لم تكن المقابلة الصحفية التي أجراها الشيخ أحمد بن صالح العيسي، وهو أحد الأقطاب السياسية والتجارية الكبرى في اليمن (الآن وسابقاً) لتمر مرور الكرام، خاصة مع ما يحظى به العيسي من مكانة سياسية واجتماعية مرموقة في اليمن زاد بريقها وزاد الجدل الدائر حولها بعد الإنقلاب الحوثي على السلطة اليمنية في صنعاء في 21 سبتمبر 2014م وتمدده إلى معظم المحافظات اليمنية.
المقابلة كانت حديث الشارع المحلي اليمني، وبعد مطالعتها بعناية يدرك المرء أنها أثارت الكثير من الجدل المحموم داخل أروقة الغرف المغلقة للمسئولين اليمنيين بعد أن كشفت أسراراً خطيرة وفتحت ملفات فساد كبير ينخر الحكومة اليمنية بداية من رأس الهرم فيها، رئيس الوزراء معين عبدالملك.
والأكيد هنا هو أن الشيخ العيسي الذي تعرض لسنوات لحملات تشويه ممولة ومنظمة قد فتح النار على الجميع بلا استثناء وهو ما يدعو بداية للاستغراب كون العيسي في الأصل تاجر ورجل أعمال كبير، والمال كالسياسة جبان يتجنب المكاشفة أو المواجهة أو خلق الأعداء، لكن المتابع لشخصية العيسي وسيرته وتحركاته وعلاقاته يدرك أن الرجل لا تقيده حسابات الربح والخسارة ولا تعيقه مصالح السياسة وعلاقاتها عن اتخاذ موقف وطني صادق وشجاع، وما موقفه من جماعة الحوثيين في صنعاء أو المجلس الانتقالي في عدن إلا دليل دامغ على ذلك.
قبل قراءة المقابلة ساورني بعض القلق من أن يكون العيسي الذي خاض غمار السياسة عبر إطلاقه ائتلاف الوطني الجنوبي، قد يكون سيّج نفسه بتلك الديبلوماسية (الممقوتة) التي يتكوّر فيها السياسيون كشرنقة معلقة على غصن مهترئ فوق مستنقع، خوفاً من خلق عداوات أو إثارة غضب، لكنه فاجأني بشدة كما فاجأ أصدقاءه وصدم أعداءه.. من السطر الأول للمقابلة ومن أول حرف فيها تستشف تلك الروح اليمنية الوثابة والمتحدية والتي لا تكترث لغضب عدو ولا حنق صديق، وتختار طريق المكاشفة والوضوح والشفافية، وهي طريق لا يسير فيها إلا الشرفاء ذوو البطون النظيفة والحياة التجارية والسياسية الشريفة.
مثلاً حينما يسأله الصحفي عن تجارته مع الإمارات لا يخجل العيسي من التأكيد على أنه يتعامل معها تجارياً، لكنه تعامل الرجل الحر والنزيه الذي مولت الإمارات تقريباً جميع حملات التشويه بحقه، وحاولت أيضاً تصفيته جسدياً، لكنها بعد كل ذلك تأتي إليه لتشتري مؤونة قواتها وأتباعها في جنوب اليمن. وقد كان العيسي موفقاً للغاية حينما كشف قضية التجار اليمنيين الذين اعتقلتهم الإمارات لتعاملهم مع إيران، ليختم ذلك بتحدٍ صارخ: أتحدى أن تثبت أبوظبي ما تتهمني به، ولو كان بيدها أي دليل لأغلقت مكتبي في دبي، كما فعلت مع غيري.
لكنني هنا أود التنويه أيضاً إلى براعة الرجل في تصويب بندقيته بدقة تجاه خصومه، فهو حينما قام الصحفي بسؤاله عن سبب الخلاف الكبير مع رئيس الوزراء عبدالملك، قام بعمل ذكي: تأطير الخلاف ضمن قالب وطني. وهنا تحديداً يقول العيسي بالنص – كما ورد في المقابلة: “خلافنا مع معين ليس لأنه رئيس حكومة أو لأنه مقصر، ولكن كونه تاجراً، لذا نحمله جزء من الفساد”، قبل أن يقيم الحجة على رئيس الوزراء ويرمي الكرة في ملعبه بسرده لتفاصيل خطيرة وحساسة عن تورط معين في شبكة تجارية كبرى، من ضمنها مؤسسات تجارية تعمل مع الحوثيين في صنعاء، إذ تتمحور مهمته في تسخير كل مقدرات الدولة لخدمة أولئك التجار الذين يدفعون ضرائبهم للحوثي.
وحينما سئل عمّن يرشحه لتولي رئاسة البلاد اختار الإجابة التي تتوافق مع شخصيته واعتزازه الكبير بنفسه وثقته في مقدرته على تحمّل هذا المسئولية، وهي إجابة تكشف بحق قوة شخصية العيسي التي جعلت من داره في القاهرة وفق ما يؤكده كاتب المقابلة، مقصداً للكثير من الشخصيات الاعتبارية اليمنية، من قادة عسكريين وسياسيين وأعضاء مجلس النواب وشيوخ قبائل، وغيرهم.