أصبح الأمن البحري أولوية قصوى للسياسة الخارجية لدولة الإمارات بعد الجهود الناجحة لتنويع اقتصادها بعيدًا عن الهيدروكربونات، وبعد أن أصبحت مركزًا إقليميا للتجارة. وقد فتحت حرب اليمن فرصة للإمارات لمواصلة طموحاتها البحرية من خلال تأمين سيطرة غير مباشرة على 3 مواقع استراتيجية رئيسية: مضيق باب المندب، وميناء عدن، وجزيرة سقطرى، وكلها تقع بالقرب من أكثر طرق الشحن ازدحامًا في العالم.
وخلال العقد الماضي، اتبعت الإمارات سياسة خارجية عدوانية إلى حد ما، حيث اعتمدت في كثير من الأحيان على أدوات قوتها الصلبة من خلال التدخلات العسكرية المباشرة والدعم العسكري لشركائها المحليين، لا سيما في القرن الأفريقي وليبيا واليمن. لكن منذ عام 2019، بدأت أبوظبي في إعادة ضبط سياستها الخارجية. ولكن ذلك لا يعني أن الإمارات ستتخلى عن طموحاتها كقوة بحرية إقليمية. فقط ستركز على تنويع محفظتها الدبلوماسية من خلال مبادرات القوة الناعمة التي ستساعدها في تحقيق أهدافها الجيوسياسية الاستراتيجية.
وفي حين أن الإعلان عن صفقة أسلحة بقيمة 982 مليون دولار لـ 4 سفن دورية بحرية من طراز “فلاج-3” للبحرية الإماراتية يعني أن الدولة ستستمر في زيادة قواتها البحرية، فقد انضمت الإمارات أيضًا إلى العديد من المبادرات الإقليمية مثل المهمة البحرية “سنتينل” التي تهدف إلى حماية الملاحة والتجارة الدولية في مضيق هرمز، كما انضمت إلى مبادرة المراقبة البحرية الأوروبية في مضيق هرمز “إيماسوه” من خلال استضافة مقرها الرئيسي.
وإلى جانب البعد الدبلوماسي والعسكري، قامت الإمارات باستثمارات جيواقتصادية كبيرة حول الممرات المائية في المنطقة، وكانت “موانئ دبي العالمية” القوة الدافعة الرئيسية للإمبراطورية البحرية الجيوتجارية الناشئة لدولة الإمارات. ووفقًا لـ”جينس هيباتش”، الزميل الباحث في المعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية، تعتبر “موانئ دبي العالمية” ركيزة أساسية – وربما الأهم – في استراتيجية التنويع في دولة الإمارات.
وبالرغم من انسحابها العسكري من اليمن في عام 2019، لا تزال مناطق جنوب اليمن في دائرة نفوذ الإمارات من خلال الدعم العسكري والسياسي الواسع لحليفها “المجلس الانتقالي الجنوبي” الذي تم تشكيله من قبائل وجماعات من الحراك الجنوبي الذي يسعى إلى استقلال اليمن الجنوبي على طول حدود التقسيم القديمة بين شمال وجنوب اليمن (1967-1990).
ويُعتقد أن عودة الإمارات للانخراط في الصراع بعد نشر “ألوية العمالقة” في معركة مأرب (آخر معقل للحكومة اليمنية) هي السبب الرئيسي لهجمات الحوثيين الانتقامية على الإمارات وممرات الشحن في يناير/كانون الثاني الماضي. وأدى ذلك إلى وضع أبوظبي في وضع أمني دقيق للغاية حيث خاطرت بأمنها في الداخل من خلال التعامل مع المجلس الانتقالي الجنوبي.
وقد أرسلت هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة التي شنها الحوثيون على الأراضي الإماراتية رسالة قوية إلى أبوظبي مفادها أنهم قد يواجهون مصيرًا مشابهًا لمصير السعودية، التي تتعرض لتهديد مستمر منذ سنوات. في المقابل، فإن الانسحاب الكامل والتخلي عن المواقع الاستراتيجية في اليمن سيعني تهديدا للطموحات البحرية الإماراتية.
ويعتقد “هيباتش” أيضًا أن اليمن الجنوبي مهم للإمارات، ويرى أن هذا ربما كان السبب الرئيسي لانضمام الإمارات إلى الحرب في عام 2015، ولم يكن مفاجئًا أن تركز الإمارات على اليمن الجنوبي في وقت مبكر من الحرب. وأضاف “هيباتش” أن هناك نقطة أخرى أثارها كثير من اليمنيين وهي أن الإمارات لديها مصلحة راسخة في منع الموانئ اليمنية الرئيسية من أن تصبح منافسة للموانئ الإماراتية.
ويعتقد “جوزيبي دينتيس”، الخبير الإيطالي البارز في علاقات الشرق الأوسط، أن هجمات الحوثيين لن تغير نهج أبوظبي. وأضاف: “أنا متأكد تمامًا من أن هذا الوضع يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًا في السياسة الخارجية الإماراتية تجاه اليمن، على وجه الخصوص، للمطالبة بمشاركة أكبر من الولايات المتحدة الأمريكية”. وتوقع أن تطلب الإمارات من واشنطن مساعدة عسكرية جديدة لضمان حماية أمن الدولة والشركاء العرب الآخرين في منطقة الخليج من أي نوع من التهديدات.
لكن مع رغبة السعودية بشدة في إنهاء الحرب والبحث عن مخرج، يبدو أن الإمارات ستواجه صعوبات أكبر إذا أرادت الحفاظ على موقعها في البلاد. وبينما يرى البعض رحيل الرئيس اليمني الذي لا يحظى بشعبية كبيرة “عبدربه منصور هادي” وتوحيد الكتلة المناهضة للحوثيين كخطوات أولى نحو مفاوضات السلام، فإن هناك شكوكا في هذا الأمر حيث لم تشارك مليشيا الحوثي في المحادثات السابقة في الرياض، ولم يتم تمثيلهم في المجلس الرئاسي الجديد (مكون من 8 أعضاء).
ويقول “هيباتش” إن الحرب في اليمن كانت دائمًا صراعًا متعدد المستويات، وفي حين أن التحالف الرسمي الذي تقوده السعودية والإمارات قد ينتهي قريبًا إلى الأبد، فقد يفتح الباب أمام مفاوضات هادفة بين اليمنيين. وعلى المستويين الوطني ودون الوطني، ستبقى وستستمر القوى الخارجية في التلاعب. وبالرغم أن الحراك الجنوبي المدعوم من الإمارات غير متجانس للغاية، لا ينبغي لأحد أن ينسى أن الدعوة للانفصال لا تزال على أجندة العديد من الجهات الفاعلة في جنوب اليمن. لذلك، يعتقد “هيباتش” أن الصراع على الهيكل المستقبلي للدولة اليمنية بين الجهات الفاعلة في الشمال والجنوب (وفي الجنوب نفسه) لم يتم حله، مما يسهل على الأطراف الخارجية، مثل الإمارات، اللعب في الداخل.
وأشار “دينتيس” إلى أن أبوظبي تسيطر فعليا على جميع الموانئ التجارية الرئيسية في اليمن (في المقام الأول عدن والمكلا والشحر في حضرموت) والمنطقة الساحلية المجاورة لمحطة تصدير النفط في بير علي (حضرموت) ومحطة الغاز الطبيعي المسال بلحاف (شبوة). لذلك فإن استئناف العمل في شبوة والمناطق المجاورة الأخرى في جنوب اليمن والحفاظ على الوضع الراهن، القائم على الانقسام الفعلي بين شمال وجنوب اليمن، هي الضمانات الضرورية لنجاح استراتيجية الإمارات.
ومع ذلك، يجب أن تكون الإمارات مستعدة لمزيد من الهجمات الانتقامية من الحوثيين الذين تعهد زعيمهم “عبدالملك الحوثي” بـ”تحرير اليمن بالكامل واستعادة جميع المناطق التي احتلها الأعداء”. لكن لا ينبغي استبعاد التوصل إلى حل وسط معهم تمامًا.
وأشار “هيباتش” إلى أن “الحوثيين أثبتوا أكثر من مرة قدرتهم على صياغة اتفاقيات تكتيكية، وحتى تحالفات تكتيكية، مع أعداء سابقين. فلماذا لا يتصالحون مع الإمارات إذا كانت هذه الاتفاقية تحمي مصالحهم؟ قد يعتبر الحوثيون هذا الاتفاق مرحلة مؤقتة فقط. وأعتقد أنهم تعلموا أن بعض الأهداف لا يمكن تحقيقها بسرعة وأنك بحاجة إلى بعض القوة للبقاء”.
أخيرًا، سيتم تحديد مستقبل المنطقة بأكملها أيضًا من خلال طريق الحرير البحري، والذي يعد جزءًا من مبادرة الحزام والطريق الصينية الطموحة. ونظرًا لأن الساحل اليمني سيلعب دورًا أساسيًا في هذه المبادرة كقاعدة حيوية لمركز التجارة البحرية، فقد يكون لوجود – أو غياب – اليمن الموحد عواقب بعيدة المدى لأنه قد يزيد أو يقلل من دور اللاعبين الإقليميين مثل الإمارات.
ويظهر هذا بشكل أكثر وضوحًا في سياق “الحرب الباردة الثانية” المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة، حيث إن السيطرة على المواقع الإستراتيجية، مثل مضيق باب المندب وميناء عدن وسقطرى، قد تمنح الإمارات نفوذا أكبر في علاقاتها مع الصين والولايات المتحدة. ويبدو أن موقع اليمن الاستراتيجي كان لعنة على البلاد، وقد استشهد “هيباتش” بكلمات “غسان سلامة”، الأكاديمي والسياسي والدبلوماسي اللبناني البارز، الذي قال ذات مرة إن العديد من المشاكل التي يواجهها اليمن تنبع من حقيقة أن البلاد تتمتع بموقع استراتيجي.
ومع ذلك، يعتقد “دينتيس” أن الاستراتيجية البحرية الإماراتية ستتحرك باستمرار مع مبادرة الحزام والطريق الصينية باعتبارها مسارا للشراكة بين الصين والإمارات يتجاوز الطاقة. وتهتم بكين بشدة بتعزيز وجودها السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه فك الارتباط الأمريكي لتركيز جهود واشنطن نحو المحيطين الهندي والهادئ.
ويرى “دينتيس” أن الصين تسعى إلى تفكيك شبكة التحالفات العالمية التي بنتها واشنطن منذ السبعينات، من خلال استهداف الشراكات الاستراتيجية للولايات المتحدة في الخليج (ومع الإمارات على وجه الخصوص). ويعتقد أن الهدف النهائي للمنافسة بين القوى العظمى هو السيطرة على الطريق البحري للتجارة بين الشرق والغرب وبوابة منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ويضع ذلك اليمن في قلب هذه المنافسة.
أما بالنسبة لـ”هيباتش”، فيعتقد أن مستقبل لعبة الشطرنج الجيوسياسية في اليمن سيعتمد على مدى تماسك نفوذ الإمارات على الجهات اليمنية، وما يمكن أن تقدمه الصين لهؤلاء وغيرهم من الجهات الفاعلة اليمنية، وبالطبع كيف ستتعامل الصين معهم، وهو الأمرالذي يعتمد بدوره على مدى فهم الصينيين لديناميكيات الصراع داخل البلاد. وأشار إلى أن “الإمارات لديها تفوق واضح على الصين والولايات المتحدة في هذا الصدد”.
لكن لا ينبغي لأحد أن ينسى الممثلين اليمنيين، فهم ليسوا مجرد بيادق ثابتة في هذه اللعبة، وهم يعرفون مدى أهميتهم بالنسبة للجهات الخارجية. بعبارة أخرى، هذه الجهات الفاعلة لها مصالحها الخاصة، وعندما لا يتم تقديم هذه المصالح فإنها تغير التحالفات. لذلك فإن الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة هي: كم عدد الجماعات اليمنية المعتبرة؟ ما هي اهتماماتهم؟ وإلى أي مدى يتباعدون أو يتقاربون؟ ولماذا؟
المصدر | ستاسا سالكانين | إنسايد أرابيا – ترجمة وتحرير الخليج الجديد