا الوصول إلى إحدى الطرق الفرعية التي نقلتنا إلى الريف ومنه إلى حلب، شيء لا يصدقه العقل، كانت جثث أطفال ونساء تنهشها الكلاب، كانت الدماء بقعاً واسعة لم يستطع المطر الهاطل منذ يومين أن يمحو بعض آثارها، كان مشهد المدينة فظيعاً، ليس فيه سوى الدمار والدماء”.
مها، السيدة التي على وشك أن تصبح جدة الآن، روت لـ”الخليج أونلاين” عن بعض المجازر التي سمعتها من ذويها الذين نجوا حينها من حصد الرصاص، تقول: “في منطقة سوق الطويل، يقع مسجد يسمى (الجامع الجديد)، في داخله وقعت مجزرة رهيبة بعد أربعة عشر يوماً من الأحداث، كان الناس قد بدؤوا يخرجون قليلاً إلى الشوارع، طلب الجنود من الأهالي التوجه نحو سيارات الخبز في طرف الشارع، أسرع الأطفال، وكانوا بالعشرات، حملوا الخبز، وهم يعودون اعترضهم الجنود وطلبوا إليهم الدخول إلى الجامع الجديد، وهناك فتحوا عليهم النار وقتلوهم جميعاً”.
تتابع: “كان هناك فِرق موت تجوب المدينة، يقتلون، ينهبون، يغتصبون، قتلوا طفلاً وليداً أمام أسرته في حي الحاضر؛ كي لا يكبر ويصبح من الإخوان (الإخوان المسلمين)، قتلوا جريحاً وأخرج أحد الجنود العلويين قلبه”، تؤكد بحزن أن “هذه القصة ليست أسطورة؛ بل حقيقة، والضحية يدعى (سمير قنوت) من حي الحاضر”.
تختم مها حديثها لنا بالقول: “على مدى 27 يوماً، ارتُكبت مجازر لا يمكن عدها ولا يمكن توثيقها، إلا عبر الشهود الذين عاشوها.. باختصار، المدينة ذُبحت بصمت”.
– أمل العدالة
حاول العديد من الحقوقيين السوريين المعارضين تقديم طلب لمحاكمة مرتكبي الجريمة الكبرى، لا سيما رفعت الأسد، كما طالبوا المنظمات الحقوقية بتحقيق دولي مستقل في أحداث حماة، ومعاقبة المسؤولين عن المجزرة التي تعتبر الأكثر عنفاً ودموية وقسوة في تاريخ سوريا الحديث؛ غير أن أبواب المحاكم كانت تُسد في وجوههم بذرائع عدة.
يرى الدكتور رضوان زيادة، مدير المركز السوري للعدالة الانتقالية، أن “هذه القضايا لا تسقط بالتقادم؛ لأنها جرائم حرب، وقد حاولت المعارضة سابقاً محاكمة النظام، لكنها كانت تصطدم برفض الطلب؛ بحجة عدم وجود قرار دولي سياسي بذلك”.
ويضيف: “المسألة معقدة، مضى عليها نحو 30 عاماً، التحقيق فيها سوف يستمر سنوات؛ لحصر المشتبه فيهم والجناة. لكن، طالما هناك من يطالب بالعدالة، فإن أمل تحقيقها يبقى حياً”.
يتحدث التاريخ عن نيرون الذي أحرق عاصمته روما قبل أكثر من ألفي عام، ليتمتع بمنظر الحريق، وما ندري نصيب هذه الحكايات من الخيال ومن الواقعية، لكن سيتحدث الناس حتى بعد ألف عام عن سوريا، وأنها مرّت بفترة نظام حكم انعدمت عنده القيم والإنسانية والأخلاق، وتجرد من أي ولاء للشعب أو الوطن أو الأمة، واستطاع حكامها التوغل في دماء شعبها، ومدينة حماة أكبر مثال على ذلك وما زالت تنتظر العدالة.