عُرفت مدينة عدن بمبانيها ومعالمها الدينية منذ زمن بعيد. وقد شُيد فيها عبر مراحل تاريخها الإسلامي عدد من المساجد والزوايا والأربطة والمدارس الدينية، منها ما خرب وأعيد بناؤه، ومنها ما كان يُرمم باستمرار أو يُقام من جديد، ومنها ما اندثر ولم يبق منه أثر.
ومن أشهر المساجد وأقدمها التي بقيت في عدن، مسجد العيدروس. يُعد هذا المسجد أشهر المعالم التاريخية في عدن. ويُرجع مسؤول قسم التاريخ في مركز الإبداع الثقافي في عدن، عبد القادر الحوت المحضار، تاريخ عمارته إلى سنة 1484 ميلادي (899 هجري)، عندما أنشأه الإمام أبو بكر بن عبد الله العيدروس السقاف، كأول عمل يقوم به بعد إقامته في عدن.
وبحسب المحضار، فإن العيدروس المولود سنة 1447 ميلادي (851 هجري)، اشتهر بالعدني لإقامته فيها لسنوات طويلة بطلب من أهلها وأعيانها، وتلقى العلم وحفظ القرآن على والده وهو ابن ثماني سنوات، وتتلمذ عند علماء حضرموت وعدن وبلاد الحرمين، وتصدر للتدريس في المسجد الذي سمي باسمه سنة 1460 ميلادي (865 هجري) وعمره 14 عاماً، وحل مكان والده واشتهر، وأتى طلبة العلم إلى عدن للاستفادة من علمه، حتى توفي ودفن في عدن سنة 1508 ميلادي (914 هجري).
أكثر من مسجد
ويروي المحضار أن “بناء المسجد كان سنة 1484 ميلادي (889 هجري)، ثم أعيد بناؤه سنة 1519 ميلادي (925 هجري)، إذ قام بعمارته الأمير مرجان الظافري. وجددت عمارته أكثر من مرة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، وكان آخرها منتصف القرن الثالث عشر، إذ جدده إسماعيل بن الحبيب الميمني، من بومباي في الهند. واستغرق البناء مدة عامين. وفي أواخر القرن الرابع عشر الهجري، كانت آخر توسعة للمسجد في عهد منصب عدن مصطفى بن زين. وكانت آخر عملية ترميم سنة 1992 ميلادي (1413 هجري)، التي أُضيف فيها رباط التربية الإسلامية”.
ولم يكن المسجد، وفق المحضار، مكاناً لإقامة الشعائر الدينية فحسب، بل مدرسة لعلوم الشريعة والأخلاق. فمنذ تأسيس المسجد وهو محتشد بطلبة العلم محبي مجالس العلماء. وقد أقام فيه كثير من العلماء من آل العيدروس.
المسجد تحفة معمارية
يعتقد محمد شهاب، من محافظة حضرموت، أن أثر الثقافة الصوفية على طراز العمارة في مسجد العيدروس وغيره من مساجد عدن، واضحة من حيث التواضع.
ويعتقد شهاب، في حديث لـ”اندبندنت عربية”، أن “المسجد تحفة معمارية تدل على عظمة العمارة اليمنية. فالقبة تحتوي على توابيت خشبية هي قبور وأضرحة للإمام العيدروس وأفراد من أسرته وبعض أقربائه. ويزينها عقد مدبب. وفي داخلها زخارف ونقوش بالألوان المائية قوامها أغصان وأوراق نباتية وزهور. ويمكن الصعود إلى القبة عبر سلّم. ويزين القبة التي تعلو المدخل زخارف فنية وهندسية ملونة على الجص الجيري. وللمسجد منارة عالية، مبنية من حجر الجبس الأسود، وأربع مشربيات خشبية بارزة تستخدم لرفع آذان الصلوات الخمس. واستخدمت الأخشاب في الأبواب والنوافذ والتوابيت.
وما يميز هذا المسجد وغيره من المساجد اليمنية وسيلة تغطيتها، وغالباً ما تكون من سقوف خشبية مسطحة. إلا أن هذه السقوف قد ازدانت بزخارف خشبية وفق أسلوب فني وصناعي كان يعرف بالمصندقات الخشبية، بمعنى تقسيم السقف إلى مساحات مستطيلة ومربعة من مستويات عدة، تمتلئ بالزخارف المحفورة البارزة والغائرة الملونة. وقد ظهر ذلك في اليمن قبل غيرها من البلاد الإسلامية”.
ويوجد إلى الشمال من المسجد قبر وضريح (الشيخ العيدروس)، وقد جُدد مرات عدة كان أولها في عهد العثمانيين في 1568 ميلادي (976 هجري). أما البناء الحالي للقبة والمدخل الرئيس الشرقي، فيعود تاريخه إلى 1857 ميلادي (1274 هجري). وكان آخر التجديدات للمسجد في القرن التاسع عشر ميلادي (الثالث عشر الهجري).
يصف أحمد أبو بكر، وهو أحد القائمين على المسجد، الوضع الحالي للمسجد، بالقول إن “تداعيات الحرب ألقت بظلالها على المساجد التاريخية في عدن ومنها العيدروس. فقد شحت الموارد المالية التي تقدمها الحكومة لصيانة المساجد. وتضررت عمارة العيدروس نتيجة عدم الاهتمام والسيول والفيضانات التي ضربت عدن قبل أشهر. فهناك الآن تشققات في القبة وبعض الجدران والسقف. وهو بحاجة إلى ترميم عاجل، لكن الترميم يحتاج إلى مبالغ طائلة، خصوصاً لمعلم أثري”.