بقلم - محمد دبوان المياحي
لا أرى عهد صالح مثالًا ولا بأي شكل من الأشكال، حتى لو غرقنا في الهاوية لثلاثين سنة قادمة بعده، لن تكون الهاوية السوداء مغسلة تعيد الاعتبار لعهده، لم يكن الرجل نموذجًا لشيء يحتذى به حتى لأنصاره، كان خليطًا مائعا من كل شيء، وبما يجعل فكرة استنساخه متعذرة، وفكرة الاحتفاء به دليل بؤس وفراغ فحسب.
لا جدوى من التطبيب، أو التصالح مع ميراث صالح بحجة الوفاق، وفاق مع ماذا..؟
كل مآسينا تنبع من هذه الفكرة المتفسخة، فكرة التعايش مع الأوضاع المدجنة والمداهنات والصيغ السياسية المغشوشة، بما فيها وقف الحديث عن صالح وعهده السيء، أو اعتباره مثالًا مقبولا من منظور واقعنا المتعثر.
لقد جربنا الوفاق معه وكانت النتيجة هذا الذي بين يديكم الآن، وأي محاولة مثالية لتجاوز الحديث عنه، لن تسهم في تخطي الماضي ؛ بقدر ما ستواصل تشويش المستقبل.
أعلم أن فيكم طيبين يتمنون تجاوز إرث الماضي، أنا طيب مثلكم وأمنيتي متطابقة مع أمنيتكم؛ لكن الطيبة صفة غير فعالة في معرض الحديث عن مصائر الشعوب ودراما التأريخ. ومهما غضينا الطرف عن حقائق الماضي، ستقفز الحقائق وتعاود دورانها وفاعليتها. حقيقة أن نموذج صالح كان فاشلًا بكل المعايير، ولن نتجاوز واقعنا سوى بتجاوز ميراثه وليس إعادة نفخ الروح في جثته.
زمن الانهيار الشامل؛ يستدعي تصورات شاملة وحلولًا جذرية، هذا الانهيار هو نتيجة لمشوار طويل من الخدع المتراكمة، خدع صالح وطريقته في الحكم، ولا جدوى من مواصلة تلفيق الواقع بنفس المنطق القديم.
فشل خصوم صالح في انجاز نموذج أفضل منه؛ ليس شهادة على دهاءه، هل كان أفضلًا؛ كي تطالبوا بأفضل منه، كان أفضل لشلة صغيرة. وكان المجموع معذب بأسوأ مما عليه الآن.
والآن ومع كوننا في أزمة مفتوحة منذ عشر سنوات؛ لكن مستوى الحياة أفضل مما كان عليه بزمن صالح. ولولا الحرب لكان مستواها تضاعف بشكل أفضل بصرف النظر عن غياب صالح أو حضوره وعن فشل خصومه وفشله..الناس يتدبرون حياتهم وتتطور الحياة بمعزل عن الدولة وقد كانوا كذلك منذ البداية، ولا علاقة لصالح بذاك الاستقرار الهش في زمنه.
يريدوننا أن نتخلى عن حلمنا، وليسوا مستعدين للتخلي عن تشبثهم بجثة، يدينوننا لأننا خرجنا باحثين عن مستقبل لنا ولهم، ولا يدينون أنفسهم حين يحنون للماضي، الماضي الذي أنتج لنا كل هذا ويعتبرونه مثالًا يستحق التباكي عليه.
إذا كانت محاولتنا في التغير قد تعثرت؛ فتعثر التجربة لا يعني خطأ الفكرة. هذا فضلا عن كوننا لم نأخذ مساحتنا الزمنية الكافية للتجريب وما نزال متمسكين بالفكرة ونزعم أن لدينا ملامح مشروع للغد، إن لم يكن جاهزًا ومكتملًا فهو مشروع مفتوح ويتشكل للمستقبل؛ لكنهم بالمقابل، أخذوا فرصة تاريخية كاملة وفشلوا كتجربة؛ وانتهى بهم الحال بلا مشروع ولا فكرة، باستثناء الدوران حول جثة الزعيم.
دعوا هذا الخراب يمضي حتى النهاية، هو انفجار حدث وما يزال يتفاعل، ومن وسط هذه التوترات والحطام، ستولد دورة تأريخية جديدة. فأي محاولة لتغير وضع سيء، لا تعيق المستقبل ولو فشلت، هي دوما حركة دافعة نحو الغد.
هناك شيء وحيد سيعيق أي ميلاد جديد لهذه الأمة، هو محاولة إعادة الامساك بالماضي، وهي محاولة لا جدوى منها سوى إطالة زمن العجز الراهن واستدامة التشوهات الموروثة، لكأن زمن أربعة عقود لا تكفي ليعيدوا الكرة ثانية ويستنزفوا عمر جيل أخر ، لكأن هذا الواقع المخيف ليس برهانًا قاطعًا على تفاهة النموذج المحتفل به؛ كي يضللونا مرة ثانية. لكأن الخراب التأريخي الحاصل؛ هبط فجأة من السماء وليس نتاجًا طبيعيًا لتفاعلات سياسية طويلة وبنى مؤسسية مشوهة، حياة سياسية مختلة، نخب فاشلة، روابط مجتمعية هشة..
انصهرت وأنتجت لنا كل هذا..وهاهم يحتفلون بها، إنه سلوك مستفز ولا أريد أن أقول وقح، إنها حيلة البؤساء وعاثري الحظ فحسب.