بقلم - مصطفى النعمان
تقول التجارب والنظريات السياسية إن نتائج أية مفاوضات يحددها ما يمتلكه كل طرف ومقدار القوة التي يتحكم بها، وقبل ذلك وجوده بجوار الناس على الأرض. وليس معروفاً، عندي على الأقل، أن انهارت سلطة حاكمة من دون مقاومة وفرت بكامل قياداتها وأحزابها وجيشها أمام تقدم قوة معارضة صغيرة لا تضاهيها عدة وعتاداً.
وهكذا لم يعد ممكناً حالياً ومنطقياً الحديث عن مسار سلام جاد وفعال ومستدام يضع حداً نهائياً للحرب اليمنية، لأن الأمر لا يتعلق بالرغبة وإنما بسبب العجز الأخلاقي الفاضح الذي تحكم وما زال بالقرار السياسي لدى أطرافها الذين أصبحت لديهم دماء اليمنيين ومستقبلهم مجرد سلعة يساومون العالم عليها.
ومن الضروري استدراك أن السلام الذي ينشده حالياً اليمني البسيط لا يصل إلى حد الخيال الطائش الذي يتحدث عنه السياسيون المستفيدون من استمرار الحرب، وصارت أغلى أحلام المواطن البسيط لا تتعدى التنقل الآمن داخل القرى وبين المدن واستلام الراتب بانتظام والسفر من دون التعرض إلى المهانة والإذلال، لأن الحديث عن مسار سياسي ومفاوضات في ظل الأوضاع الراهنة ليس سوى إقرار بحجم سيطرة كل طرف على ما تحت يديه على الأرض.
في مطلع شهر فبراير (شباط) 2020 جرى الإعلان ضمناً بانتهاء الحرب، في تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن الرئيس الأميركي المنتخب آنذاك جو بايدن أمر بإلغاء القرار الذي اتخذته إدارة سلفه الرئيس دونالد ترمب في الأيام الأخيرة لحكمه بتصنيف جماعة “أنصار الله” الحوثية منظمة إرهابية، وكان ذلك الإجراء مؤشراً على أن واشنطن قررت التدخل المباشر في تحديد مسار إنهاء الحرب اليمنية وأنها عازمة على ممارسة كل نفوذها وتأثيرها من أجل تحقيق الوعد الانتخابي الذي أعلنه بايدن أثناء حملته الانتخابية وظنه كثيرون مجرد جملة وموقفاً عابرين في برنامجه.
تزامن القرار الأميركي في تنفيذ الوعد الانتخابي مع رغبة سعودية في التفرغ للمشاريع الاقتصادية الهائلة والتحولات الاجتماعية التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وبالضرورة فإن ذلك استوجب وضع حد للتدخل العسكري الذي بدأ فجر الـ26 من مارس (آذار) 2015 بعد إعلان الرياض الموافقة على تلبية طلب المساعدة الذي تقدم به الرئيس عبدربه منصور هادي إلى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز لاستعادة العاصمة من سيطرة “الجماعة”.
وللتذكير فإن الأوضاع على الأرض حتى عام 2020 كانت تمنح الحكومة المعترف بها دولياً أوراقاً للمساومة والمقايضة، فكانت محافظات مأرب والجوف والبيضاء تحت سيطرتها، ولكن القوات الحكومية خسرت كامل محافظتي الجوف والبيضاء وأغلب مديريات محافظة مأرب التي لم يتبق منها إلا مديريتان تحت سيطرة الشرعية، وفي الوقت ذاته انحسرت سلطة الحكومة داخل المحافظات الجنوبية تحت ضغط القوة المسلحة التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي الجنوبي.
هنا يتساءل المرء كيف يمكن الحديث عن مسار سلام في ظل ارتباك وصراع سياسي عبثي لا يتجاوز التعيينات في المواقع التنفيذية العليا والدنيا، إضافة إلى الصراع المستمر حول تشكيل ما يسمى بـ”فريق المفاوضات” وتكالب الأحزاب على وجودها فيه وتغيرت قائمة الأسماء مرات عدة، ولم تحسم القضية الأهم وهي التمثيل الجنوبي، وهل يكون ضمن الوفد الحكومي أم يكون في فريق مستقل، وكيف ستتناول القضية الجنوبية.
ووسط الجمود في مقاربة خطة السلام التي بحثها السفير السعودي لدى اليمن محمد آل الجابر والمبعوث العماني مع “الجماعة” خلال زيارتيهما إلى صنعاء، أثار عضو “مجلس القيادة الرئاسي” عبدالرحمن أبو زرعة ضجة بتوجيهه انتقادات قاسية لأداء الحكومة وهي في مجملها معروفة للجميع، ولكن الاعتراض عليها يتركز في أنها قضية تزيد من الارتباك والإحباط والفوضى العارمة التي تحكم العلاقات بين أطراف الحكم في المجلس، وكان من الحصافة السياسية بحثها في اجتماع عاجل للمجلس بحضور رؤساء مجالس النواب والحكومة والشورى وربما الحكومة كاملة ومناقشتهم في كل جزئيات الأزمات التي تعصف بمستقبل البلد وكيفية تجاوز العجز المزمن في إدارتها.
شخصياً لم أكن من المعجبين بأداء الحكومات المتتابعة بل كنت من أشد منتقديها منذ عام 2015، والأمر اليوم صار يستدعي من الجميع الالتفات إلى ما يتعلق بقضايا الناس المعيشية التي بلغت درجة من البؤس والفقر والمرض والألم تستدعي الحسم وحسن التدبير قبل الحديث عن مسار سلام ومفاوضات ومشاورات، ومن المؤسف المحزن أن الانشغال الحقيقي في قمة الهرم السياسي متفرغ لاقتناص الغنائم والمناصب والمخصصات المالية، وفي خضم كل ذلك يتناسى المتصارعون في داخل الشرعية المتهالكة مسؤولياتهم الأخلاقية والوطنية.
إن كل حديث وكل جهد وكل مسعى يجب أن يتوجه نحو البحث في سبل تخفيف معاناة الناس وكيفية إيصال الغذاء والدواء والراتب إليهم، وفي سبيل ذلك يجب أن يتوقف هرب المسؤولين إلى خارج العاصمة الموقتة عدن وأن يعودوا لها في أقرب الآجال، ولا أظن ذلك مطلباً عصياً على رغم أنهم يتعللون بعدم القدرة على تقديم ما ينتظره الناس في الداخل منهم، وهو تبرير غير معقول وغير مقبول لأن المسؤول الذي يعجز عن أداء مهماته عليه إفساح المجال لغيره من القادرين.
( اندبندنت عربية)