حادثة الاغتيال الأخيرة التي طالت أحد الدعاة في محافظة المهرة، والتي تعد الأولى من نوعها هناك، ودلالة توقيتها المرتبط بتزامنها مع سيطرة قوات إماراتية وسعودية على المحافظة التي ظلت في منأى عن الصراع منذ الانقلاب ثم بدء عملية “عاصفة الحزم”، تسلط الضوء بكثير من التفاصيل على حوادث الاغتيالات والاعتقالات والإخفاء القسري في المحافظات الجنوبية من اليمن، والتي صارت من أبرز ثوابت الحالة الأمنية المتردية في الجنوب منذ أن أصبحت دولة الإمارات الحاكم الفعلي هناك.
فيا ترى، من هو الطرف الذي ينفذ عمليات الاغتيال التي طالت علماء ودعاة وخطباء مساجد ومن تيار دعوي محدد؟ ولماذا لم تحقق السلطات الأمنية المحلية في حوادث الاغتيالات هذه وتضع حدًا لها؟ ولماذا لم تدنها السلطات المدنية المحلية مجرد إدانة؟ ولماذا تسكت عنها دول التحالف العربي، وعلى رأسها دولة الإمارات، التي صارت الحاكم الفعلي في جنوب اليمن عبر عملاء محليين يعملون تحت لافتات عسكرية مثل قوات “الحزام الأمني” و”النخبة الحضرمية” و”النخبة الشبوانية”، ولافتات سياسية مثل “المجلس الانتقالي الجنوبي”؟ والسؤال الأهم: لماذا لم تشهد محافظة المهرة أي عملية اغتيال إلا بعد أيام قليلة من سيطرة قوات سعودية وإماراتية عليها؟
– من المسؤول؟
في عالم الجريمة -الفردية أو المنظمة- هناك مقولة شائعة وهي “فتش عن المستفيد”، وتعد هذه المقولة بداية الخيط لمعرفة من هو الطرف المستفيد من هذه الجريمة، سواء كانت الاستفادة ذاتية، من خلال استهداف خصوم أو منافسين محتملين، أو بهدف إشعال حروب ومواجهات بين أطراف أخرى، من خلال استهداف رموز أحدهما بغرض تأليبه ضد الطرف الآخر.
وفي حال كانت الجريمة منظمة، كما هو حاصل من اغتيالات ممنهجة ومتشابهة من حيث توقيتها الزمني في جنوب اليمن، وتطال تيارًا دعويًا أو دينيًا محددًا، فهذا يعني أن هناك اجتماعات تتم على مستويات عليا، يتم خلالها تحديد الأشخاص المستهدفين بالاغتيال، وتحديد مكان وزمان كل جريمة، واختيار الأشخاص المكلفين بتنفيذ كل جريمة على حدة، وتوفير ما يلزم من سلاح ومركبات، وتدريبهم على أساليب تنفيذ الجريمة والفرار والتمويه خشية أن يتم القبض عليهم من قبل مواطنين أو تتبعهم ومعرفة الجهة التي سيعودون إليها، أي أن الجريمة تنفذ باحتراف، وصارت أبرز ثوابت الحالة الأمنية المتردية في جنوب اليمن.
ويعني ذلك أن ما يحصل في جنوب اليمن من جريمة منظمة، دون أن تقوم الأجهزة الأمنية المحلية بدورها في تتبع مرتكبيها ومحاكمتهم والتحقيق معهم بشأنها وإطلاع الرأي العام على نتائج التحقيقات، يعني أن من يقفون خلف تلك الجرائم هم المسيطرون فعليًا على الشأن الأمني، وأن الأمر يتم بتنسيق بينهم وبين السلطات المدنية المحلية، وبتنسيق وتعاون وتحريض من قبل الحاكم الفعلي في الجنوب ممثلًا بدولة الإمارات.
وخلاصة كل ذلك أن الطرف المسيطر هو من يرتب أوراقه ليخلو له الجو لترسيخ سيطرته الكاملة على الجنوب، ويقوم بالتصفية الجسدية للشخصيات ذات الوزن الشعبي والاجتماعي خشية أن تشكل تكتلًا موحدًا ضده، بينما صغار المعارضين ممن ليس لديهم أي شعبية أو وزن اجتماعي فيتم الزج بهم في السجون وتعذيبهم وإخفاؤهم دون الالتفات إلى معاناة أهاليهم أو مطالبة المنظمات الحقوقية الدولية بالإفراج عنهم.
– تداعيات خطيرة
حوادث الاغتيالات والاعتقالات والإخفاء القسري والتعذيب في السجون في جنوب اليمن، وما تثيره من حالة قلق نفسي واضطراب اجتماعي ويأس سياسي وهجرة صامتة لمن يشعرون بالاستهداف إلى محافظات شمالية أو إلى خارج الوطن، تعيد إلى الأذهان أجواء الحكم الشمولي المستبد الذي كان قائمًا في جنوب الوطن قبل الوحدة، والذي كان أبرز خصومه هم علماء الدين والدعاة وخطباء المساجد وغيرهم من المعارضين أو غير الموالين، كما تبدو القبضة الأمنية في الجنوب شبيهة بالقبضة الأمنية التي تمارسها السلطات الإماراتية داخل أراضيها.
وكل ذلك يجعل الوضع في جنوب اليمن فائق الخطورة، كونه يجمع بين إرث استبدادي محلي واستبداد آخر قادم من وراء الحدود، ومن شأنه أن يوفر بيئة خصبة لتنامي العنف والإرهاب، خاصة في ظل وجود جماعات وتنظيمات إرهابية منتشرة في الجنوب وتتحصن في الجبال، وتستعد لتنفيذ مخططات قد تخلط الأوراق على جميع الأطراف، باعتبار العنف والإرهاب الوسيلة الوحيدة التي ستظهر وتتنامى كرد فعل على استبداد الحاكم الفعلي في الجنوب، لاسيما في ظل غياب شبه تام للسلطة الشرعية، وتحول هياكلها الإدارية إلى مؤسسات شكلية مجردة من القوة والصلاحيات.
وتقع المسؤولية على عاتق السلطة الشرعية لتعزيز حضورها، وتقليص دور مختلف الأطراف المناهضة لها، والقيام بدورها في حفظ الأمن والاستقرار وحماية أرواح الأبرياء، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات العامة للمواطنين.
*الموقع بوست