بقلم - إحسان الفقيه
دخل أحدهم على الشافعي حال مرضه، فقال: يا أبا عبد الله، قوَّى الله ضعفك، فرد عليه الشافعي: “لو قوّى الله ضعفي على قوتي أهلكني”، فقال الرجل: ما أردتُّ إلا الخير، فقال الإمام: لو دعوتَ الله عليّ لعلمتُ أنك لم تُرد إلا الخير.
إنها طريقة مَنْ صَفَتْ نفسه، وآمن بقيمة الأخوة ومقتضياتها، وقطَع الطريق على نفسه أن تسقط في أوحال التأويلات الفاسدة، وحَمْل الكلام على أسوأ المحامل، فإذا كان هذا هو حال الأبرار مع ما ثبتت نسبته لقائله، فكيف بِتعاملهم مع من ينفي الكلام من أساسه؟!
وعلى عادتنا، كلما تجدَّد لدينا أمل التلاقي، نُفيقُ من سكْرة التفاؤل على ألحان الشتات النازفة، وصرْنا مع الشقاق كالنَّدِيم.
آخر جراحاتنا تصريحات مكذوبة على أمير قطر تضمَّنت تحامُلا على دول عربية شقيقة، ودفاعا عن إيران وأذنابها، وإبداءًا للإنسجام مع الاحتلال الصهيوني.
ودون أدنى ترَيُّث أو شيء من الرَوِيَّة، اختطفتها وسائل إعلام عربية، وطارت بها إلى الآفاق تبثُّها على الأنام، تضيف إليها نكهتها العدائية، وتوليفة من أعجب توابل الكراهية، ووضعتْها على مائدة التأويلات والتفسيرات المُعدَّة سلفا، لتصبح قطر في سُويْعة قاصمة الظَهر العربي، والباحثة عن المتعة الحرام مع إيران.
لست أدري كيف أصبحت تلك التصريحات المكذوبة – التي جاءت بفعل اختراق للوكالة القطرية –مادة خِصْبة للإعلاميين بهذه السرعة، وكيف تم استضافة المحللين والخبراء في السياسة الإقليمية على هذا النحو المُريب، وكأنَّ الأمور قد تم تجهيزها مُسبقا، فكانت التصريحات المُفبركة شارة البدء لكي تَبرُز أنياب الذئاب الإعلامية وتُغرس في الجسد القطري، بل قل على وجه الدقة: في الجسد الخليجي.
ألمْ تكن أبسط قواعد المهنية وأخلاقيات الإعلام تفرِض على القنوات والمواقع العربية حذف ما نشرته حول التصريحات بمُجرد صدُور نفْيٍّ قطريٍّ وتصريحٍ باختراق الوكالة الرسمية؟
ما الذي نفهمه من استمرار وسائل الإعلام العربية -حتى وقت كتابة هذه السطور – في الطنطنة والدندنة حول تلك التصريحات والتعامل معها على أنها حقيقية رغم النفْي القطري؟
ما الذي نفهمه من دفْن خبر النفي القطري على هامش الأخبار المعروضة للتلْبيس على الناس ؟
وما الذي نفهمه من إصرار مواقع وقنوات عربية على أن النفي القطري ليس منطقيا.
وزاد الطين بِلّة، أنْ بثَّت تلك القنوات والمواقع العربية خبرا مكذوبا لا يقِلُّ سذاجة عن الأول، يفيد بأن قطر تسحب سفراءها من دول الخليج.
لما تخلف أبو خيثمة الأنصاري عن اللِّحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فرأى الحبيب رجلا يزول به السراب، فتمنى أن يكون الرجل أبا خيثمة، فقال بصيغة التمني: كُن أبا خيثمة، وقد كان.
إنه المؤمن حين تتَّجه أمنيته إلى وصول الأخ ولمّ الشمْل، لا إلى تخلُّفِه عن الركْب، كحال إعلامنا العربي الذي بدت البغضاء في مسلكه، فاستمر في النيْل من قطر حتى مع نفيِها تلك التصريحات المكذوبة، ما يعكس رغبة جارفة في شقِّ الصف الخليجي، وتخلُّف قطر عن رَكْب العائلة الخليجية.
يا إعلام العرب بأي منطق نحدثكم؟ وبأي لهجة نخاطبكم؟
أَبِالدين؟ فاستمعوا إلى ابن مسعود صاحب رسول الله وهو يقول: “قولُوا خيرًا تُعْرَفُوا بِهِ، واعْمَلوا بِه تكونُوا مِنْ أهلِهِ، ولا تكونُوا عُجُلاً مَذَايِيعَ بُذُرًا”.
المذاييع من المذياع، وهو الذي ما إن يسمع شيئا حتى يسارع بإشاعته، وهكذا كنتم.
أَبِالعروبة ووحدة الصف الخليجي؟ فما الذي يُجنى من الهجوم على دولة خليجية بغير حق، في ظلّ العربدة الإيرانية، وفي ظل التدخل الغربي والشرقي في المنطقة.
لماذا الهجوم على قطر؟ أَمِن أجل أنها لا تدخل في علاقات عدائية مع حماس والإخوان؟ أمِن أجل أنها لا تضع الجماعات في سلة واحدة؟ أمِن أجل أنها تتلاقى مع محور الاعتدال الإسلامي؟ أهذه تهمة؟ ما أشبهها بتهمة آل لوط: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}.
من له أدنى مَسحةٍ من فهم، يُدرك أن التصريحات التي نُسبت إلى أمير قطر، وأعلنت الوكالة الرسمية أنها مكذوبة نتيجة اختراق، يُدرك أنها من السذاجة والسطحية والتخبُّط بمكان، ولا يقول مثْلها قارئٌ سياسي فضلا عن كونه رئيسا لدولة، فهي تصريحات من باعَ كل شيء بلا ثمن، لا يُعقل أبدا صدُورها عن هذه الدائرة الحساسة في الإدارة القطرية، ومثله يُقال في خبر سحب السفراء من حيث الإِغراق في عدم المنطقية.
ما أشبه الإعلام العربي بالبسوس سعاد بنت منقذ، إذ نزلت على ابن أختها جساس بن مرة من البكريين، ومعها جارٌ لها يقاله له “سعد”، لديه ناقة رمَاها كليب بن ربيعة التغلبي لما رآها في حِمَاه ترْعَى، فلم تزِل المرأة تنادي بأبيات الفَناءِ غير قانِعة بالديَّة:
لعمرك لو أصْبَحْتَ في دار مُنْقِذٍ … لما ضِيمَ سعدٌ وهو جارٌ لأبْيَاتِي
ولَكِنَّنيِ أصْبَحْتُ في دار غُرْبَةٍ … مَتَى يَعْدُ فيها الذئبُ يَعْدُ على شَاتِي
فيا سعدُ لا تُغْرَرْ بنفسكَ وَارْتَحلْ … فإنَّك في قومٍ عن الجارِ أمْوَاتِ
ودُونَكَ أذْوَادِي فإنيَ عنهمُ … لَرَاحِلةٌ لا يُفْقِدني بُنَيَّاتِي
فقام ابن أخيها جسّاس فقتل كليبا، فقامت حرب طويلة بين بكر وتغلب قيل أنها بلغت أربعين عاما، فما أشبه بإعلامنا بالبسوس ينادي بالويل والثبور، وينفخ في النار، ويتطلَّع إلى جنازة كبيرة يقوم فيها بدور النائحة المُستأجَرة، ويشقُّ الصف وينْخُر في عوده.
دولة قطر ليست كغيرها ممن يدخل في علاقات تنافسية مع السعودية لتحقيق طموحات خاصة، ودائما تتخنْدَق مع جيرانها في الأزمات والملفات الشائكة، فليس من سياساتها الدخول في نزاعات مع الأشقَّاء.
الهجمات التي طالت السعودية بالأمس في إثْر استضافة القمة الإسلامية الأمريكية، خرجت من ذات المنصَّة التي هاجمت اليوم قطر بعد التصريحات المكذوبة، فهناك رغبة محمُومة لِفصْم الرابطة الخليجية.
لقد أثلج صدري ما رأيته من حرص كثير من النخب والكُتَّاب والإعلاميين السعوديين-ومن ورائهم جموع من الشعب السعودي- على التنديد بالحملة الشرسة على قطر، فليست الأبواق التي نفخت النار سوى الزمرة الليبرالية التي لا تُعّبر عن الشعب السعودي، ولا عن التوجهات الرسمية للمملكة.
بل يدرك الشرفاء أنها محاولة فاشلة للوقيعة بين قطر والسعودية، واللتين تتوافقان في معظم الملفات الهامة بالمنطقة.
أيا إعلاميي العرب، اتقوا الله في أوطانكم، ولا تذبحوا الأمة بسكين أيديولوجياتكم وأفكاركم وأُطروحاتكم، فكفَانا شقاقا وتناحرا، فما نحن إلا كالأيتام على مائدة اللِّئام، ونحتاج إلى ما يجمع الكلمة، ويلُمُّ الشَّعْث، ويبحث عن المشتركات ويدعمها، ويسدّ الثغرات بِمِلاط الوفاق