بقلم - عبدالناصر المودع
بعد قيام الوحدة بفترة وجيزة أدرك قادة الحزب الاشتراكي – حكام دولة الجنوب السابقة – أن فرصة بقائهم في السلطة في دولة الوحدة محدودة جدا، وتأكد لهم ذلك عقب انتخابات 1993 البرلمانية، والتي لم تمنحهم إلا مقاعد الجنوب، وبضعة مقاعد في الشمال. وكانت المحصلة النهائية لتلك الانتخابات حصول الحزب الاشتراكي على ما يعادل خُمس مقاعد مجلس النواب، وهو ما يساوي، تقريبا، عدد سكان الجنوب مقارنة بالشمال.
ونتيجة لذلك تأكد لقادة الحزب الاشتراكي بأن خروجهم من السلطة، في حال استمروا في دولة الوحدة، سيكون أمراً حتميا، وهو الأمر الذي جعلهم يشرعون في تنفيذ الخطة البديلة، والتي لم تكن غائبة عنهم، والمتمثلة بالعودة عن الوحدة، وبأي شكل من الأشكال، للاحتفاظ بالسلطة في الجنوب.
ولتنفيذ تلك الخطة؛ تطلب الأمر التمهيد النظري لها، والمتمثل بشيطنة الوحدة، لخلق مبررات وجيهة للانفصال. وقد تمت الشيطنة تلك؛ تحت حجج عدم التزام الطرف الشمالي باتفاقية الوحدة، ومضامينها، وبلغت الشيطنة ذروتها خلال حرب 94؛ إلا أن ذلك الخطاب تراجع عقب تلك الحرب، والتي أسفرت عن وأد المشروع الانفصالي وهزيمة الحزب الاشتراكي.
وبعد أن استعاد الحزب الاشتراكي أنفاسه، أعاد من جديد تفعيل خطاب الشيطنة للوحدة، خاصة في المناطق الجنوبية، بهدف الانفكاك من الوحدة. وقد أستثمر لهذا الغرض تضخيم سوء الإدارة والفساد الذي أتسم بهما نظام الرئيس السابق صالح بعد سيطرته على الجنوب.
ويرتكز خطاب الشيطنة على عدد من الجوانب؛ ففي الجانب المصلحي المباشر يتم إيصال رسالة مباشرة للجنوبيين مفادها أن الوحدة هي خسارة مطلقة عليهم وربح صافي للشماليين، ولتأكيد هذا الإدعاء؛ تم تضخيم مساهمة الجنوب في دولة الوحدة، والتقليل من مساهمة الشمال. وكان الاقتصاد، والنفط على وجه الخصوص، هو أكثر مجال تم استخدامه في هذا الشأن، حيث تم تضخيم حجم الدور الذي يقوم به نفط الجنوب في الاقتصاد اليمني، بالإدعاء بأن هذا النفط يفوق كثيراً البيانات التي تعلنها السلطات. وأن حجم مساهمته يفوق الـ 80% من إيرادات الحكومة المركزية. إلا أن حجم مساهمة نفط الجنوب في الميزانية العامة للدولة لم تصل إلى 40% في أفضل حالاتها لتتراجع وتصبح أقل من 15% في أخر ميزانية معتمدة لليمن (وفق بيانات 2014 فإن حصة الحكومة من قيمة النفط المصدر من نفط الجنوب والذي يقدر بحدود 70 ألف برميل يوميا لم تتجاوز في عام 2014 مبلغ 1.7 مليار$ وهذا المبلغ يعادل 13% من إجمالي نفقات الميزانية الحكومية لعام 2014) في الوقت نفسه تم التقليل من مساهمة الشمال والشماليين في دولة الوحدة، واعتبارهم كائنات متطفلة على الجنوب.
وبعد أن تم شيطنة الوحدة كدولة ومفهوم؛ امتدت الشيطنة للشماليين وكل ما يرمز لهم، فتم وصف الشماليين بأبشع الصفات؛ فالشماليين، وفقا لخطاب الشيطنة، هم: لصوص ونهابين ومخبرين، وهمج، ومتخلفين وغدارين، وقذرين، وغيرها من الصفات التي يعج بها ذلك الخطاب. وهو الخطاب الذي يشترك في إطلاقه الاستاذ الجامعي ورجل الشارع العادي دون أي إحساس بالخجل أو الذنب أو المسئولية. ويرجع سبب ذلك إلى أن الشيطنة تمنح المُـشيطن الحرية الكاملة للتنصل من إي التزام أخلاقي أو قيمي تجاه الطرف المُـشيطَن (الشيطان لا يملك أي حق أو كرامة).
في المقابل تلبست الانفصاليون حالة من النرجسية المرضية، والتي تمثلت في الاستعلاء والتعصب المتضخم للذات، والعنصرية والعدوانية الشديدة تجاه الأخر، والحساسية الشديدة تجاه أي انتقاد يوجه لهم مهما كان خفيفا. فالمصابون بالنرجسية تتملكهم أوهام وتضخيم مرضي لذواتهم لا يستطيعوا التخلص منها، فلا يستمعون إلى أي نصيحة، ولا يرون إلا مصلحتهم المباشرة في أنانية فجة وطفولية. ويتخذ النرجسيون مما يعتقدون بأنه مظلومية وقعت عليهم مبرراً “شرعياً” لعدوانيتهم وعنصريتهم أو أي سلوك همجي يمارسونه تجاه الأخر.
واتساقاً مع خطاب الشيطنة؛ تم تحميل الوحدة والشماليين كل المشاكل الطبيعية التي تحدث في أي دولة متخلفة مثل: الفساد والفقر وسوء الإدارة وضعف الخدمات، والتطرف الديني والإرهاب وغيرها من المشاكل الاجتماعية والثقافية والتي هي في جزء كبير منها نتيجة موضوعية للظرف الزماني/المكاني لليمن. وامتد الأمر ليشمل الظواهر الطبيعية كانتشار الأمراض والمخدرات وتلوث البيئة، وغيرها من المشاكل. وكان من أطرف ما قيل عن “مساوئ” الوحدة والشماليين على الجنوب، ما صرح به أحد المشعوذين الجنوبيين حين قال بأن “الجن تزايد عددهم في الجنوب من بعد الوحدة وأنهم قادمون من الشمال”.
يبدو مفهوما الدور الذي يقوم به خطاب شيطنة الوحدة من أجل التمهيد للانفصال، غير أن ما ليس مفهوما هو عدم التصدي الجاد لهذا الخطاب من قبل النخب الفكرية والسياسية اليمنية، والشمالية على وجه التحديد. فهذا الخطاب، والذي هو في مضمونه العام خطاب عنصري مقيت كما أوضحنا، يفترض أن تتصدى له هذه النخب، وتجعله في صدارة اهتماماتها. فشيطنة الوحدة يعمل على إضعاف الهوية الوطنية الجامعة، وتفكيك الدولة، وكل ذلك يؤدي إلى العنف والفوضى التي تزيد من حجم البؤس والشقاء في اليمن. ولهذا فأن مسألة الدفاع عن الوحدة، يعد أمراً حيوياً وضرورياً من الناحية المصلحية البحتة لجميع اليمنيين في الشمال والجنوب. فالتحليل العميق للواقع اليمني يجد أن تفكيك اليمن، بأي شكل من الأشكال في الظروف الراهنة، لن يؤدي إلا إلى المزيد من العنف والفوضى.
فالانفصال المخملي على الطريقة التشيكوسلوفاكية ليس وارداً في اليمن، وما هو وارد في اليمن قد يكون أشد وأعظم مما حدث ويحدث في الصومال والسودان، فتفكيك دولة هشة ومهترئة، مثل اليمن ليست إلا صيغة نموذجية للعنف والفوضى، فغياب مؤسسات الدولة، وانتشار القاعدة وشبيهاتها، والمليشيات المسلحة كالحوثيين، وغيرهم، ونقص الموارد الضرورية لتسيير الدولة، والانقسام الحاد داخل الطبقة السياسية، والانكشاف الواسع على العالم الخارجي، والتداخل السكاني الكبير بين الشماليين والجنوبيين، كل هذه الأمور تجعل من الدعوة للإنفصال جريمة نكراء لكل من لديه حس متواضع من الفهم والمسئولية.
ولكون الأمر على ما ذكرنا؛ فإن المسئولية الأخلاقية، والسياسية، والمعرفية، تفترض من الجميع، ومن مثقفي اليمن بالدرجة الأولى، وسياسييها بالدرجة الثانية، التصدي لخطاب شيطنة الوحدة. غير أن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما؛ فمنذ بداية نشر هذا الخطاب لم يتم التصدي له إلا من قبل قلة من “المثقفين” والسياسيين المرتبطين بسلطة الرئيس السابق صالح، والقوى الإسلامية، التي كانت تقف معه في خندق الصراع ضد الحزب الاشتراكي. وقد غلب على خطاب هؤلاء الوعظ الديني المباشر والبسيط، أما أولئك؛ فإن تصديهم لخطاب الشيطنة كان شبيهاً ببرامج التوعية الخاصة بدائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة، الممجدة للرئيس، والدفاع عن الوحدة، وبنفس اللغة الخشبية التي تزخر بها أدبيات الوحدة العربية المليئة في كتب القراءة لتلاميذ المدارس.
وكان الغائب الأكبر عن التصدي لخطاب شيطنة الوحدة، هو تيار المثقفين المحسوبين على تيار اليسار، وهو التيار الذي ينتمي له بشكل أو أخر معظم المبدعين والكتاب في اليمن، وهي حالة تشبه معظم دول العالم، وتحديداً العالم الثالث منه، حيث نجد أن هناك ما يشبه الارتباط العضوي ما بين المثقف والانتماء لليسار؛ ففي هذا العالم لا يمكن أن تكون مثقفاً حقيقياً ما لم تكن يسارياً.
ويرجع تفسير ذلك الموقف من هؤلاء المثقفين إلى كون شيطنة الوحدة قد تمت من قبل الحزب الاشتراكي ولفائدته، وهو الحزب الذي يعد الأب الروحي لتيار اليسار في اليمن. ولكون الأمر على ما ذكرنا؛ فإن الدفاع عن الوحدة والتصدي للخطاب الذي يشيطنها، يعني عملياً الانسلاخ التنظيمي والفكري عن تيار اليسار، والاحتساب التلقائي على قوى اليمين، فيما يسمى في اليمن بقوى الفيد والنهب، وهي الصفات التي تم صبغها على سلطة الرئيس صالح والقوى الدينية والتقليدية في اليمن عقب حرب 94، وهي صفات ليست بعيده عنها، بالنظر إلى فسادها وسلوكها الفج في الاستحواذ على الأراضي والممتلكات العامة في الجنوب بعد تلك الحرب.
ومن هذا المنطلق؛ وجدنا أن معظم مثقفي اليمن ساهموا، بشكل من الإشكال، في الترويج للخطاب المشيطن للوحدة، ولم نجد، إلا فيما ندر، أي تصدي لهذا الخطاب من قبل هؤلاء، فالغالبية الساحقة راحت تتغنى بالخطاب الانفصالي، وتدعم وتتملق، الحراك الجنوبي الانفصالي حين أنطلق في عام 2007، رغم أن هذا الحراك قد كشف عن طبيعته الخطرة، ومنذ الأيام الأولى لانطلاقته، والمتمثلة في المطالبة بالانفصال، وتفكيك الدولة، ومهاجمة الهوية اليمنية الجامعة، ونوازعه العنصرية تجاه الشماليين، بما في ذلك؛ أعضاء الحزب الاشتراكي ومثقفيه من الشماليين، أو من ترجع أصولهم لمناطق شماليه، إلا أن معظم المثقفين اليساريين تعاملوا مع الحراك على انه حركة سامية ونبيلة.
واتساقا مع هذا المنحى؛ أمتنع جل مثقفي اليمن عن التصدي لخطاب شيطنة الوحدة كون هذا التصدي سيفقدهم صفة المثقف اليساري الملتزم، ويحسبهم بشكل تلقائي على قوى “الفيد” و”النهب”، فالوحدة أصبحت بعد أن تم شيطنتها رديفة للقهر والاستغلال والفساد، والاحتلال، وغيرها من المفردات التي يزخر بها خطاب الشيطنة، رغم أن التقييم الموضوعي لواقع سكان الجنوب بعد الوحدة مقارنة بما كان قبلها، يشير إلى أنهم أصبحوا، في وضع سياسي/اقتصادي/اجتماعي أفضل نسبيا من الوضع قبل الوحدة. فبفضل الوحدة تحرر الجنوبيون من النظام الشمولي الاستاليني الذي كان يحكمهم، والذي مارس بحقهم أبشع أنواع القمع والتنكيل، والإفقار، والعزلة، وكان مسئولا عن تشريد أكثر من ثلث سكان الجنوب خلال فترة حكمه القصيرة (1967-1990).
وتخليص الجنوبيين من ذلك النظام يعد في حد ذاته أفضل مكسب تحقق للجنوبيين من الوحدة؛ فقد دلت التجارب أن النظم الشمولية على ذلك النمط لا يمكن تغييرها؛ إلا بحرب أهلية طويلة، كما يحدث حاليا في سوريا، وحدث في كلا من ليبيا وأثيوبيا، أو من خلال الغزو الخارجي، كما حدث للنظم الشمولية في إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية والعراق وكمبوديا، فالنظم الشمولية لا يمكنها أن تتطور وتتحول إلى نظم تعددية، وإن بالنموذج الذي ساد اليمن بعد حرب 94.
إن مشروع الانفصال لا يملك أي منطلقات أخلاقية فهو في جوهرة مشروع عنصري قمي، ويدار من قبل أشخاص لا يحمل إي أحدا منهم صفة النبل والوطنية والنجاح؛ فمن خلال نظرة بسيطة لخلفية القادة المتصدرين للحركة الانفصالية نجد أنهم عبارة عن خلطة سيئة من العملاء ومدمني الارتزاق والعمالة وتجارة القضايا، ومن حكام الجنوب الفاشلين الملطخة أيديهم بالدماء، وكل هؤلاء ينبغي أن يكونوا في السجون عقابا لما ارتكبوا من جرائم وما كسبوا من أموال حرام.
لقد وفر المشروع الانفصالي الجاه والمناصب والارتزاق والابتزاز والإثراء لطيف واسع من السياسيين الجنوبيين، والذي لم يكن بإمكانهم أن يحصلوا عليها بمؤهلاتهم الضحلة وخلفياتهم السيئة؛ في المقابل ساهم هذا المشروع في الفوضى وانهيار الدولة في اليمن، وهو ما أدى إلى انتشار البؤس والمعاناة التي طالت جميع اليمنيين في الشمال والجنوب.
ولهذا كله يجب التعامل مع الحركة الانفصالية بكونها حركة عنصرية مريضة، وهو ما يتطلب العمل على خلق جبهة فكرية معاكسة تنبه إلى خطورتها وتكشف زيفها وتهافت حججها. فالتصدي للمشروع الانفصالي ينبغي أن يكون الهم الأول لجميع مثقفي اليمن وسياسييه، بصفته واجب أخلاقي ووطني؛ فبدون إعادة الاعتبار لفكرة الوحدة النهاية والكاملة لجميع سكان اليمن، فلن تعود الدولة أو الاستقرار والازدهار لهذا البلد.