المنطقة الخامسة، تهامة، تنتظر قائداً جديداً ليكون الثالث خلال عامين. جاء الأول ومضى، جاء الثاني ومضى، أما الثالث فلا يزال سؤالاً فيما يبدو، وربما صار جواباً. القائدان الأولان كان يمكن وصفهما بكل شيء إلا بالقول إنها قائدان عسكريان. وبالطبع فهما لم يجيئا بمفردهما، هما رجال هادي ونائبه. اختار الرجلان، بعناية فائقة، قادة حولوا منطقة عسكرية كبيرة إلى خيال مآتة. حصل القائد الأول على مكاسب كثيرة، ومات مئات الشبان. حصل القائد الثاني على مكاسب أكثر، ومات مئات آخرون. كان يمكن أن لا يحصل القادة على أموال كثيرة وأن لا يموت مئات الشبان، لكن ذلك لم يحدث، وعليك أن لا تقول شيئاً.
داخل المنطقة الخامسة هناك صراع مستمر بين ضباط تعز/ إب من جهة، وضباط “الحراك التهامي” من جهة أخرى. وفوق ذلك هناك صراع مستدام عند كل المستويات منذ تأسيس المنطقة الخامسة. مردّ الصراع إلى استحواذ ضباط القبائل، من عمران وغيرها، على المستويات القيادية العليا، وعلى الهيراكية العسكرية من الأعلى إلى المتوسطة. حالياً يبلغ عدد الجنود العاملين في المنطقة الخامسة حوالي ٢٠٠٠ فرداً، وكشوفات تعج بآلاف الأسماء بعد فرار الكثيرين إلى مأرب أو عودتهم إلى قراهم. هي واحدة من أسوأ المناطق العسكرية على الإطلاق، وسبق أن حصلت على ٢٨ دبابة مستعملة، اشتراها المقدشي من الأردن، خرجت كلها عن الخدمة خلال أول ستة أشهر من الاستخدام. لا تضرب القيادة هناك أي مثل، ولا تمنح الجنود أي إلهام، ولا تذكرهم سوى بأمر واحد: الجيش البائد.
المنطقة العسكرية الرابعة تمتد من تعز إلى عدن، ويقع جزء من السواحل الغربية والجنوبية تحت سيطرتها. تقع تعز وحاضرتها مدينة تعز ضمن النطاق الجغرافي لهذه المنطقة العسكرية، لكن المنطقة تغض النظر عن العدوان الذي تتعرض له تعز، ولا يعنيها. القائد الأسبق للمنطقة باع محافظة تعز دبابة واحدة بخمسة ملايين ريال. داخل عدن أيضاً، هناك حيث مركز المنطقة العسكرية، حالة من الصراع والتفكك الكبير. لم تستطع تلك المنطقة العسكرية أن تخلق جغرافيا خضراء صغيرة تسمح بعودة الحكومة.
مؤخراً توغلت المنطقة العسكرية الرابعة في أرض تقع، عملياً، ضمن نطاق المنطقة العسكرية الخامسة. قالت صحيفة إماراتية قبل يومين: تتجه المنطقة العسكرية الرابعة لتحرير محافظة الحديدة، ويسيطر الحوثيون على أغلب تعز! الخبر بهذه الصيغة لا يقدم أي حقيقة، لكن ظلالها مثيرة: لماذا تخلت المنطقة العسكرية الرابعة عن تعز؟ وهل يعد هذا السؤال إهانة للجيش؟ أم إن الجيش تلحقه الإهانة فقط عندما توجه الأسئلة إلى مأرب؟
وفي مأرب هناك المنطقة العسكرية الثالثة والسابعة. وهما منطقتان تسيطر عليهما القبائل، القوائم الوهمية، الرتب المزيفة، العويلة. وإذا أردنا شيئاً من الإثارة فهناك شخص يقال له المقدشي يقود واحدة من المنطقتين. يا لتشابه الأسماء على كوكبنا.
جيش في طور التشكل، لكنه منذ البداية عرضة للزيف. كان الجيش اليمني هو مشكلتنا الأساسية، وهو هزيمتنا، هو جوعنا وفقرنا، وهو التفسير الأساسي لما نحن عليه. فكل الخراب الذي حل باليمن حالياً هو من صنيع الجيش اليمني، الذي استحوذ على ٣٠٪ من ثروة اليمنيين على مدى نصف قرن، ثم أعلن ولاءه للإمامة. هو من اشترى الدبابات والراجمات وهو من استخدمها ضد المدن اليمنية. لم يسبق للجيش اليمني أن خاض حرباً واحدة كان طرفها غير يمني. وهو من الجيوش القلائل التي انحصر تاريخها كله في سرقة شعبها ثم إهلاكه.
الآن، أو راهناً، يتأسس جيش جديد. لكنه بالصورة التي أشرت إليها سابقاً. هو سلسلة جيوش منفصلة ومفككة، ولكل قطاع أغنية وراية.
يهندس الجيش الجديد الضباط الذين هندسوا الجيش الأول، أو الجيش البائد. في الجيش البائد كان نصيب ذمار حوالي ١١٧ ألف ضابط وجندي، أي ما يزيد عن ربع الجيش بحسب تقرير للجنة الدفاع والأمن في الحوار الوطني. بينما بلغ إجمالي من التحق بالعسكرية اليمنية من حضرموت في الفترة من ١٩٩٤ وحتى ٢٠١١ قرابة ٥٤ شخصاً، وتبلغ حضرموت عشرين ضعف مساحة ذمار.
يعاد تشكيل الجيش الراهن بالطريقة نفسها، كوبي وبيست. حتى إن غلماناً مخلدين تحت الخامسة والعشرين من العمر أصبحوا يقودون ألوية كبيرة. وذلك ما لم يحدث في الجيش البائد إلا في ظروف غامضة.
الذين يدافعون عن الجيش الوطني الآن يشيرون بأيديهم إلى الأسفل، إلى الجنود الملتحقين بالجيش قائلين: انظروا إنهم قادمون من كل اليمن. لكنهم يمتعضون عندما تشير إلى الأعلى سائلاً: ولكن القادة لا ينتمون إلى كل اليمن. وبين الضجيج الكثير الذي يثار حول الأسئلة التي نلقيها لا نسمع شيئاً عملياً. فمن غير المفيد أن يتدافع الناس للدفاع عن سمعة “القائد” إذا كانت الشواهد على جرائمه لا يطالها الشك. وبدلاً عن المزيد من الضجيج هناك طريق آخر: الاعتراف بالجريمة ومحوها.
طالت تغريبة هذا البلد أكثر مما توقعه التاريخ نفسه، وهناك من يعمل لأن تكون تغريبتنا أبدية، كما لو أنها قدر لا فكاك منه.
وفي الهامش يتنطط المساكين الذين لا يملكون أي شيء .. دفاعاً عن الذين يملكون كل شيء.
وهذه واحدة من أكثر الأعمال التطوعية بؤسا.. وأشدها خزياً.
م. غ.