لطالما كان الكذب وتزييف الحقائق سمة رئيسية للسياسة الأمريكية، فقد احترف السياسيون مهنة الكذب لتلميع صورتهم وإخفاء سلوكياتهم البغيضة، ولنا في فضيحة بيل كلينتون ومونيكا لوينسكي خير مثال. وفي أحيان أخرى، يستدل السياسيون بمعلومات مضللة عمدًا لأسباب يعتبرونها منطقية، مثلما فعل ليندون جونسون إبان حرب فيتنام.
لكن تقريرًا في صحيفة «نيويورك تايمز» نقل عن مؤرخين وسياسيين من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري اعتقادهم أن الرئيس دونالد ترامب أحدث نقلة نوعية في فن الكذب الذي يتقنه السياسيون، وهو ما أسمته الكاتبة هانا أرندت بـ«الصراع بين الحقيقة والسياسة».
وأوضحت الصحيفة أن ترامب يمارس الكذب والتزييف بصفة يومية. فمن ترويجه لشائعة أن أوباما من أصول كينية، إلى كذبه الفاضح حول عدد من حضروا أداءه اليمين الدستورية، ووصولاً إلى ادعائه بتلقيه اتصالين هاتفيين من الرئيس المكسيكي ومدير الكشافة – وهو ما لم يحدث – لا يتوقف ترامب عن ترويج الأكاذيب والمعلومات المضللة.
إن هذا الكذب يمثل في جانب منه طريقة عمل ترامب، لكنه في نفس الوقت يعكس انخفاض معايير الصدق في السياسة الأمريكية. إذا نظرنا إلى التاريخ، سنجد أن ترامب ليس أول رئيس يكذب. ومع ذلك فإن كذبه المتواصل يثير تساؤلات عما إذا كانت عواقب فضح السياسيين الكاذبين لم يعد لها وجود مع مرور الزمن.
يسرد التقرير إحدى أشهر فضائح الكذب في السياسة الأمريكية، ففي عام 1960 – في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور – أُسقطت طائرة تجسس أمريكية في المجال الجوي السوفييتي. لكن إدارة أيزنهاور كذبت على الأمريكيين وزعمت أن الطائرة مدنية. ولكن عندما أعلن السوفييت أسرهم قائد الطائرة، اضطر أيزنهاور للاعتراف بأن الطائرة كانت في مهمة تجسس، مما أضرّ بسمعته بشدة.
تعليقًا على ذلك، صرّحت المؤرخة دوريس جودوين للصحيفة بالقول «اعتقد أيزنهاور أن مصداقيته هي جزء مهم من شخصيته، وقد مثّل تقويضه لمصداقيته إحدى أعمق الأزمات التي مرّ بها». وقد تسببت هذه الفضيحة في إلغاء قمة بين زعيمي القوتين العظميين. لكن جودوين تؤكد أن الشعب الأمريكي سامحه في نهاية المطاف لأنه اعترف بخطئه.
وفي عام 1974 – يشير التقرير – أثناء ذروة فضيحة ووترجيت، اتُهم ريتشارد نكسون بالكذب وعرقلة العدالة وإساءة استخدام خدمة الإيرادات الداخلية ووكالات أخرى، مما اضطره إلى الاستقالة. وقد أثار ذلك صدمة لدى الناخبين. وفي عام 1976، فاز جيمي كارتر بمنصب الرئيس بعد أن تعهد للشعب بالقول «لن أكذب عليكم قط».
يعود المقال إلى الرئيس كلينتون فيقول إنه قد واجه محاكمة بسبب شهادة الزور وعرقلة العدالة حين حاول إخفاء علاقته بمونيكا لوينسكي. وقد قال كريس ليهان – مستشار سابق لكلينتون – إن كلينتون عانى من المحاكمة خلال فترته الرئاسية الثانية، ومع ذلك فقد ظلت نسب شعبيته مرتفعة. ويفسر ليهان ذلك بالقول إن الرأي العام الأمريكي فرّق بين حياة كلينتون الخاصة ومنصبه بوصفه رئيسًا.
ولكن أحيانًا يكون من السهل التمييز بين المعلومات المضللة والكذب – يشدد التقرير. كان جورج بوش الابن قد اتُهم بشن حرب على العراق لإسقاط صدام حسين استنادًا إلى معلومات مضللة حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وهو ما ثبُت زيفه لاحقًا. وقد عمد بوش إلى التضخيم من بعض المعلومات واستبعاد كل ما يفندها، مما جعل الكثيرين – من بينهم الرئيس ترامب – يتهمونه بالكذب.
خلال العقدين الأخيرين، حدثت تغييرات مؤسسية في أمريكا سهلت الكذب بالنسبة إلى السياسيين. ويرى التقرير أن انتشار برامج الحوارات السياسية على التلفاز وصعود الإنترنت قد سبب ارتباكًا في البيئة الإعلامية. فمع غياب الرقابة الحقيقية، بات من السهل على السياسيين الكذب.
في عصر يسعى السياسيون فيه إلى حشد المناصرين بأي ثمن، فإنهم عادة ما يكذبون بلا رادع. وقد تغير مفهوم الكذب في السياسة الأمريكية.
ينقل التقرير عن أنيتا دان – مديرة اتصالات سابقة في إدارة أوباما قولها «في الماضي، لم يكن يجرؤ أحد على استخدام كلمة الكذب في حملة انتخابية ما؛ إذ كان يُعتقد بقسوتها وأنها ستأتي بنتائج عكسية. لذا كان يُقال إن فلانًا لم يكن صادقًا، أو لم يقل الحقيقة، أو أن الحقيقة تظهر شيئًا مغايرًا، وحتى هذا اعتُبر كلامًا قاسيًا».
ولكن في عام 2013 – ينوه التقرير – ظهرت مبادرات على الإنترنت لمحاسبة المسئولين على تصريحاتهم؛ إذ أعلن موقع PolitiFact أن الرئيس أوباما أطلق «كذبة العام» حين أخبر الأمريكيين بأنه يمكنهم الاحتفاظ بخطة الرعاية الصحية التي يفضلونها. وقد حاز ترامب على نفس اللقب في 2015.
تقول دان «كنتُ وما زلت أعتبر الأمر غير عادل» في إشارة إلى السيد أوباما. وقد اعتذر الأخير لاحقًا لأولئك الذين أجبروا على تغيير خططهم.
وعلى ضوء النظرية القائلة إن السياسيين الذين ينكشف كذبهم تتعرض سمعتهم إلى الخطر، قام برندان نيهان – أستاذ العلوم السياسية في كلية دارتموث – وبعض زملائه بدراسة آثار تصريحات ترامب المضللة خلال الحملة الانتخابية للسباق الرئاسي في العام الماضي.
يقول التقرير إن الباحثين عرضوا تصريخًا مضللاً للسيد ترامب على مجموعة من الناخبين، بينما رأت مجموعة أخرى أن التصريح مصحوب بمعلومات صحيحة تناقض ما قاله السيد ترامب. وقد صدقت المجموعة التي عُرضت عليها التصحيحات المعلومات الجديدة، لكن لم يتغير رأيها حيال ترامب.
تعليقًا على ذلك، قال السيد نيهان «نحن نعلم أن السياسيين يكرهون المخاطرة. ويحاولون إخفاء السلبيات التي قد تضرهم على المدى الطويل. لكن عواقب الادعاءات المضللة ليست شديدة بما يكفي. ولا تكفي لإقناع السياسيين بالكف عن تضليل الشعب».
لقد تفوق ترامب على كافة من سبقه من الرؤساء في حجم وكمية الادعاءات الزائفة؛ فبحسب إحصاءات موقع PolitiFact فإن 20% فقط من تصريحاته حقيقية، وحوالي 69% إما خاطئة أو كذب صريح. وهذا يثير تساؤلًا عما إذا كانت أكاذيب ترامب المتعاقبة قد غيرت مفاهيم الأمريكيين عن السياسة.
ولكن بطبيعة الحال، فإن الكذب على الناخبين ليس مثل الكذب على المدعين الفدراليين – يضيف التقرير. فعندما جرى اتهام السيد رود بلاجوجيفيتش – الحاكم السابق لولاية إلينوي – بقائمة طويلة من تهم الفساد تتعلق بمزاعم حول سعيه إلى بيع مقعد السيد أوباما في مجلس الشيوخ، سُئل مباشرة عما إذا كان يكذب.
بينما كان السيد بلاجوجيفيتش يشهد تحت القسم – يواصل التقرير – ضغط مدعٍ عليه حول ما إذا كان يمارس عادة الكذب بوصفه سياسيًا. وقد تجادل الرجلان حول ما إذا كان قد أعطى قصة زائفة لصحيفة محلية. نُقل عن المدعي قوله «هذه كذبة». لكن السيد بلاجوجيفيتش رفض ذلك قائلاً إن هذه لعبة تمويه في عالم السياسة، وقد حُكم عليه بالسجن 14 عامًا في 2011.
ويرى جويل سوير – خبير استراتيجي جمهوري – أن هناك سبيلين أمام السياسيين للتعامل مع الخداع. يقول سوير «الأول هو عدم الاعتراف به قط، وهو ما يفعله ترامب بنجاح. الثاني هو الاعتراف بالخطأ وتوضيح السبب، ثم طلب فرصة ثانية مع التعهد بعدم تكرار الأمر».
كان مارك سانفورد – حاكم ولاية ساوث كارولاينا السابق والذي عمل السيد سوير لحسابه – قد انتهج السبيل الثاني. سافر سانفورد إلى الأرجنتين خلسة لقضاء عطلة الأسبوع مع عشيقته، لكنه أخبر معاونيه أنه ذهب لتسلق الجبال، وقد مرر مساعدوه عن غير قصد الكذبة إلى المراسلين. اعتذر سانفورد بشدة عن ذلك، فكافأه الناخبون وبات اليوم عضوًا في الكونجرس.
ويشدد التقرير على أن العديد من أكاذيب ترامب – مثل زعمه أنه أكثر شخص ظهر على غلاف مجلة التايم منذ تأسيسها – تافهة، وتهدف إلى تلميع صورته، وفقًا لما يقوله جون ويفر – خبير استراتيجي جمهوري بارز. في حين يعبر عضو الكونجرس الجمهوري السابق روب ناي – الذي قضى عقوبة في السجن لتلقيه هدايا غير قانونية من إحدى مجموعات الضغط، ولكذبه على المحققين الفدراليين بشأن ذلك – عن دهشته من شعور ترامب بحاجة ماسة إلى تلميع نفسه.
بيد أن هناك اعتقادًا أن ترامب سيبني بعض سياساته حول مزاعم كاذبة أخرى – مثل ادعائه بأن الملايين من المهاجرين غير الشرعيين قد صوتوا لصالح منافسته في السباق الرئاسي – حيث يعتقد المراقبون أنه سيتخذ خطوات صارمة ضد هؤلاء المهاجرين.
لقد تفوق ترامب على كافة من سبقه من الرؤساء في حجم وكمية الادعاءات الزائفة؛ فبحسب إحصاءات موقع PolitiFact فإن 20% فقط من تصريحاته حقيقية، وحوالي 69% إما خاطئة أو كذب صريح. وهذا يجعل أمثال السيدة جودوين يتساءلون عما إذا كانت أكاذيب السيد ترامب المتعاقبة قد غيرت مفاهيم الأمريكيين عن السياسة.
تقول جودوين «المختلف اليوم هو أنه يجري اكتشاف هذه الكذبات وإظهار أدلة كذبها. ولكن بسبب الهجمة الشرسة التي تتعرض لها وسائل الإعلام، ثمة أشخاص يعتقدون أنه ربما يقول الحقيقة».