بعد انتهاء المهلة التي حددها البيت الأبيض مطلع أغسطس/آب لتلقي عروض اتفاقات تجارية جديدة، عاد ملف التعريفات الجمركية إلى واجهة المشهد العالمي وسط تساؤلات حول الاتجاه المقبل للاقتصاد الأمريكي والعالمي.
وفي قلب القصة، يقف قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بإحياء ما سماه “التعريفة الجمركية المتبادلة”، والتي أعلنها أول مرة في الثاني من أبريل/نيسان، قبل أن يجمّد تطبيقها لمدة 90 يوماً بدءاً من الثامن من الشهر نفسه، ثم يمدد الوقف المؤقت حتى الأول من أغسطس/آب الجاري.
ووفق قراءة واسعة الانتشار، اعتُبرت المهلة فرصة أخيرة لشركاء واشنطن التجاريين للتقدم بعروض تفاوض، وإلا العودة إلى رسوم مرتفعة على صادراتهم إلى السوق الأمريكية.
وجاء التمديد ليلمح إلى استخدام ملف الاتفاقات كورقة ضغط للحصول على تنازلات تجارية أكبر، فيما ظلت النتيجة النهائية رهن ما ستسفر عنه طاولات التفاوض الثنائية ومتعددة الأطراف.
ما الذي تم التوصل إليه حتى الآن؟
وتوصلت الإدارة الأمريكية إلى تفاهمات مع شركاء بارزين، من بينهم المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وفيتنام، إلى جانب اقتصادات صاعدة أخرى.
وفي المقابل، غابت اتفاقات مع أطراف تجارية مهمة مثل كندا والمكسيك وتايوان والهند، ما عجل بفرض رسوم مرتفعة على صادراتها المتجهة إلى الولايات المتحدة.
وعلى المسار الصيني، تشكلت “هدنة” جزئية تضمنت تعليقاً محدوداً لبعض الرسوم في قطاعات بعينها وتأجيلاً لرسوم أخرى مع استمرار بعضها القائم سلفاً.
كيف تغيّرت قواعد اللعبة؟
وقال مدحت نافع، أستاذ الاقتصاد والتمويل، إن المشهد “مُهيأ لتحولات عميقة” تتجاوز ما استقر منذ تأسيس النظام التجاري متعدد الأطراف بعد الحرب العالمية الثانية.
وأضاف أن واشنطن “تعيد صياغة الاتفاقات بما يحقق مصالحها أولاً”، مستشهداً بسابقة تعديل نافتا إلى اتفاق الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA)، لكنه رأى أن الثمن كان “توترات وأسواق أكثر هشاشة وثقة أقل في منظمة التجارة العالمية”.
ووفق الإعلان الأمريكي الأخير، دخلت رسومٌ مرتفعة كانت مجمّدة لأكثر من 90 يوماً حيز التنفيذ على 69 شريكاً تجارياً، بين 10% و41%، مع بدء التطبيق خلال سبعة أيام من الإعلان.
وترك ترامب الباب مفتوحاً بشأن تمديد الهدنة مع الصين من عدمه، على أن يحسم القرار قبل 12 أغسطس/آب، علماً بأنه سبق وأن فرض رسوماً على واردات محددة من الصين وصلت إلى 145%.
هل هي ورقة ضغط أم عقاب اقتصادي؟
ويرى محمد حسن زيدان، كبير المحللين الاستراتيجيين لأسواق المال في “كافيو”، أن النهج الحالي “متشدد” تحت شعار “أمريكا أولاً”، وقد أفضى إلى مكاسب تفاوضية مع الاتحاد الأوروبي (بما في ذلك رسوم 15%)، وبريطانيا واليابان، دون بلوغ هدف “90 صفقة في 90 يوماً”.
ومن زاوية الأثر، يشير نافع إلى أن الرسوم “تنتقل سريعاً إلى الأسعار”، عبر زيادة كلفة الواردات وارتفاع كلفة السلع الاستهلاكية والوسيطة، ما يضغط على المستهلك الأمريكي ويعقّد مهمة البنوك المركزية في موازنة التضخم والنمو.
كيف ينعكس ذلك على الاقتصاد العالمي؟
وبحسب زيدان، فإن نطاق الرسوم بين 10% و145% (على قطاعات من الصين) مرشح لتغذية التضخم عالمياً بفعل ارتفاع تكاليف الاستيراد، مع تباطؤ محتمل للنمو نتيجة اضطراب سلاسل التوريد.
ولا تزال شروط الاتفاق الأمريكي الأوروبي قيد التفاوض، فيما يكتنف الغموض مآلات الهدنة بين واشنطن وبكين، وهو ما يبقي حالة عدم اليقين مرتفعة لدى الشركات والمستثمرين.
ويحذر نافع من أن الدول غير الموقعة على اتفاقات مع واشنطن تقف بين خيارين أحلاهما مر: القبول بشروط غير متكافئة أو الدخول في مواجهات تجارية قد تعمّق اضطراب سلاسل الإمداد.
ماذا عن الاقتصادات العربية؟
وبحسب نافع، لن تكون المنطقة العربية، ومصر بوجه خاص، بمنأى عن التداعيات غير المباشرة، مع احتمال تأثرها بتذبذب أسعار السلع الأساسية، وتراجع الطلب العالمي على صادراتها، وانكماش تحويلات العاملين بالخارج إذا خفّ النشاط في الاقتصادات المضيفة.
كما قد تتأثر تدفقات رؤوس الأموال نحو الأسواق الناشئة مع إعادة رسم خريطة الاستثمارات، بما يضغط على احتياطيات النقد الأجنبي وتمويل العجز في دول تعتمد على استثمارات قصيرة ومتوسطة الأجل.
ولا يستبعد نافع إعادة النظر في بعض بنود اتفاقية “الكويز”، مثل نسبة المكوّن الإسرائيلي أو قواعد المنشأ، بما قد يثقل كاهل صادرات صناعية مصرية بعينها.
ما هي نسب الرسوم ومن تشمل؟
وفرضت واشنطن رسوماً بين 10% و41% على 69 دولة بعد نفاد المهلة، إلى جانب نسب محددة على دول بعينها: 35% على كندا، و39% على سويسرا، و25% على الهند.
وامتدت الرسوم إلى دول عربية شملت 15% على الأردن، و25% على تونس، و30% على الجزائر وليبيا، و35% على العراق، و41% على سوريا.
وللشرق الأوسط، يلفت زيدان إلى أن المخاطر الأشد قد تأتي من التداعيات غير المباشرة إذا انزلق الاقتصاد العالمي إلى تباطؤ واسع، ما ينعكس مباشرة على الطلب والاستثمار والتمويل في المنطقة.
وهنا، تبدو الحاجة، بحسبه، إلى تنويع الأسواق ومصادر الاستثمار، وتعزيز التكامل الإقليمي لتخفيف الصدمات المحتملة.
BBC