على الرغم من أنه الشهر الذي ينتظره ملايين المسلمين على كوكب الأرض، ليعيد كل منهم شحن إيمانياته، والتقرب إلى الله تعالى، إلى جانب الصوم وصلاة الجماعة والجمعة والتراويح والتهجد والاعتكاف، وأداء العمرة والصدقة والزكاة؛ إلا أن جائحة كورونا قد تكون سببا في حرمانهم من بعض تلك الطاعات، ومن معظم عاداتهم السنوية.
ولكن، هل مر على المسلمين رمضانات في التاريخ بمثل هذا الوضع الذي نعيشه مع جائحة كورونا؟
باحثون ومختصون بالتاريخ أكدوا أنه مر على المسلمين جائحتان في شهر رمضان، أولاهما طاعون “مسلم بن قتيبة” في العصر الأموي بمدينة البصرة في العراق عام 131هـ، وثانيهما ما سمي “الوباء العظيم”، الذي وقع ببلاد الشام عام سنة 749 هـ، وانتقل إلى مصر.
“دور المساجد والأزهر والبخاري”
أكدت مدرّسة التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، سمية فتحي، أن هذا السؤال يحتاج إلى بحث تاريخي عميق، ليس في المصادر التاريخية فحسب، بل في كتب الفقه والنوازل وغيرها”.
وأضافت الباحثة في التاريخ الإسلامي لـ”عربي21″: “جاء في (السلوك) للمقريزي، عن طاعون سنتي (749هـ، و787هـ)، أن الناس هُرعت للجوامع للصلاة والقنوت والتضرع إلى الله برفع البلاء، مع قراءة صحيح البخاري بالجامع الأزهر أياما، والدعاء بعدها لرفع الطاعون”.
وذكرت أنه “في طاعون سنة (833هـ)، جمع السلطان 40 شريفا من الأشراف، وأجلسهم بالجامع الأزهر، فقرؤوا القرآن، ودعوا الله تعالى، ودعا الناس معهم وقد امتلأ الجامع بهم”، مضيفة: “وكان الناس يخرجون للصحراء يصلون بها وراء أئمتهم، ويستصرخون الله رفع البلاء”.
“الاستغلال السياسي للجوائح”
من جانبه، قال الأكاديمي المتخصص في التاريخ العثماني، الدكتور أحمد الشرقاوي: “في التاريخ العثماني، حدثت الكثير من الأوبئة والطواعين، سواء عالمية جاءت إليها من الخارج، أو ظهرت ببعض مدن وولايات الدولة”.
الشرقاوي أكد لـ”عربي21″ أن “الدولة واجهته حينها بإجراءات كثيرة تشبه كثيرا ما تفعله الآن معظم الدول”، لافتا إلى أن “هذه الأزمات الصحية تم استغلالها سياسيا أيضا”.
وأشار إلى أن “بريطانيا كانت تتعمد إرسال فقراء الحجاج الهنود إلى الحجاز لينشروا الكوليرا، ويحرجوا موقف الدولة العثمانية؛ بهدف وضع منطقة الحجاز تحت إدارة دولية”.
وقال: “لكني لم أصادف في كل ما قرأته ذكر أي مؤرخ وقوع الوباء في رمضان، أو أنهم منعوا الصلوات والشعائر”.
وأكد أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة بجامعة الأزهر، الدكتور سعد الحلواني، أن “النوازل والجوائح طالت الأرض جميعها عشرات المرات، وأطاحت في بعضها بالكثير من أهل الأرض، ومنها العالم الإسلامي”.
وحول وقوعها في شهر رمضان، أكد أن “بعضا منها بالفعل وقعت في رمضان، إلا أنها ورغم ذلك لم تغلق المساجد بقرارات الحاكم، بل إن الناس كانوا من أنفسهم يبتعدون عن المساجد، ويلجأون للجبال والصحراء حتى ينتهي الوباء”.
وأوضح أنه “لم يثبت أن منع الصوم في ظل أي جائحة وقعت خلال شهر رمضان”، مضيفا أنه “حتى الحج والعمرة لم يثبت منعهما بسبب جوائح أو نوازل إلا في العام التالي لسرقة القرامطة للحجر الأسود من الكعبة المشرفة”.
“وباء رمضان بالعصر الأموي”
وبالرجوع لرصد الباحث أحمد العدوي في كتابه “الطاعون في العصر الأموي.. صفحات من تاريخ الخلافة الأموية “، أكد وقوع نحو 20 طاعونا ووباء في ذلك العصر.
وأشار إلى أن الطاعون الوحيد الذي ألم بالمسلمين في رمضان كان بالعصر الأموي عام 131 هـ؛ موضحا أنه بدأ بمدينة البصرة في العراق، وأنه ظهر في شهر رجب، واستمر في شعبان ورمضان، وانتهى في شوال.
وقال إنه “كان يحصي كل يوم في سكة المربد بالبصرة ألف جنازة، وإن أشهر من ماتوا بهذا الطاعون أبوبكر أيوب بن أبي تميمة كيسان، الذي قال عنه الإمام الحسن البصري إنه سيد أهل البصرة”.
“رمضان.. والوباء العظيم”
من جانبه، أشار رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة الأسبق، سعد عبدالرحمن، إلى ما ذكره ابن كثير في “البداية والنهاية”، عن موت الشاعر صلاح الدين الصفدي صاحب كتاب “التذكرة” في طاعون سنة 749 هـ، الذي اجتاح الشام وفلسطين ومصر، ووصل أوروبا، وسمي “الوباء العظيم”.
وأضاف عبدالرحمن، عبر صفحته بـ”فيسبوك”، أن الصفدي مات في الطاعون الذي ضرب مصر إبان شهر رمضان عام 764هـ، وقد أودى هذا الطاعون بحياة الآلاف من أهلها، خاصة طائفة اليهود.
“حديث العزل.. والبيمارستانات”
ورصد الفقيه والمؤرخ الليبي علي الصلابي، بمقال له بموقع “إسلام أون لاين”، “كيف تعامل المسلمون مع الأوبئة وآثارها في مراحل تاريخهم؟”، مشيرا إلى دور المؤرخين الذين عاصروا مثل الأحداث مثل “المقريزي، وابن تغري بردي، وابن كثير، وابن إياس، وابن بطوطة، وابن عذارى المراكشي، والونشريسي، وابن رشد”.
وقدم الصلابي سردا لأشهر ما وقع من الأوبئة والطواعين بفترات التاريخ الإسلامي، وهي: “طاعون عمواس بزمن عمر بن الخطاب بالشام (18 هـ/ 693م)، وطاعون الجارف بزمن عبدالله بن الزبير بالبصرة (69هـ/ 688م)، وطاعون الفتيات بالعراق والشام (87 هـ/ 705م)، وطاعون مسلم بن قتيبة بالبصرة لمدة ثلاثة أشهر، الذي اشتد في رمضان، وكان يحصى ألف جنازة يوميا (131 هـ/ 748م)”.
وتحدث عن أهم الأوبئة والطواعين إثر دخول المغول بغداد سنة (656هـ/ 1258م)، والطاعون الأعظم بالعصر المملوكي في الشام (سنة 748هـ)، مشيرا إلى أن المغرب العربي واجه الأوبئة والمجاعات والجفاف بعصر المرابطين والموحدين والمرنيين.
وحول كيفية تعامل المسلمون مع الأوبئة، أكد الصلابي أن المسلمين واجهوا طاعون عمواس بحديث العزل عن نبي الإسلام، وأشار إلى دور الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ودور القائد عمرو بن العاص والي الشام، الذي أمر الناس بالابتعاد إلى الجبال حتى انتهى الوباء.
وبين أن المسلمين طوروا طرق مواجهتهم للطاعون والأوبئة، وبالعهد المملوكي بنى بعض السلاطين والميسورين “البيمارستانات” والحوانيت أو مغاسل الموتى بالشام، وأغلقت حوانيت الخمر، وترك الناس الفواحش والمنكرات.